يتبع دير سانت كاترين الكنيسة اليونانية المستقلة عن كنيسة أورشليم [القدس]. نحاول في هذا التقرير تعقّب التغيرات القومية وتبدّل الزعامة الروحية لهذه الكنيسة -التي يُفترض أنها عابرة للحدود الوطنية- واضعين الأمن القومي المصري في عين الاعتبار.
قبل اندلاع الحرب اليهودية الرومانية الأولى (٦٦-٧٣م) وتدمير الهيكل الثاني (٧٠م) على يد تيتوس فلاڤيوس، فرّ المسيحيون بقيادة سمعان بن كلوبا إلى منطقة إربد في الأردن، حيث مكثوا حتى عام ١٣٥م.
بالتوازي، ثار يهود يهوذا مرة أخرى ضد روما في ثورة شمعون بار كوخبا (١٣٢-١٣٦م)، وتزامن ذلك مع عودة المسيحيين إلى القدس. ولمعاقبة اليهود على تمردهم، أصبحت أورشليم مستعمرة رومانية، وأطلق الإمبراطور هادريان عليها اسم: إيليا كابيتولينا
.
أيضًا في عام ١٣٥م، عُيّن متروبوليت قيسارية ماركوس أول أسقفٍ للكنيسة التي أُعيد تسميتها كنيسة إيليا كابيتولينا. وكان أول أسقفٍ يهوديٍّ [1] لكنيسة أورشليم أو (إيليا كابيتولينا)، وكل من سبقه في القيادة وإن كان لم ينل درجة الأسقفية، إلا أنهم كانوا يهودًا.
واصل مطران قيصرية تعيين أساقفة إيليا كابيتولينا. يقدم يوسابيوس القيصري أسماءً متعاقبةً غير منقطعة لستة وثلاثين أسقفًا من أورشليم حتى عام ٣٢٤م. كان أول خمسة عشر من هؤلاء الأساقفة يهودًا [2]، والباقي من الأمم [3].
١. لم أجد في أي مكان قائمة مكتوبة بأسماء أساقفة أورشليم، لأن الروايات المتواترة تقول أنهم جميعًا لم يعمروا طويلًا.
٢. ولكنى علمت من بعض الكتب أنه إلى وقت حصار أورشليم الذي تم في عهد هادريان [١٣٥م]، تولى الأسقفية فيها ١٥ أسقفًا بالتتابع، وقيل أنهم من أصل عبراني، وأنهم قبلوا معرفة المسيح نقية، ولذلك أعترف بهم من كان في قدرتهم الحكم على هذه الأمور، وحسبوا جديرين بمركز الأسقفية، لأن كنيستهم بأكملها كانت تتكون وقتئذ من مؤمني العبرانيين الذين ظلوا من أيام الرسل حتى الحصار الذي حدث في هذا الوقت، والذي غلب فيه اليهود بعد مواقع قاسية إذ كانوا قد تمردوا ثانية على الرومانيين.
٣. ولكن لأن أساقفة الختان [يقصد اليهود] لم يعد لهم وجود منذ ذلك الوقت فمن المناسب هنا أن نقدم قائمة بأسمائهم منذ البداية: الأول يعقوب الملقب أخو الرب، الثاني سمعان، الثالث يسطس [قال عنه إبيفانوس أنه يدعى يهوذا]، الرابع زكا، الخامس طوبيا، السادس بنيامين، السابع يوحنا، الثامن متياس، التاسع فيلبس، العاشر سينكا، الحادي عشر يسطس، الثاني عشر لاوي، الثالث عشر أفريس، الرابع عشر يوسف، وأخيرًا الخامس عشر يهوذا.
