أول ثلاث أناجيل نسميها الأناجيل الإزائية، لأنّ أحداثها تسير متوازية وكأنها تنقل من بعضها البعض. بينما إنجيل يوحنا هو لاهوتٌ عالي، غير مهتم بيسوع التاريخي، وإنما بالمسيح اللاهوتي. والمشكلة الإزائية تطلق على مجموع المحاولات الأكاديمية للربط بين النصوص في الأناجيل الثلاثة الإزائية. استطعنا من خلال العديد من العوامل أن نتوصل إلى أسبقية مرقس، لكن لم نتمكن من تحديد الترتيب النصي للإنجيلين الآخرين؛ هل لوقا قبل متى أم العكس؟ [1]
نحاول في هذا المقال تطبيق القراءة الإزائية على موضوع الساعة: هل قال المسيح لا طلاق إلا لعلة الزنا
؟
١) أسبقية إنجيل مرقس
من طلق امرأته وتزوج بأخرى يزني عليها،
وإن طلقت امرأة زوجها وتزوجت بآخر تزني.(إنجيل مرقس ١٠: ١١)
ملاحظتان:
1) لا يوجد إلا لعلة الزنا
، وما نفهمه هو طلاق شرعي بغرض الزواج الشرعي من أخرى.
2) لا يوجد في القانون حالة أو وضع يسمح للمرأة أن تطلّق زوجها، والصحيح أن تُطلق من زوجها (تطليق
وليس طلاق
، لأن المرأة ليس لها حق الطلاق وإنما تطلبه من القاضي).
إذن، إنجيل مرقس، الأقدم والأكثر بدائية [بدائية هنا بمعنى الأصدق والأكثر أصالة]، يُفهم منه شريعة الزوجة الواحدة، والنصف الثاني الموجه للأنثى يعني شريعة الزوج الواحد.
وبدقّة أكبر، نقول بأن هذا النص لم يحظر التعدد، هو فقط وصفه بأنه “زنا”. نحن أمام أسلوب “توسّع في اللغة”. نسق أدبي بليغ منه فهمنا أن الزيجة الأولى مازالت قائمة، وعلى هذا اعتُبرَت الزيجة الثانية زنًا. مع أن ليس أحدًا سيزني مع زوجته التي تزوجها شرعًا! هذا هو توسّع اللغة، فالزنا هنا مجازيّ، ليس زنًا حقيقيًا.
ولكيما نتأكد من الفهم الصحيح، لنفرض أن رجلًا متزوجًا من امرأة، ولم يطلقها، وتزوج عليها أخرى. ما علاقة هذا باﻵية؟ هل تنطبق عليه؟ لا، لا تنطبق! فهو من حقه أن يتزوج مثنى وثلاث و تسع وعددًا مفتوحًا من الإناث في اليهودية! إذن ما الخطأ؟ الخطأ أن يترك زوجته (يهجرها) في وضع مُعلق، ليس طلاقًا من الأساس، لأن الطلاق مُباح، ويعزز من هذا الملحوظة (2)، فهذه ليست ترجمة للكلمة طلاق
وإنما لكلمة هجر
، فالمرأة يمكن أن تهجر
زوجها، لكن لا يمكن أن تطلقه
.
في كل ما سبق، لم نستعمل شيئًا من خارج النص. النص هو الذي يقول لنا، وبمقارنته بالخلفية التشريعية، اتضح أنه بمفرده لا يعني أكثر من “أعدل بين زوجاتك” بالنسبة للرجل، و”لا تهجري زوجك” بالنسبة للمرأة. ومن هنا نرى حظرًا للانفصال الجسدي! فما الانفصال الجسدي إلا هجر الرجل لزوجته، أو هجر المرأة لزوجها، وهذا تحديدًا ما حظره المسيح!
الآن، بمن نكمل بعد إنجيل مرقس؟ متى أم لوقا؟ فنحن لا نعتمد أيّ فرضية في هذا البحث إلا أسبقيّة مرقس.
لنكمل مع إنجيل لوقا لأنه الأسهل في الشرح.
٢) إنجيل لوقا
كل من يطلق امرأته ويتزوج بأخرى يزني،
وكل من يتزوج بمطلقة من رجل يزني.(إنجيل لوقا ١٦: ١٨)
1) النصف الأول؛ كما هو في مرقس.
2) النصف الثاني؛ تغير! لم يعد يخاطب المرأة ألا تهجر زوجها، وإنما يخاطب الرجل ألا يتزوج بمطلقة!!
الاحتمال الذي لديّ، هو إن لوقا توسّع في مفهوم الزنا في النصف الثاني بحيث يشمل المرأة اللي هجرت زوجها وشريكها.
لكي نجد تفسيرًا اجتماعيًا لهذا التغيير، نحتاج أن نعود لقصة داود
الذي زنى مع امرأة أوريا الحثي
. بعد أن زنى داود
مع بثشبع
، وضع زوجها أوريا الحثي
على مقدمة الجنود في الحرب ليُقتل، ثم تزوجها رسميًا وأنجب منها الوريث سليمان [2].
