قضية ياسينإذا لاح شبح الرأي العام أمام المحكمة، فزعت منه العدالة.

(شيخ القضاة، محمد وجدي عبد الصمد، رئيس نادي القضاة ورئيس مجلس القضاء الأعلى الأسبق)

أنا خايف من ياسين..

الطفل ذو الست سنوات أصبح إمبراطورًا فرعونيًا أقوى من توت عنخ آمون. نصبوه قائدًا حربيًا على عرش جبل الأمهات التي طحنها الجهل، والآباء الذين صرعهم القهر، وبايعه الشباب الفتيّ المتحمسون دينيًا وهرمونيًا رمزًا للضحايا في طريق أحلامهم. والكل بايعه على الموت، وصنعوا منه رمزًا للبطش الشعبي الغاشم… فإزاي ما أخافش؟ أنا خائف!!

أنا خائف، وأنا لستُ جبانًا، لم أخف من مديرة المدرسة عندما تطوع محاميها لإرهابي بالقانون. لم أخف لأن القانون لأمثالي لا يخيف. القانون مُخيف للمجرم فقط، والعدالة تشكّل  وسيلة عقاب، أما لأمثالي فالقانون وسيلة أمان لا تُخيف.

أنا حقوقي، لأني لا أعتمد غير القانون وسيلة لإدارة النزاعات بين البشر.
واليوم رأيت القانون نفسه يخاف من جيوش ترفع شارة الأمير ياسين على أسنة الرماح.
انحنى القانون ليسجد لياسين هاتفًا: بالروح، بالدم، نفديك يا أبو الجماجم!!

الطفل والعجوز وشبح الرأي العام 2رمز العدالة دائمًا أنثى معصوبة العينين…
واليوم استحالت ذكرًا يهتف: منبقاش رجاله لو لم نغتصب حقوق من هتك عرض ياسين!!
وصار الدستور ينص على أن المتهم برئ إلى أن يتهمه ياسين!!

ومن ذا الذي يجرؤ على الوقوف أمام جيوشه التي حاصرت محكمة دمنهور حصار الإخوان للدستوريّة!!
المحاكمات الشعبية، قتلت الفيلسوف .. فكيف لا أخاف أن أجبر على تناول السّم بتهمة التفلسف؟

أتوقع منك ألا تكون فيلسوفًا خائفًا مثلي..
أتصور أنك سعيد بوصول ياسين إلى مقعد السلطة..
أتخيّل أنك فخور أن شاركت في انتخاب طفل برئ لقمة هرم السلطة، وتحلم بعالم يحكمه الأطفال!!

أيها الأبله القوي المعتوه، أنه طفل!! إنه قاصر!! إنه تحت سن الأهلية وتحت الوصاية الأبوية!!
جيوشه، هم أوصياء عليه وهو فقط رمز لا يتكلم، وإن تكلم سيخرسونه ويهتكون عرضه أكثر مما هتكوا..!
طفل قام بهتك عرضه شعب كامل، وامتطى ظهره شعب كامل، كي يرتكبون باسمه أحط الاعتداءات والجرائم والظلم.. فكيف لا تخاف من الدين الجديد الذي رأينا نوره في الدلتا المصرية!!

كل براءة طفولية تخفي وراءها ذعرًا لا يكاد يُحتمل.. الأمهات في حد ذاتها كائنات يمكن أن تكون مخيفة!! أعرف أمهات كثيرات إن اصطدم رجل أطفالهن بحجر، يكلمن الحجر بغضب كأنه كائن حي! يسبون الحجارة، ويلعننها، ويدربن أطفالهن على معاداة الحجر وضربه أ-أاه.. إمشي يا حجر.. إمشي يا وحش!! ياسين هيضربك أ-أااه!

جيوش ياسينهل تعلم أن لدينا غابة حجرية في العاصمة الجديدة؟ هذه الغابة الحجرية سيحتلها جيوش ياسين لضربها أ-أاه.. تخيل إن العاصمة نفسها، أبنيتها من الأحجار.. تماثيل أجدادنا من الأحجار.. على الأحجار أن تخاف من ياسين لأنه امتلك جيشًا من شعب دموي، ومازال بعقلية طفل، وكما علّمته أمه سيجعلها تفخر به بحرب ال أ-أاه العظيمة على كل الأحجار!

القانون كما ركع لمولانا سبايدرمان وشبكته العنكبوتية، وكما تم تكيّف “هتك القانون” من خلال كهنة القانون وفقهائه المقدسين، يمكن للمنطق أن “يفلقس” أيضًا.. هذه ليست حجارة.. إنها أصنام.. أهدموا الأصنام يا جند الطفل المًقدس.. فتهتف الجماهير خلف كهنة ياسين بدلًا من الـ أ-أاه، تكبيرًا..

