توطدت علاقتي بصيدلي مثقف يخدم في كنيسة قائمة بإحدى ضواحي القاهرة. ولما تعرف على خدمتي السابقة بإحدى كنائس شبرا مصر، كأمين عام للخدمة في مطلع التسعينيات، وعلى أثر مناقشات جريئة في معطبات التعليم الكنسي والنقد الديني، دعاني لإلقاء محاضرة على اجتماع الخدام والخادمات بكنيسته، وترك لي اختيار الموضوع.

وقع اختياري على موضوع كنت منشغلًا به آنذاك، وهو: فيم يكون المؤمنون شركاء مع الله؟ وقدمتُ له عنوان المحاضرة: شركاء مع الله، التي كانت بحثًا لاهوتيًا مصغرًا في الكتاب المقدس والتراث اللاهوتي عن الشركة مع الله. وكان أحد مراجعي المهمة كتابًا للأب متى المسكين، بعنوان: الإيمان بالمسيح. وكانت مقدمة الكتاب، التي لم تزد عن اثنتي عشرة صفحة من القطع الصغير، كانت بالنسبة لي حينها قطعة ذهبية في اللاهوت المسيحي، الذي يُؤصل للفهم الكتابي للتثليث والتوحيد، خاصة فيما يرتبط بالعلاقة الأزلية بين الأبوة والنبوة، والحياة القائمة الفعالة المنبثقة من الآب لتنصب في الابن، التي صنعت مماثلة قوية بعلاقة الأبوة بالنبوة في الذات البشرية.

وكنتُ قد استعنت بمقدمة كتاب الإيمان بالمسيح للأب متى المسكين، في شرح أحد محاور محاضرتي. وكان لابد من ذكر مرجعي في ذلك، كعادتي في البحث العلمي النزيه، حفاظًا على الحقوق الفكرية والأمانة العلمية.

وإذ بلغتُ هذا الحد في محاضرتي التي حضرها آباء الكنيسة الثلاثة، وقف كبيرهم وانتزع الميكروفون من يدي ليخاطب جمهور الخدام والخادمات أمامي قائلًا: سيادته ذكر اسمًا لم يُذكر في هذه الكنيسة منذ خمسة وعشرين عامًا، ولن يُذكر ثانيةً البتة، وكل كتب هذا الاسم مُحرّمة، والرجوع إليها خطيئة كبرى ضد الكنيسة وضد الأرثوذكسية. وكأنه بذلك يدفع عن نفسه وعن كنيسته تهمةً نكراء بشعةً تضعه رغمًا عنه في قفص الاتهام، فأخذت الميكروفون منه وعقّبت: في حدود علمي لم يُصدر بيانٌ كنسّيّ، بابويّ أو مجمعيّ، يُحرّم كتب ، ولا يمكن في مسألة توقيع الحرم على كل كتبه أن يؤخذ بكلامٍ تتداوله الشفاه نقلًا واحدًا عن واحدٍ، وإذا صحّ هذا الكلام فهو ليس إلا عودة إلى محاكم التفتيش والجهل.

أكملت مُحاضرَتِي في جو مُكْفَهِرّ، وقد تكدرت تمامًا، وتكدَّر العديدون أيضًا من المستمعين لمحاضرتي. لم أكن قد وقفت حتى هذه اللحظة على عمق الأزمة التي واجهت الأب متى المسكين. أو قل عمق الصراع الذي تعيشه آنذاك. وانتبهتُ بعد ذلك إلى تعقب هذا الصراع في وجوهه المختلفة، فإذا بأهوال الانقسام والتكفير والقذف بالهرطقة، وروح محاكم التفتيش تتبدى أمامي وأنا غائب عنها.

لقد تفتحت عيون جيلي على كتابات الأب متى المسكين، بوصفها ملاذًا للرصانة الفكرية في العرض الديني لأفكار اللاهوت والإيمان. وكان المثقفون منا يجدون ضالتهم في أسلوبه الذي يحترم عقل القارئ بنسق فكري يعتمد الكتابة الجادة، والتعبيرات غير المستهلكة، والاجتهاد الواضح في تقديم العقل. ولذلك أحبه طلائع الخدام والخادمات في جيلي، ونظروه معلمًا فكريًا لاهوتيًا وروحيًا جليلًا.