يبدو أن هذه كانت ظاهرة اجتماعية، لا تقتصر على داود فقط، خصوصًا أنه في الوصايا العشر نهي عن اشتهاء زوجات الأقارب [3]، [4]. فلوقا هنا يعالج مشكلة اجتماعية واردة، وهي أن رجلًا يتخلص من رجل (أو يسعى لطلاقه من زوجته سلميًا) ليتزوج زوجته، أو أن امرأة تتفق مع عشيقها، على هجر الزوج الذي لها، على وعدٍ منه بالزواج. توسّع لوقا هنا في مفهوم الزنا ليشمل هذه الظواهر الاجتماعية المعيبة، مع الحفاظ على نفس أحكام النص الشرعية.
حتى الآن لم نخرج من النص إلى مصادر خارجية، ونعمل لغويًا على تفسير اجتماعي من نفس البيئة والكتاب والمعتقدات. لم نقم بتأويل رمزي، النص في جميع أحواله هو الذي أرشدنا لكونه “مجازًا” لاستخدامه التوسع في اللغة عن معناها الحقيقي، وفيما عدا ذلك، نتقيّد بالنص بشكل صارم.
الآن، لنأت للإنجيل المُفضل لقداسة البابا شنودة الثالث؛ وهو إنجيل متى.
٣) إنجيل متى
من طلق امرأته إلا لعلة الزنى يجعلها تزني،
ومن يتزوج مطلقة فإنه يزني.(إنجيل متى ٥: ٣٢)
من طلق امرأته إلا بسبب الزنا وتزوج بأخرى يزني،
والذي يتزوج بمطلقة يزني.(إنجيل متى ١٩: ٩)
1) تفرّد متى بتكرار النص مرتين، المرة الأولى يُقحمه على التطويبات، والمرة الثانية في سياقه كبقية الأناجيل.
2) في المرتين، تفرّد بأن أضاف في النصف الأول الاستثناء: إلا لعلة الزنى
(متى فقط الذي فعل ذلك).
3) المرة الأولى، النصف الأول تغيّر؛ الزوج جعل زوجته تزني، وليس هو الذي يزني.
4) المرة الأولى، النصف الثاني، مأخوذ من لوقا كما هو.
5) المرة الثانية، النصف الأول، كما هو في مرقس! (مع أن متى هو الذي غيّره في رقم 3)!!
6) المرة الثانية، النصف الثاني، مأخوذ من لوقا كما هو.
اختصارًا: ذكر الآية الثاني لا لزوم له؛ لأنه مُقتبس من مرقس ولوقا، وتذكّر أن هذا الذي لا لزوم له هو السياق الطبيعي، بينما ذكر الآية الأول، مُقحم على التطويبات.
لكن لأننا الآن لا نحلّل كرونولوجيًا (ترتيبًا زمنيًا)، ونحلّل النص واللغة، فلن يهمنا الذكر الثاني المُقتبس أو المُكرر، وسنكتفي بالذكر الأول الخاص بالتطويبات.
وعلى هذا لن يهمّنا إلا:
1) إضافة الاستثناء: إلا لعلة الزنى
.
2) تغيّر النصف الأول من الآية.
الاستثناء إلا لعلة الزنى
لا معنى له إلا لتمييز الطلاق لأسباب قوية ومنطقية، عن الهجر من أجل الزواج بأخرى، والذي ينتقده المسيح. فهذا -على عكس ما يظنه البابا شنودة- ليس ضمن مُسوّغات الهجر المحرمة في نص المسيح أساسًا.
تخيل معي الوضع التالي:
هذا الدواء لعلاج سم العقارب المخططة، لكنه قوي جدًا، ويقتل كل من يتناوله دون أن يكون قد تعرضَ لسُمّ العقرب المخطط تحديدًا. لو كانَ السمّ من عقرب منقط، وليس مخططًا، فلن ينفعه الدواء بل سيقتله!
إذن:
كل من يتناول الدواء لغير السم المخطط، يعرض نفسه للموت.
هل ينهي هذا السطر السابق عن تناول الدواء؟
لا قاطعة، ويظل الدواء فعالًا وحلًا ناجحًا إذا استُخدم للنجاة من سم العقرب المخطط.
هل يحصر السطر السابق الاستثناء، بحيث لا توجد استثناءات أخرى؟
لا أيضًا، لأنه في علم المنطق فالاستثناء من المقدمة لا يحصر الجواب، فالتداخل وارد.
لنرتب الأوراق: هذه النقطة (لا طلاق إلا لسبب الزنا) موجودة اجتماعيًا في مدرسة شماي
واختلافاتها عن مدرسة هليل
في شرح مًسوّغات الطلاق [5].
لكن لو مازلت تتذكر، فنحن قد اتفقنا على استبعاد المرة الثانية لذكر الآية، وهي التي تتضمن السياق. وإن ناسًا [الفريسيون] سألوا المسيح: هل يحل للرجل أن يطلق امرأته لكل سبب؟
[6]، فبالتالي، لا ينبغي لنا التوسع في هذا السياق، لأنه مُلحق بالتطويبات بدون سياق (ليست هي المرّة التي سألوه عن أسباب الطلاق).