٤. هؤلاء هم أساقفة أورشليم الذين عاشوا بين عصر الرسل والعصر المشار إليه، وكلهم كانوا من أهل الختان [اليهود].(يوسابيوس القيصري، تاريخ الكنيسة، ك٤، ف٥)
١. وفى هذا الوقت كان نركيسوس أسقفًا على كنيسة أورشليم، ولا يزال معروفًا عند الكثيرين إلى هذا اليوم، وكان هو الخامس عشر منذ حصار اليهود في عهد هادريان، وقد بينا أنه من ذلك الوقت كانت كنيسة أورشليم مكونة من الأمميين، بعد أن كانت مكونة من أهل الختان [اليهود]، وأن مرقس كان أول أسقف أممي ترأس عليهم.(يوسابيوس القيصري، تاريخ الكنيسة، ك٥، ف١٢)
في مرسوم صادر عن الدورة السابعة لمجمع خلقيدونية عام ٤٥١م، رُقي أسقف إيليا كابيتولينا إلى رتبة بطريرك، واحتلّ المرتبة الخامسة بعد كرسيّ روما، والقسطنطينية، والإسكندرية، وأنطاكية (البطريركيات الخمس). ومنذ ذلك الحين، ظلت كنيسة إيليا كابيتولينا كنيسة مستقلة.
احتَلَّ الفرس إيليا كابيتولينا عام ٦١٤م، وأَسروا البطريرك زكريا، إلى جانب الصليب المقدّس. وفي عام ٦٣٧م، بعد فتح إيليا كابيتولينا، سلّم البطريرك صفرونيوس إيليا كابيتولينا إلى الخليفة عمر بن الخطاب. وحصل على العهدة العمرية عام ٦٣٨م وتغير اسم الكنيسة من إيليا كابيتولينا إلى كنيسة بيت المقدس [4].
في الانشقاق العظيم عام ١٠٥٤، انضم بطريرك بيت المقدس إلى أنطاكية والقسطنطينية والإسكندرية ككنيسة أرثوذكسية شرقية. يخضع جميع المسيحيين في الأرض المقدسة لسلطة بطريرك القدس الأرثوذكسي.
في عام ١٠٩٩، احتلّ الصليبيون بيت المقدس، وأقاموا مملكة القدس، وأسّسوا هرميةً لاتينيةً تحت قيادة البطريرك اللاتيني، وطردوا البطريرك الأرثوذكسي. أقام البطريرك اللاتيني في القدس من ١٠٩٩ إلى ١١٨٧، بينما استمرّ تعيين البطاركة اليونانيين، لكنّهم أقاموا في القسطنطينية. وفي عام ١١٨٧، أُجبِر الصليبيون على الفرار من القدس، فعاد البطريرك الأرثوذكسي إليها. واستمرّت الكنيسة الكاثوليكية في تعيين بطاركة لاتين.
الانقسامات الأخيرة
في عام ٢٠٠٥، حدثت أزمة في كنيسة القدس عندما تم عزل البطريرك إيرينيوس الأول من منصبه بعد بيعه ممتلكات الكنيسة في القدس الشرقية لمستثمرين إسرائيليين [5]، [6]. في ٢٢ أغسطس ٢٠٠٥، انتخب المجمع المقدس لكنيسة القدس بالإجماع ثيوفيلوس الثالث، رئيس أساقفة جبل طابور، بطريرك القدس المائة واحد وأربعين [7].
لبعض الوقت، امتنعت الحكومة الإسرائيلية عن الاعتراف بثيوفيلوس كبطريرك جديد، واستمرت في الاعتراف بإيرينيوس فقط كبطريرك. تم انتقاد هذا الموقف باعتباره تحديًا للقرار الإجماعي من قبل ممثلي جميع الكنائس الأرثوذكسية الشرقية المجتمعين في الفنار بدعوة من بطريرك القسطنطينية المسكوني، بسحب الشركة من إيرينيوس والاعتراف بانتخاب ثيوفيلوس الكنسي.