كان الأب متى المسكين قد نجح في تحويل ببرية شيهيت إلى قلعة للفكر الديني والريادة العقلية للروح والإيمان، واستطاع أن يؤسس مدرسة فكرية وبحثية متقدمة في قضايا الإيمان واللاهوت. وقد ترابط أعضاء هذه المدرسة ترابطًا متسقًا، كالتماسك في هارمونية، لإبداع بحوث معمقة، فتتابعت الكتب المرجعية الموثقة في الصدور لتشبع نهم المتعطشين إلى البحث العلمي اللاهوتي والديني الرصين. وراحت رفوف المكتبة القبطية تزخر بأعمال تمتاز بالجدية والعمق، بدءًا من (١٩٥٢)، مرورًا بـالقديس (١٩٨١)، وانتهاءً بـشرح الرسالة الأولى للقديس (٢٠٠٤)، ومع المسيح (أربع مجلدات صدرت في الفترة ما بين  ٢٠٠٥ إلى ٢٠٠٦). وكان يوظف تلامذته النبهاء من الرهبان في تجهيز الترجمات والتوثيق والمباحث اللازمة لإعداد هذه الكتب، التي يضع هو عليها في النهاية بصمته الفكرية المميزة في الصياغة اللفظية، والمنطق الكتابي، والرؤية الروحية، والإدراك اللاهوتي، والرسالة العقلية، والتصحيف والتبويب.

بين الإيمان والهرطقة: من أين عقروه؟

في جميع كتاباته، كان الأب متى المسكين يحاول دائمًا تجديد الصياغات الموروثة من الجيل الآبائي الأول، التي لم يجرؤ على الخروج منها أي مفكر ديني أرثوذكسي حتى بدأ هو الكتابة. وفي كتابته كانت قدرته اللغوية وثقافته الكتابية والعامة رائدةً في التعبير الكتابي واللاهوتي، الذي عمد كذلك إلى تجديده. لكنه في غمرة سعيه لتجديد التعبير الروحي واللاهوتي، وفي مطاوعته لرغبته العارمة في الإبداع الذي يكسر رتابة الكليشيهات المحفوظة، التي فقدت جدتها وفاعليتها عبر الاستخدام المتواتر، وصارت تعبيرات مسكينة فارقتها الحياة، أقول: في غمار محاولته بث أقوال جديدة لم يفسدها الترديد المتكرر، وابتكار صياغات محدثة بنضارتها الأولى، فاته أن مساحة الإبداع في التعبير اللاهوتي محدودة جدًا، وأن سليقة الإبداع الأدبي لا تفعل فعلها في اللاهوت كما في الأدب الديني أو التأملات.

هنا سقطت منه تعبيرات لاهوتية غير دقيقة عديدة، أخذوها عليه وعقروه بها. فمن أغرب الاتهامات التي وجهت إليه الاتهام بالهرطقة، الذي أراد مخالفوه ومبغضوه أن يلصقوه به ليقضوا به على تاريخه الروحي واللاهوتي والرهباني كله، ويقتلوا به أثره الذي تركه في كتاباته لتجديد الفكر والوعي الكنسي. وهو تاريخ لا يناقضه إلا مكابر، ولا ينقضه إلا جهول، ويحتفي به العالم كله الذي نُقلت إليه الترجمة جلّ الإنتاج الفكري والروحي واللاهوتي للأب متى المسكين.

ولقد أمسكت ب التي تصدر عن المقر البابوي أيام احتدمت حرب الاتهام بالهرطقة على الأب متى المسكين، وهي المجلة التي نشرت سلسلة مقالات هجومية اتهامية متجنية أطلقها عليه السوط اللاهب الطاغية بالمفتريات الكنسية التي طالت الكثيرين في ذلك الوقت الحزين. السوط اللاهب الطاغية، الأسقف الذي وضعته المقادير الظالمة على رأس فريق محكمة التفتيش، ليلهب باتهاماته الباطلة ظهر الأمناء المجتهدين، ويقصيهم عن الكرامة الكنسية، ويشوه شخوصهم، وينال منهم، ويحذفهم باتهامات الهرطقة من سِفر التاريخ.

أقول أمسكت بمجلة الكرازة لأُمعن في إحدى مقالات القذف بالهرطقة اللاهوتية للأب متى المسكين، فوجدت أن ما يربو على 95% منها لا يزيد على كونه مماحكات لفظية، و5% الباقية محاولاتٌ للأب المسكين في التجديد اللاهوتي، فأُغلق عليه الفخ!!

