هزَّت الكنيسة أزمة خطيرة: هل المسيح هو أدنى من الآب؟ وهل ألوهيته هي مثار جدل؟
مجمع كبير عُقِد في نيقية سنة 325 أكد إيمان الكنيسة.
منذ انتصار قسطنطين في 312م، تمتعت الكنيسة بحظوة السلطة الإمبراطورية. وبعد أن كانت مضطهدة بالأمس، ها هي اليوم ظافرة. وقد أنعش المسيحيين انقلاب أوضاعهم حتى إنه دفَعَهم إلى التوهم. ولنا في تصريحات يوسابيوس القيصري الحماسية دليل على دهشتهم.
غير أن الحماسة لم تدم طويلًا. ففي الشرق مزَّق الكنيسة خلافٌ في التعليم ذو خطورةٍ لا مثيل لها منذ قيام الأزمة الغنوصية. في السنة 318، قام كاهن إسكندري اسمه آريوس يروّج أفكارًا اعتبرها أسقفه البابا ألكسندروس؛ هرطوقية. فانعقد مجمع محلي دان آريوس وحرمه في 323. فلجأ إلى فلسطين ونزل عند صديقه يوسابيوس القيصري، ولاقى دعمًا من بعض الأساقفة واللاهوتيين الشرقيين، فتفاقم الخلاف. وحين انتصر قسطنطين على خصمه ليسينيوس وتولى زمام الحكم في الشرق الروماني، لقي هناك كنيسة تمر بأزمة.
تعليم آريوس:
ذلك بأن تعليم آريوس يمسّ أمرًا في صميم الإيمان المسيحي، وهو سرّ الثالوث. كان آريوس كثير الاهتمام بالمحافظة على القدرة الكلية التي يتمتع بها الآب –وهو وحده “غير المولود”– ولكنه كان في الواقع يطرح علامة استفهام حول ألوهية المسيح. ففي نظره، الآب وحده إله حقيقي، أزلي، لا بداية له. أما الابن، الكلمة المتجسد في يسوع المسيح، فليس أزليًا ولا غير مخلوق. لا شكّ في أن “خلقه” يرقى إلى “ما قبل الدهور كلها”، إلا أنه ليس سوى بكر الخلائق، ويستمدّ طابعه الإلهي من هبة من الآب. فالابن هو، في نظر آريوس، تابع للآب وأدنى منه.
ليست تلك الأفكار جديدة. فقد سبق أن أُعرب عنها في الإسكندرية في القرن الثالث، ولكنها اتخذت عند آريوس صيغة نظامية، إذ كان المقصود شرح سر الثالوث بوجه يرضي العقل البشري. يبدو أن هناك تناقضًا بين الإيمان بإله واحد وتأكيد ألوهية المسيح، وهو إله حقيقي مع كونه أصبح إنسانًا، وواحد مع الآب مع كونه متمايزًا عنه. أراد الآريوسيون تخطي ذلك التناقض، فاستعملوا مفاهيم الأفلاطونية المحدثة، وهي أكثر المذاهب الفلسفية شيوعًا في ذلك العصر، وتقول بأن هناك مراتب كثيرة من الكائنات الإلهية تتدرج بين الألوهية العليا والخليقة.
رأى خصوم آريوس خطر الوقوع في موقف يعني إنكار ألوهية المسيح، أليس جوهر المسيحية يكمن بالضبط في سر الله الذي صار إنسانًا؟ إلى ذلك الحين، لم تكن السلطة الكنسية قد حسمت الأمر فعلًا. فقبل عهد قسطنطين، كانت الكنيسة مضطهدة أو غير معتبرة، فلم تتمكن من تسوية مشاكلها الداخلية. ولما جاء قسطنطين، تولى زمام الأمور، فأكد أن سلام الكنيسة يهمه بقدر ما يهمه سلام الدولة، وقرر، في السنة 325، أن يدعو إلى انعقاد مجمع في قصره النيقاوي في آسيا الصغرى، يضم أساقفة من العالم المسيحي كله.
مجمع نيقية:
كان أول مجمع اتضح أنه عالميّ، “مسكونيّ”. وقد بذل قسطنطين كل ما في وسعه ليتمكن الأساقفة من الوصول، حتى أنه أعطاهم حق استخدام البريد الإمبراطوري، المخصص عادة لنقل الموظفين الذين يقومون بخدمته. ومع ذلك، لم تخلُ العقبات المادية من التأثير؛ فمعظم الأساقفة الثلاثمائة تقريبًا الذين اجتمعوا في 20 أيار (مايو) 325 كانوا من الشرق. وكان الغرب اللاتيني ممثلًا بقليل، أي بثلاثة أو أربعة أساقفة فقط، منهم هوسيوس، أسقف قرطبة، مستشار قسطنطين في المسائل الدينية.