رفض إسرائيل الاعتراف بدور البطريرك أعاق قدرته على مقاضاة الحكومة الإسرائيلية. يُزعم أن أصل النزاع هو جزء من محاولة استمرت أربعين عامًا من قبل منظمات المستوطنين والسياسيين الإسرائيليين لفتح حيازات واسعة من الأراضي للبطريركية تقدر بمئات الملايين من الدولارات. ذكرت الصحف الإسرائيلية أن كبار المسؤولين في الحكومة الإسرائيلية ربما تورطوا في صفقة عقارية احتيالية مع البطريرك المخلوع إيرينيوس ويخشون عواقب الإجراءات القضائية.
في عام ٢٠٠٦، رفضت إسرائيل تجديد التأشيرات للعديد من رجال الدين اليونانيين، مما هدد بإحداث أزمة خطيرة داخل كنيسة القدس، حيث أن معظم الرهبان مواطنون يونانيون. تقدم البطريرك ثيوفيلوس بطلب إلى المحكمة الإسرائيلية العليا. كان من المقرر صدور قرار في منتصف عام ٢٠٠٦ ثم في يناير ٢٠٠٧، لكن الحكومة الإسرائيلية طلبت مرارًا مزيدًا من التأخير في القضية. ذكرت صحيفة هاآرتس الإسرائيلية في فبراير ٢٠٠٧ أن الحكومة الإسرائيلية عرضت الاعتراف بثيوفيلوس إذا تخلى عن السيطرة على العديد من الممتلكات القيمة وباع ممتلكات الكنيسة للإسرائيليين فقط [8].
في مايو ٢٠٠٧، ألغت الحكومة الأردنية اعترافها السابق بثيوفيلوس الثالث، ولكن في ١٢ يونيو ٢٠٠٧، عكست الحكومة الأردنية قرارها وأعلنت أنها اعترفت رسميًا مرة أخرى بثيوفيلوس بطريركًا. كما دعا رئيس أساقفة سبسطية ثيودوسيوس (حنا) إلى مقاطعة ثيوفيلوس [9].
في ديسمبر ٢٠٠٧، منحت الحكومة الإسرائيلية ثيوفيلوس الثالث الاعتراف الكامل [10].
تستبعد هيمنة الإثنية اليونانية في التسلسل الهرمي للكنيسة الأغلبية العربية من مراتبها العليا. كانت هذه نقطة خلاف لا نهاية له داخل الكنيسة وبين مؤيديها الخارجيين، مع دعم اليونانيين من قبل الحكومة اليونانية وإسرائيل وبطريرك القسطنطينية المسكوني الذي يتخذ من تركيا مقرًا له، في مواجهة رجال الدين الفلسطينيين الأصليين، الذين يسعى بعضهم إلى لتأميم قيادة الكنيسة.
بطريركية الروم الأرثوذكس في القدس هي ثاني أكبر مالك للأرض في إسرائيل، بعد الحكومة الإسرائيلية مباشرة. اشترت الكنيسة اليونانية معظم أراضيها من الإمبراطورية العثمانية خلال القرن التاسع عشر. في الخمسينيات، بعد وقت قصير من استقلال إسرائيل، وافقت البطريركية اليونانية على تأجير معظم أراضيها في إسرائيل للحكومة الإسرائيلية لمدة ٩٩ عامًا، مع خيار التمديد. حتى البرلمان الإسرائيلي،الكنيست، بُني على أراض مملوكة للكنيسة الأرثوذكسية اليونانية.
تشمل ممتلكات بطريركية الروم الأرثوذكس أيضًا مبانٍ تاريخية في البلدة القديمة بالقدس، بما في ذلك فنادق الإمبراطورية والبتراء، داخل باب الخليل في البلدة القديمة، فضلًا عن مناطق واسعة في الأراضي الفلسطينية.
في العام ٢٠٠٥، تم الكشف عن أن البطريرك إيرينيوس باع أراضي مملوكة لبطريركية الروم الأرثوذكس في القدس الشرقية لليهود الذين يسعون إلى زيادة وجودهم في منطقة ذات أغلبية عربية. يُعرف غالبية المسيحيين الأرثوذكس في القدس انفسهم بأنهم فلسطينيون.