لكن الذين عاصروا الأحداث السياسية التي مرت بها مصر في السنوات الأخيرة من حكم ال، يدركون أن “العقرة اللاهوتية” التي عُقِرَ بها الأب متى ربما تعود في الأصل إلى “العقرة السياسية” التي ظنوا أنه جرحهم بها، وهو منها براء.

فلقد أراد الرئيس السادات وجهًا وجيهًا في ال القبطي يتعامل معه بديلًا عن بابا القبط الذي زج به في الإقامة الجبرية آنذاك بأحد الأديرة على سبيل الاعتقال، ووجد في الأب متى المسكين ضالته المنشودة. انطلاقًا من الفكرة التي سادت منذ حركة يوليو للضباط الأحرار، التي اعتبرت الأقباط مجرد “ملف أمن دولة” محفوظ في أدراج العنصرية، ومفتاحه الوحيد هو البابا. فإذا تمت السيطرة عليه، تمت السيطرة على الأقباط جميعًا، لأنه الإمام الأوحد الذي يدينون له بالولاء، ويقدسه القبط تقديسًا مهولًا لوضعه الديني على رأس الكنيسة، بقوة تراث ديني مهول يغرس فيهم أنه ممثل المسيح على الأرض، حسب التلقين المغلوط والتقليد الديني العقيم المتوارث في التعظيم الأخرق للإكليروس، خصمًا من التمجيد الوحيد اللائق بالسيد المسيح.

لكن الأب المسكين كان أمينًا للبابا وللكنيسة، فأفهم رئيس البلاد أن البابا لا يمكن لأحد من الإكليروس أن يحل محله أو يقوم مقامه مهما كانت الظروف طالما هو حي على رأس الكنيسة، واقترح عليه مجلسًا من خمسة أساقفة لإدارة شؤون الكنيسة في غيبة البابا، لا يكون المسكين نفسه واحدًا منهم، وهو ما أخذ به الرئيس السادات.

لكنهم أحكموا ظنونهم الفقيرة حول الأب المسكين، متهمين إياه بالتقرب إلى رئيس البلاد على حساب البابا، وبأنه قد عقرهم “عقرة سياسية” انتقموا منه بعدها بعقره “عقرتهم اللاهوتية”، رغم شهادة الكثيرين حينها بأن تقربه من رئيس البلاد قد أعفى الكنيسة والشعب القبطي الكثير من الويلات.

بين الواقع والأسطورة: التهويل والتهوين

عاش الأب متى المسكين رجلًا طبيعيًا مسيحيًا ملتزمًا، يحاول أن يجتهد في محيطه بنشر رسالة الحداثة والاستنارة الروحية، واجتهد أكثر في تجسيد رؤاه الفكرية والروحية في الواقع. كان يرى في نفسه صاحب رسالة، محملًا بواجب مهم، عليه أن ينفذه في الواقع الكنسي الذي ينتظر النهضة. فجدد في الرهبنة بديره، على مثال التجارب التاريخية الأولى التي عكست مجد المدرسة اللاهوتية بأيدي اللاهوتيين الكبار أمثال وإ، مرتكزًا على أسس البحث والدرس والفاعلية الفكرية والروحية. فطبع الرهبنة في دير أبي مقار بطابعه المجدد.

وقد صدر ذلك عن رؤية تجديدية للرهبنة القبطية، تُخرجها من الأمراض المزمنة التي حاقت بها عبر التاريخ، التي لم تدم طويلًا للأسف بفعل التربص العدائي ضده من قِبل أقطاب الكنيسة، الذين استشعروا خطرًا عليهم من جراء محاولته التجديدية، فعمدوا إلى تخريب تجربته وتشويهها، بزرع شيطاني في ديره ببعض لاعبي الرهبنة التقليدية، فنخروا بأمراضها المزمنة عظام التجديدية في الدير العتيق. ولقد قادته تجربته في تجديد الرهبنة القبطية في دير أبي مقار إلى تجربته الثرية في التجديد اللاهوتي القائم على البحث والدرس والتأصيل العلمي للفكر الديني، مستعينًا في ذلك بمدرسته الفكرية اللاهوتية ذاتها التي أراد أن يطبع بها الحياة الديرية في دير أبي مقار.