افتتح قسطنطين المجمع في قاعة القصر الكبرى. وسرعان ما ارتسمت ميول المشاركين: فلم يكن الآريوسيون المتشددون، مع يوسابيوس، أسقف نيقوميدية، سوى قلة، وهم يصدمون غالبية الأساقفة بصيغهم غير المرنة التي تنكر ألوهية المسيح. وفي الجهة المقابلة، تجمَّع أشد خصوم الآريوسية عزمًا حول البابا ألكسندروس السكندري -يرافقه شماسه وخلفه أثناسيوس- وهوسيوس، أسقف قرطبة، وسعوا إلى حمل المشاركين في المجمع على إعلان “تساوي” الآب والابن “في الجوهر”.
والكلمة اليونانية التي تعبر عن تلك الوحدة في الطبيعة الإلهية هي ὁμοούσιος [هوموأوسيؤس]. ورأى عدد من الأساقفة المجتمعين حول المؤرخ يوسابيوس القيصري، وهم أكثر اعتدالًا، أن خطر التعليم الآريوسي ليس بكبير، فاهتموا بالوحدة أكثر من الدقة: فلم البحث عن صيغ جديدة وعدم الاكتفاء بتعابير الكتاب المقدس؟ فرفض الحزب المحافظ كلمة هوموأوسيؤس.
وأخيرًا، تبنى الملتئمُون في المجمع قانون الإيمان المستعمل في قيصرية فلسطين قاعدةً لإعلان إيمانهم، ولكنهم وضحوا ذلك النص بتبني كلمة هوموأوسيؤس، “المساوي في الجوهر”، التي تؤكد بوضوح ألوهية الابن: “إنه إله آتٍ من إله، ونور آتٍ من نور، وإله حق آتٍ من إله حق، مساوٍ للآب في الجوهر، وبه خُلق كل شيء”. وقد حفظت الكنائس المسيحية ذلك النص إيمانًا لها.
ذيول الأزمة:
أسقفان فقط أيّدا آريوس في موقفه حتى النهاية. فحُرِمَ الثلاثة، وبدا أن القضية انتهت. إلا أن شيئًا من ذلك لم يكن.
فكثير من الأساقفة الشرقيين، كيوسابيوس القيصري، لم يقبلوا بالتحديد النيقاوي إلا على مضض، في حين بقي بعضهم، كيوسابيوس أسقف نيقوميدية الطموح، أريوسيًا في قلبه. وأخذوا على النيقاويين أنهم خلطوا بين الأقانيم الإلهية الثلاثة، وجعلوها “أشكالًا” لإله واحد شخصي أُوحِيَ به للبشر. وفي الواقع، عرّض بعض النيقاويين أنفسهم (أمثال مارسيلوس الأنقيري وآخرين) لذلك الانتقاد. أما الغربيون، وكنيسة روما بوجه خاص، فكانوا متمسكين تمسكًا شديدًا بتعليم المجمع. وكان ذلك بداية لحفر هوة راحت تتسع تدريجيًا بين الشرق اليوناني والغرب اللاتيني، إذ إن كلًا من الطرفين وضع علم لاهوت مختلفًا، وفهم فكر الآخر على نحوٍ كان يزداد سوءًا.
وهكذا نشأت الأحزاب: حزب النيقاويين من جهة، مع الغريين والسكندريين الذين برز أسقفهم الجديد أثناسيوس بطلًا للإيمان القويم الذي لا يكل ولا يهدأ، ومن جهة أخرى حزب الآريوسيين المجاهرين الذين يحطون من ألوهة المسيح إلى أقصى حد. وبين الحزبين، ظهرت مدارس لاهوتية سعت لإيجاد حل وسط: وكان زعماؤها يعتبرون المسيح أدنى من الآب، دون أن ينكروا ألوهيته. وكان اليونانيون يتحركون بلا مشقة داخل تلك النزاعات، لتدربهم على المناقشات التي دارت بين مدارسهم الفلسفية لعدة قرون. ولكن، هل تلك المناقشات “البيزنطية” لا فائدة لها لأجيال القرن العشرين؟ لا نؤكد ذلك، فنحن أمام جوهر الإيمان المسيحي.
وما زاد النقاش تعقيدًا هو تدخلات الأباطرة. فالآريوسيون حملوا قسطنطين على تعديل موقفه، فانتهى به الأمر إلى تأييد تعليمهم: فنُفي أثناسيوس، واستُدعي آريوس من منفاه، وعُقد مجمع أعاد إليه الاعتبار قبل أن يتوفاه الله سنة 335. ويوسابيوس أسقف نيقوميدية الآريوسي هو الذي عمّد قسطنطين على فراش الموت في 337. وخلف قسطنطين في الغرب ابنه قسطنطيوس الموالي لمجمع نيقية، وفي الشرق ابنه قسطنطينوس الثاني المؤيد لموقف معتدل من الآريوسية.
وفي 353، امتدت سلطة قسطنطينوس الثاني إلى الغرب أيضًا. فانتصرت الآريوسية. وكانت النتيجة أن عُزل ونُفي الأساقفة النيقاويون، لا القديس أثناسيوس وحده، بل القديس هيلاريون، أسقف بواتييه، وهوسيوس، أسقف قرطبة العجوز، وليباريوس، بابا روما أيضًا. وإلى جانب ذلك، انتشر مذهب أكثر تشددًا، حول آيقيوس وأونوموس، اللذين أنكرا ألوهة المسيح إنكارًا جذريًا. وانعقدت مجامع تُنكر إيمان نيقية، في الشرق وحتى في الغرب، من شدة خوف الأساقفة أمام قدرة الإمبراطور المطلقة.