في يوليو ٢٠١٧، كشفت صحيفة إسرائيلية النقاب عن صفقة سرية بيعت بموجبها أراض وقفية في أحياء غربي القدس تتبع الكنيسة الأرثوذكسية لبلدية الاحتلال بالمدينة، التي بدورها ستخصصها لمستثمرين يهود. كذلك، توجه للبطريرك ثيوفيلوس الثالث اتهامات بالمشاركة ببيع ما يعرف بصفقة باب الخليل، وتشمل بيع فندقي البتراء والإمبيريال الواقعين في ساحة عمر بن الخطاب في باب الخليل بالقدس المحتلة، وما يتبع لهذه الفنادق من محال تجارية في المباني نفسها، بالإضافة إلى عقارات أخرى داخل البلدة القديمة تتبع أوقاف البطريركية.
في القدس ارتبط اسم ثيوفيلوس بعدد من صفقات بيع لأوقاف تابعة للكنيسة أو تأجيرها للاحتلال، واتهم ببيعها بصفته المسؤول عن هذه الأوقاف [11].
يهود؟ أم فلسطينيون؟ أم يونانيون؟
استحوذ اليونانيون على منصب البطريرك منذ استقالة آخر بطريرك عربي فلسطيني في عام ١٥٤٣، وهو البطريرك دوروثيوس الثاني الذي كان يُعرف باسم عطا الله باللغة العربية، وحل محله البطريرك جرمانوس وهو يوناني من موريا تظاهر بأنه عربي بسبب معرفته الدقيقة باللغة العربية. بدأ جرمانوس تحويل بطريركية القدس إلى كنيسة هيلينية تدريجيًا عن طريق إزالة أسماء البطاركة العرب الذين خدموا سابقًا، وتعيين اليونانيين في المناصب العليا في الكنيسة، واستخدام اليونانية كلغة طقسية. كما اتخذ خطوات لضمان أن يكون خلفاؤه من اليونانيين من خلال إنشاء جماعة إخوان القيامة التي كانت عضويتها تقتصر على اليونانيين. تولى جرمانوس والبطاركة اليونانيون الذين خلفوه منصب البطريركية من مقر إقامتهم في القسطنطينية حتى عام ١٨٣٤، وفي ذلك العام تمت الموافقة على انتخاب بطاركة القدس المتعاقبين من قبل بطريرك اليونان في القسطنطينية، الذي استفاد من قربه من الحكومة العثمانية وتأثيره عليها [12].
كان المسيحيون العرب في فلسطين يُمثّلون حوالي ١٠٪ من السكان قبل الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٤، وينتمي معظمهم، أو ما يزيد عن نص عددهم تقريبًا، إلى بطريركية الروم الأرثوذكس. اعتبرت البطريركية التي هيمن عليها رجال الدين اليونانيون نفسها حارسًا على الأماكن المقدسة، وليست المرشد الروحي لعلمانيها العرب الذين مُنعوا في بعض الأحيان من أن يصبحوا رهبانًا ولم يكن لهم أي دور في الأعمال الإدارية أو المالية للكنيسة.
الحركة العربية الأرثوذكسية
بدأت الحركة العربية الأرثوذكسية في أواخر القرن التاسع عشر كحركة كنسية تضم المسيحيين الأرثوذكس الفلسطينيين والعرب في شرق الأردن، ثم تحولت لاحقًا إلى حركة قومية فلسطينية وعربية، وسريعًا ما دعمها ودافع عنها الكثير من المسلمين العرب. استلهمت الحركة أفكارها من تجارب تعريب سوريا والبطريركية الأنطاكية اللبنانية في عام ١٨٩٩، وسعت للتخلص من هيمنة اليونانيين الداعمين للحركة الصهيونية على بطريركية القدس، وتعيين بطريرك عربي علماني للسيطرة على ممتلكات البطريركية وتسخيرها لأغراض اجتماعية وتعليمية، كما دعت لاستخدام اللغة العربية كلغة طقسية. كانت بطريركية القدس قد تحولت إلى بطريركية هيلينية بالقوة في عام ١٥٤٣، بينما يزعم رجال الدين اليونانيون أن البطريركية كانت يونانية على مدار تاريخها [13].