ولكنه كرجل طبيعي، كانت له بعض الأخطاء المنهجية والإدارية. فقد ساق الرهبان في الدير -على سبيل المثال- على نحو لم يجعل من المساواة في التعامل هي الراية التي ترفرف على الدير كله. حتى أنه قهر ثلاثة من الرهبان على الفرار من الدير في منتصف الليل سيرًا على الأقدام من برية شيهيت إلى القاهرة، وكان واحد منهم من أعز أصدقائي، ومن المقربين جدًا إليه.

ولقد حابى كذلك وجوهًا عديدة لأجل مطامح وضعية مختلفة. أما أن تدور ماكينة التعظيم الرهيبة، فتظل تدور وتدور حتى ترفعه إلى القداسة التي تتصاغر أمامها كل النفوس. فيبدأ صنع الأسطورة الشعبوية، التي يصير بمقتضاها الشخص الطبيعي شخصًا خياليًا لا يمكن لعقل بشر أن يدركه، لمجرد انخراطه في الرهبنة. فذلك هو بعينه الجنون الذي عمل في الكثيرين منذ ألفي سنة مضت حتى اليوم، وهو الجنون الذي آن له أن ينتهي الآن وإلى الأبد وإلى غير رجعة!!

والظاهر أنه من حسن المقادير أن الخلاف عليه لم يُعجل بصنع خرافة القداسة حوله إلا بين البعض من مريديه، الذين تسوقهم جسدانيتهم الطبيعية إلى تعظيمه، ليتحصنوا في قداسة تخيلية يقحمونها عليه، ليكونوا هم أيضًا تلاميذ القداسة. وجه آخر من الخبل الروحي حتى بين المثقفين!!

على أن المقادير الحسنة في عصرنا الراهن، التي ألمّت بنا على رؤوس كل الأشهاد، قد أشهدتنا كذلك على كيفية صناعة أسطورة القداسة حول أناس عاديين عاشوا بيننا وعاصرنا نقائصهم المدمرة، التي ما فتئت تتحول إلى قداسة خادعة مزعومة بمجرد رحيلهم، بصناعة رخيصة مبتذلة من مُناصريهم، الذين رأوا أن قيمتهم الذاتية تتعاظم بصنع الأسطورة الخيالية والتمسح بها. ينطلقون في ذلك من إرث هائل يحوطهم ويدفعهم، تسلّموه بأساطير القداسة المنسوجة على غياهب التاريخ.

بل إن من بين هؤلاء الناس العاديين الذين عاشوا بيننا من ثبت عليه خلال التحقيق بين الرهبان في جريمة قتل أنه عاش الدنس والزنا والشذوذ والمتاجرة الخسيسة بالمال والعلاقات المخزية. ثم عند موته، وقف أسقف خطير بحجم أسقف أورشليم ليملأ الدنيا بخداعية مذهلة في صنع القداسة الملعونة، فادعى أن أحد معارفه أبلغه أنه رأى في منامه أن السماء مفتوحة تستقبل هذا الراهب الراحل -لأنه تاب- بجيوش المنتقلين، وعلى رأسهم السيدة العذراء مريم، ليصرخ ملايين المغيبين المخبولين بأحلام القداسة الملعونة: “يا للقديس العظيم”! هكذا يتضافر الجهل والجسدانية والخبل المقدس في صنع أسطورة قداسة لأناس عاديين عاصرناهم بين ظهرانينا، ولم يظهر دليلٌ عليهم يومًا على تلك القداسة الخيالية.

لكن الأب الجليل متى المسكين سيبقى له مجده المحفوظ في التاريخ، بأنه المفكر المجدد في الكنيسة القبطية، واللاهوتي الأرثوذكسي المجتهد، صاحب التنبيه الفاعل للعقل القبطي المعاصر من غفلته التي طالت ردحًا كبيرًا من الزمن. وسيبقى سفير الكنيسة القبطية الأرثوذكسية إلى كنائس العالم قاطبة، بكتاباته المترجمة إلى لغات الأرض الحية في معاهد وكليات اللاهوت. كما سيبقى الراهب الذي ترك للرهبنة تجربته الواعية الواقعية لعهد جديد، قد تتطهر فيه مما علق بها منذ تأسيسها حتى اليوم من مثالب وأوجاع.

إن أعظم تكريم للأب متى المسكين هو الاحتفاظ به رجلاً طبيعيًا أمينًا مجتهدًا لله وللكنيسة، بعيدًا عن اتهام القداسة التي تخلعه من عالم الرواد إلى عالم الافتراء على الله.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

ماهر عزيز
استشاري الطاقة والبيئة وتغير المناخ   [ + مقالات ]
‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