آباء الكنيسة:
ولحسن الحظ، ظهر أعظم كُتّاب ومفكّرين العالم المسيحي القديم، أولئك الذين دُعوا فيما بعد آباء الكنيسة، وأنقذوا الإيمان المهدد. وقد شقّ أثناسيوس الطريق، مُسلّطًا الأضواء على معنى التجسد، سرّ الإله الذي صار إنسانًا ليُؤلِّه الإنسان المخلّص. وفي قَبْدُوقية (كابادوكيا)، في قلب آسيا الصغرى، قام باسيليوس الكبير، أسقف قيصرية، وأخوه غريغوريوس النيصي، وصديقه غريغوريوس النزينزي، بوضع علم لاهوت أوسع وأعمق حول الثالوث الأقدس. ففي حين كان الآريوسيون يريدون قصر السر الإلهي على استدلالات بشرية، أكّد الثلاثة أنّ الله لا يُدرَك، وأنه يفوق كل الكلمات والأفكار البشرية. وكانوا رجال صلاة، فعلموا أنّ الله يُدرَك في الصمت والعبادة، لا في صخب الكلمات.
كان أونوموس الآريوسي يعتقد أنه يستطيع حصر كيان الله في التحديدات، وقصره على مقولات العقل البشري. وعلى هذا الادعاء، الذي قد يكون أشدّ المسائل الآريوسية هرطقةً، ردّ الآباء بالشهادة التالية: ليس الله من صنع الفلاسفة والعلماء، بل هو في كيانه الثالوثي سرٌّ لا يُدرَك. ولكن الله عرّف، في يسوع المسيح، أنه محبة، ومكّن كل من ينفتح على محبته من التقرب إليه. إنّ السرّ الثالوثي هو حركة حب أزلية بين الأقانيم الثلاثة. ويسوع يدعو المسيحيّ إلى الدخول في تلك الحركة، والمشاركة في حياة الله.
وأمام هذا التعليم السامي، الذي عبّر عنه غريغوريوس النيسي(النيصي) ببراعة فلسفية لا تقبل الجدل، بدت حجج أونوموس الآريوسية واهية وجوفاء. ولم يقع المسيحيون الذين يتمتعون بحسّ روحي حقيقي في هذا الخطأ. وبذلك انتصر الإيمان القويم في الشرق، وتوصّل الآباء الكبادوك إلى المصالحة بين اليونانيين والغربيين الذين ظلّوا أمناء لقرارات مجمع نيقية، وإلى إقناع كلا الطرفين بوحدة إيمانهما. ولما توفّي القديس باسيليوس في 379، كانت المعركة قد تكلّلت بالفعل بانتصار حزبه.
وفي تلك السنة نفسها، تسلّم الإمبراطور ثيؤدوسيوس الكبير السلطة في الشرق، وكان غربيًّا مناصرًا لمجمع نيقية، فأمر بالعودة إلى الإيمان القويم، وعقد سنة 381، في القسطنطينية، المجمع المسكوني الثاني. فأكّد هذا إيمان نيقية وأعلن أيضًا ألوهية الروح القدس “الرب، واهب الحياة، والمنبثق من الآب”.
هُزِمت الآريوسية، لكن الصدمة كانت خطيرة، إذ لم يكن الأمر يختص، كما في عصور الاضطهادات، بهجمات من خارج الكنيسة. فإن بذور التخريب ظهرت هذه المرة من داخلها، فكان الامتحان شاقًا. وبفضل الآباء، خرجت الكنيسة متقوية ومقتنعة بضرورة التفكير اللاهوتي، وشهد القرن الرابع تطورًا رائعًا فيه، وقد بلغ منذ تلك الحقبة نضجًا يصعب تجاوزه.
وثيقة القانون النيقاوى
نؤمن بإله واحد، آب قدير، خالق كل شئ، ما يُرى وما لا يُرى،
وبربِّ واحد يسوع المسيح، ابن الله، الوحيد المولود من الآب،
أي من جوهر الآب، إله من إله، نور من نور،
إله حق من إله حق، مولود، غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر
به خُلق كل شيء، ما في السماء وما على الأرض،
من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا
نزل وتجسد وصار إنسانًا، وتألم وقام في اليوم الثالث،
وصعد إلى السماوات، وسيأتى ليدين الأحياء والأموات،
ونؤمن بالروح القدس.
أما الذين يقولون :كان وقت لم يكن فيه، وهو لم يكن قبل أن يولدأن ابن الله هو من أقنوم آخر، أو أنه مخلوق، أو متغير أو متبدل
فأولئك ترشقهم الكنيسة الجامعة والرسولية بالِحرم.
الأزمة الآريوسية، بقلم كلود ليبيلي. فصل من كتابتاريخ الكنيسة المفصل، المجلد الأول، نقله إلى العربية الأبوان: أنطوان الغزال اليسوعي، وصبحي حموي اليسوعي، دار المشرق، ٢٠٠٢.