احتجّ العلمانيون العرب على بطريركية القدس في أواخر القرن التاسع عشر، حتى اضطرّ العثمانيون في النهاية للردّ على هذه الاحتجاجات، متأثرين جزئيًا بالدعم الروسي لمطالب العلمانيين. فقامت الدولة العثمانية في عام ١٨٧٥ بإصدار قانونٍ منح حقوقًا ثانوية للعلمانيين العرب، لكنّه ضمن الهيمنة اليونانية على الكنيسة. ولكن بعدما نجحت ثورة تركيا الفتاة عام ١٩٠٨ في إجبار السلطان عبد الحميد الثاني على إعادة العمل بالدستور العثماني لعام ١٨٧٦، اجتمعت لجنةٌ مكوّنة من أربعين عربيًا أرثوذكسيًا في القدس، وقدّمت مجموعةً تتألف من ثمانية عشر مطلبًا للحكومة التركية. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يُطالب فيها بحقّ المشاركة في إدارة ممتلكات البطريركية، إلّا أنّ البطريرك داميانوس رفض هذه المطالب، ممّا دفع العلمانيين العرب إلى ارتكاب أعمال شغبٍ وعنفٍ في الشوارع. اضطرت الكنيسة والأخوية التي يهيمن عليها اليونانيون، على أثر ذلك، إلى خلع البطريرك داميانوس لتهدئة الوضع، ولتظهر أكثر تجاوبًا مع مطالب العلمانيين العرب. وشكّلت في عام ١٩١٠ مجلسًا كنسيًا يتألف من ستة ممثلين عرب وستة يونانيين، كما خصّصت ثلث إيراداتها لتمويل المدارس والمستشفيات والجمعيات الخيرية في محاولةٍ لحل الأزمة. وعلى الرغم من ذلك، لم تدخل هذه القرارات حيز التنفيذ مطلقًا، وتمّ حلّ المجلس المختلط الذي اعتبره البطريرك يلعب دورًا استشاريًا بعد فترة وجيزة في عام ١٩١٣. كما لم تعد الدولة العثمانية تسمح للعلمانيين العرب بدورٍ أكبر في انتخاب بطريركهم [14].
الحرب العالمية الأولى
تسببت الحرب العالمية الأولى في عام ١٩١٤ بتدمير ممتلكات البطريركية وانهيارها اقتصاديًا. هدأت الأوضاع في القدس قليلًا بين العلمانيين العرب ورجال البطريركية بعد طرد العثمانيين من فلسطين على يد القوات البريطانية بقيادة الجنرال إدموند ألنبي، الذي عقد مصالحة مؤقتة بينهما. لكن سُرعان ما تصاعدت التوترات مجددًا عندما حاولت الأخوية حل المشاكل المالية للبطريركية بأخذ قرض من اليونان، وإخضاع الكنيسة لهيمنة الحكومة اليونانية مجددًا، مما أسهم مباشرة في تأكيد الهوية اليونانية للكنيسة. قوبلت هذه المحاولات بالرفض من السلطات البريطانية والبطريرك داميانوس. وتضمنت توصيات لجنة هايكرافت، التي شكلها البريطانيون في عام ١٩٢١، وضع الشؤون المالية للكنيسة تحت إشراف لجنة تعينها بريطانيا، ومشاركة بريطانية أكبر في تعيين البطريرك. وكان الغرض الرئيسي من هذين القرارين هو الحفاظ على المؤسسات الدينية في السياقات الاستعمارية. كما أكدت اللجنة أن مشكلة العلمانيين ستعاود الظهور، وأعربت عن تعاطفها مع المطالب العربية بمزيد من المشاركة في الكنيسة.