لكن لكي نغطي جميع الجوانب، فإن مدرسة شماي
المتشددة لا تحصر الطلاق في الزنا فقط، بل أيضًا في عدم الإنجاب، حيث يحق للرجل طلاق امرأته إن لم تنجب خلال عشر سنوات من الزواج.
بالتالي، طولًا، عرضًا، لغويًا، فلسفيًا، اجتماعيًا، لا يمكن حصر الاستثناء الموضوع في مقدمة الجواب. هذا ليس منظور المسيح بالكليّة. ولو أراد التحدث عن أسباب الطلاق لقال ذلك ببساطة، لكنه يتحدث عن شيء آخر محدد جدًا.
النقطة الأخيرة؛ هي تغيير النصف الأول من الآية الأولى:
وهذه المرة لا يصح معها التوسّع في مفهوم الزنى كقصة داود، أو منع اشتهاء نساء متزوجات بطلاق أزواجهن ثم تزويجهن. فمتى يضيق الاحتمالات بعكس لوقا الذي يتوسع فيها (لاحظ أن الرجل هنا لم يتزوج أخرى، وهذا موضوع مختلف عن تعدد الزوجات بالكليّة). والمعنى هكذا قد صار أن الرجل الذي يهجر زوجته (بغير سبب منطقي) يُضعِفها ويُعرِّضها للزنا.
ومسألة منع هجر الزوجة، حتى مع عدم زواجه بأخرى، ليست مسألة جديدة على اليهودية التي اشترطت حسن معاشرة الأمة [العبدة] وإلا نالت حريتها [7]. الفكرة هنا أن هذا ليس تشريعًا؛ لأنه لا يوجد عقاب للزوج، وإنما وصية تستدر العطف؛ ألا يضع زوجته في موضع الضعف.
مجال التطبيق هنا محدود جدًا، لكنّه مهم! ببساطة، ترك الرجل لزوجته من أجل الرهبنة محظور! لأنّ نطاق الآية تحديدًا (الرجل لم يهجر زوجته ليتزوج بأخرى!) فما المطلوب هنا سوى أن يعود لزوجته ويُبطِل هجرها بما فيه الرهبنة؟
إذن، التصريح بالطلاق من أجل الرهبنة في لائحة ١٩٣٨ (والذي أبقى عليه البابا شنودة) هو خطأ يجب إصلاحه، وحتى باشتراط موافقة الزوجة نفسها فهو مزيد من الغبن للزوجة! ماذا يعني أن يتزوج أحدهم بامرأة ثم يقول لها “غيرت رأيي” وأريد أن أترهب؟ الزواج هو “عرض جنسي حظي بالقبول من الزوجة”، ولا يجوز بعد إتمامه العدول عنه لممارسة الرهبنة التي ليست مقدسة كالزواج. وليس للزوج أو الزوجة أن يترهب على حساب الطرف الآخر! هذا فضلًا عن أنك عندما تقول لامرأة أنك تنوي هجرها من أجل الرهبنة، فإنك تُدخِلها في صراع بينها وبين عفتها! لا يجوز يا رهبان، هذه حركات أطفال، انضجوا! بل يجوز حتى لو وافقتك، لأنه في علم المنطق ليس موافقة، بل صراع إحجام. ثم هذا النص الديني، لماذا وُضع؟ ما هي تطبيقاته إن لم يكن هذا أحدها؟
هكذا نكون قد أنهينا معالجة جميع أقوال يسوع المسيح في هذا الصدد بالأناجيل الإزائية. ولا معنى في كل ما سبق يُفهم منه تشريع يحظر الطلاق أو يحدد أسبابه، وإنما مجال الخطاب عن منع الطلاق بغرض الزواج بأخرى (مرقس)، أو منع تطليق زوجة بغرض الزواج منها (إضافة لوقا)، أو منع هجر فراش الزوجية لفترات طويلة حتى لا يُوضع الطرف الآخر في موضع يخشى عليه من الفتنة (إضافة متى).
في كل الأحوال، لم يقل يسوع شيئًا عن مسوغات الطلاق، ولم يحظر الطلاق إلا لسبب الزنا وحده (إضافة شنودة). بل حتى النص في متى، وهو الوحيد الذي ذكر التعبير إلا لعلة الزنى
، موضوع في سياق لتمييز الطلاق الصحيح عن الهجر الذي يتكلم عنه يسوع المسيح. ومنه خلصنا إلى منع الرهبنة بعد الزواج.
وبطبيعة الحال، لم يقل المسيح يومًا جملة على وتيرة الحصر “لا كذا إلا كذا”، ولا حتى قال: لا إله إلا الله
، وهي أسلوب نفي جازم وحصري (يُسمّى درّة التوحيد الخالص). أما التشابه في الجرس الموسيقي بين مقولة البابا شنودة والإنجيلي متّى، وكون البابا شنودة يصدّر متّى صاحب الاستثناء، وهو الوحيد صاحب الاستثناء، وتهميش أو إهمال أو إلغاء الإنجيلين الآخرين، فلا معنى له عندي إلا أن البابا شنودة كان متّاوي
.