كانت معارضة رجال الدين اليونانيين قد تحولت إلى العنف في أواخر القرن التاسع عشر، فكانوا يتعرضون للهجوم والاعتداء الجسدي في الشوارع على أيدي بعض العلمانيين العرب. حاولت السلطات العثمانية والبريطانية بين عامي ١٩٢٠-١٩٤٨ والسلطات الأردنية بين عامي ١٩٤٨-١٩٦٧ التدخل لحل النزاع عدة مرات، نظرًا لوجود المقر الرئيسي للبطريركية الأرثوذكسية في القدس الشرقية. ازدادت حدة التوترات بين العلمانيين العرب والكنيسة اليونانية في أوائل عشرينيات القرن العشرين بشكل ملحوظ، بعدما أصدرت الكنيسة بيانات لدعم الصهيونية، وبعد أن باعت اللجنة البريطانية اليونانية المُشرفة على شؤونها المالية مساحات كبيرة من الأراضي في القدس ومحيطها في عام ١٩٢٣ إلى شركة تطوير أراضي فلسطين، التي يملكها صهاينة، بهدف دعم الاستعمار اليهودي. دفع هذا العلمانيين العرب الأرثوذكس إلى وصف كنيستهم اليونانية بأنها مستعمر أجنبي، مثل السلطات البريطانية الإمبريالية والمهاجرين الصهاينة.
لا يزال رجال الدين اليونانيون يهيمنون على البطريركية الأرثوذكسية في القدس حتى اليوم، وهي تمتلك مساحات شاسعة من الأراضي تجعلها ثاني أكبر ملاك الأراضي في إسرائيل. إلا أنها باعت خلال السنوات الأخيرة مساحات من هذه الأراضي للمستثمرين الإسرائيليين، مما تسبب في العديد من الخلافات التي أدت إلى رفع دعاوى قضائية ضدها في المحاكم الإسرائيلية من قِبل علمانيين عرب حول ملكية العقارات. دفع هذا البطريركية في النهاية إلى إقالة البطريرك إيرينيوس في عام ٢٠٠٥، بعدما وصلت سيطرة اليونانيين الكاملة على البطريركية وأراضيها الشاسعة وممتلكاتها إلى حد وصفها بأنها أصبحت مملكة صغيرة لهم [15].
القانون الأردني لعام ١٩٥٨
ركز المجتمع العربي الأرثوذكسي جهوده عقب نكبة عام ١٩٤٨ على إغاثة اللاجئين، فأقرضت البطريركية الأراضي لبناء الكنائس في محاولة لتخفيف التوترات مع المصلين. ونتيجة للحرب المشتعلة في القدس الشرقية أصبحت البطريركية خاضعة لسيطرة الأردن والضفة الغربية، وبمجرد وفاة البطريرك تيموثاوس في عام ١٩٥٥ جدد المصلين مطالبهم مما أدى إلى تدخل الحكومة الأردنية فدعمت حكومة سليمان النابلسي القومية العربية تعريب البطريركية، وصاغت قانونًا جديدًا لبى معظم مطالب المصلين في عام ١٩٥٦، ولكن بعدما أجبرت حكومته على تقديم استقالتها في أبريل ١٩٥٧، وبعد اعتراضات البطريرك بنديكتوس استجابت الحكومة الأردنية في عام ١٩٥٨ لمطالب العلمانيين العرب الأرثوذكس كحل وسط دون إعطائهم الحق في إدارة ممتلكات البطريركية، وطالبت بمنح الجنسية الأردنية لجميع أعضاء الأخوية واستخدام اللغة العربية بين رجال الدين اليونانيين، ولا يزال هذا القانون المعمول به اليوم ينظم عمل البطريركية [16].
ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين
بعد احتلال إسرائيل للضفة الغربية في أعقاب حرب ١٩٦٧، اندلعت سلسلة من المظاهرات التي قام بها العلمانيون العرب الأرثوذكس ضد البطريركية في بيت لحم، ويافا، والناصرة في تسعينيات القرن العشرين للمطالبة بالسيطرة على أملاكها. ونتيجة لذلك، عقدت الحركة العربية الأرثوذكسية أربع مؤتمرات: الأول في القدس ١٩٩٢، والثاني في عمان ١٩٩٤، والثالث في الناصرة ١٩٩٩، والرابع في عمان ٢٠٠٢.
اقتصر الصراع القائم بين العلمانيين العرب الأرثوذكس وبطريركيتهم خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين على الدعاوى القضائية المرفوعة في المحاكم الإسرائيلية، حيث انخرط الطرفان في محاولات تغيير ملكية بعض العقارات لصالحهما. وحافظت إسرائيل على علاقات جيدة مع البطريركية في محاولة لفرض سيطرتها على القدس الشرقية المحتلة مقابل رفع تجميد بعض ممتلكاتها.
القرن الحادي والعشرين
في مطلع عام ٢٠٠٥، وبعدما يقرب من أربع سنوات من تعيينه بطريركًا، عُزل البطريرك إيرينيوس، بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية في القدس، لاتّهامه ببيع ثلاثة من ممتلكات الكنيسة اليونانية في البلدة القديمة بالقدس إلى منظمة “عطيرت كوهانيم”، وهي منظمة يهودية هدفها المعلن إقامة أغلبية يهودية في البلدة القديمة بالقدس والأحياء العربية في القدس الشرقية. كذلك، توجه للبطريرك ثيوفيلوس الثالث في ٢٠١٧ اتهامات بالمشاركة ببيع ما يعرف بصفقة باب الخليل، وتشمل بيع فندقي البتراء والإمبيريال الواقعين في ساحة عمر بن الخطاب في باب الخليل بالقدس المحتلة، وما يتبع لهذه الفنادق من محال تجارية في المباني نفسها، بالإضافة إلى عقارات أخرى داخل البلدة القديمة تتبع أوقاف البطريركية.
القدس تشتري سيناء
اشترت البطريركية الأرثوذكسية في القدس، بدءًا من القرن التاسع عشر، مساحات واسعة من الأراضي الواقعة في الأراضي الفلسطينية وإسرائيل والأردن وشبه جزيرة سيناء المصرية، وحتى في بعض المناطق الواقعة خارج سلطتها القضائية في اليونان وقبرص وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الشرقية. كان من المفترض تخصيص هذه المساحات لبناء الكنائس والمؤسسات والشركات، مما جعل بطريركية القدس للروم الأرثوذكس تمثل أحد أكبر ملاك الأراضي في الأرض المقدسة، وثاني أكبر مالك للأراضي في إسرائيل بعد دائرة الأراضي الإسرائيلية. تضمنت ممتلكات بطريركية القدس مئات المباني والكنائس والمنظمات التعليمية والرفاهية، التي سيطر عليها البطاركة اليونانيون بالكامل وسجلوها بأسمائهم واسم البطريركية واسم المصلين، فوصفت البطريركية بأنها أشبه بمملكة صغيرة [17].
القدس ترهن سيناء
بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٤، دُمّرت الكثير من ممتلكات البطريركية، مما تسبب في انهيارها اقتصاديًا إلى حد الاستدانة. دفع هذا البطريركية إلى أخذ قروض من اليونان، وإخضاع الكنيسة لهيمنة الحكومة اليونانية. قوبلت هذه المحاولات بالرفض من السلطات البريطانية، وتضمنت توصيات لجنة هايكرافت التي شكلها البريطانيون عام ١٩٢١ وضع الشؤون المالية للكنيسة تحت إشراف لجنة تعينها بريطانيا، بالإضافة إلى مشاركة بريطانية أكبر في تعيين البطريرك.
باعت اللجنة البريطانية اليونانية المُشرفة على الشؤون المالية للكنيسة بعد ذلك مساحات كبيرة من الأراضي المملوكة للبطريركية الأرثوذكسية في القدس ومحيطها في عام ١٩٢٣ إلى شركة تطوير أراضي فلسطين التي يملكها الصهاينة بهدف دعم الاستعمار اليهودي [18].