الطفل والعجوز

العدل لا يملك هوية دينية، ولا تنحاز الحقيقة إلا لمنطقها الصارم، الذي لا يعترف باللون ولا الطائفة ولا المذهب. وقضيتنا اليوم، قضية الطفل والعجوز، ليست إلا نموذجًا فجًا لكيف تصنع الكذبة حين يغيب العقل، وتشتعل الفتنة حين تُدار العقول بالريموت، وتُحاك المؤامرات في الظلام لتُنزل الناس عن مقاعد الفهم، وتدفعهم إلى محرقة الكراهية.

إن القصة التي انفجرت على السوشيال ميديا كالنار في الهشيم، لم يكن لها أن تتماسك ساعة واحدة لو وُجد عاقل واحد يُفكر. قصة مهلهلة، متداعية الأركان، يفوح منها عبق الافتراء الركيك، وتهش فيها أدلة ملفقة تقفز فوق المنطق، وتخرق الواقع، وتتناقض مع أبسط قواعد الاحتمال.

فلو أن كل مسيحي دافع عن مسيحي لأنه مسيحي، كما زعم البعض، لكان في ذلك افتئاتًا مشينًا على مسيحيي مصر الذين علّموا التاريخ كيف يقف الإنسان إلى جوار الحق ولو كان ضده، وكيف تكون الوطنية رباطًا أمتن من سلاسل الطائفية. حين حاول المستعمر الإنجليزي أن يستقوي بمسيحيي مصر ضد إخوانهم المسلمين، فاجأه هؤلاء بوحدة وطنية أبهرت العالم، وانتصروا للوطن لا للطائفة.

اليوم يُراد أن يُقال إن المسيحيين يدافعون عن رجل مسن لأن دينه دينهم. وأقولها يقينًا، لا يدافع عنه من يعرف الحق لأنه مسيحي، بل لأن القصة كاذبة، والأكذوبة مفضوحة، والدسيسة مكشوفة. فيا للعجب، متهم في الثمانين، مريض سكري منذ أربعين عامًا، أُجريت له عملية قلب مفتوح، وعلى شرايينه خمسة صمامات معدنية، يمارس فعلًا جنسيًا لا يقدر عليه في ريعان شبابه! أهذا يُصدقه عاقل؟!

ولماذا الآن؟ ولماذا بعد عام كامل؟ ولماذا لم تُحرَّك الدعوى إلا في لحظة غريبة عجيبة، اتحد فيها “قومي المرأة” مع “حازمون”، أعدائهن الألداء، لا لشيء إلا الافتئات على الطفولة وإشعال نار الطائفية، وتوجيه الغضب الشعبي عن فشل السياسات الاقتصادية، وخراب التعليم، وانهيار العملة، وسقوط الدولة في مستنقع الديون والفساد، إلى فتنة دينية يسهل معها حرق مدارس الراهبات والفرنسيسكان والجيزويت، فتُسلّم على طبق من ذهب لمنظومة التعليم المتأسلم، التي ظلت تسعى منذ مبارك حتى الآن للهيمنة على عقل مصر.

الحقيقة الساطعة كالشمس، أن القضية لم تحدث، والجريمة لم تقع. وما جرى ليس سوى مهزلة كيدية خبيثة، يشارك فيها كتائب إلكترونية مأجورة، تضخ الأكاذيب حول رشوة من ثلاثين كيلو ذهب، وتلفق الروايات عن رجل شاذ اكتشفوه فجأة في أرذل العمر، رغم أنه قضى ثلاثين عامًا في نفس المدرسة، ولم يُسجَّل عليه فعل واحد يُدينُه.

قضية الطفل والعجوز ليست جريمة اعتداء بقدر ما هي جريمة ضد العقل، وضد ضمير مصر. وهي مؤامرة متقنة لإشعال فتنة مقصودة، وإحراق سمعة المدارس المسيحية، تمهيدًا لوضعها تحت سطوة تيار ديني متشدد يُفني ما تبقى من تعليم مستنير.

إن العدل يقتضي ألا يُنسب الفعل إلى دين، وألا يُستدعى الإسلام كلما أخطأ مسلم، ولا تُدان المسيحية كلما أخطأ مسيحي. ألم يغتصب شيخ طفلة في رمضان بمراحيض مسجد؟! ألم تُقتل قاصر على يد شيخ وهو يغتصبها؟! ولم يخرج أحد يحمّل الإسلام أوزار هؤلاء. فلماذا إذن يُراد تحميل المسيحية ذنب رجل؟!

الحقيقة أن مصر تُبتلى اليوم بانهيار أخلاقي عام، تُغتصب فيه الطفولة في كل مكان، وتُباع فيه الضمائر، وتُدار فيه الأزمات بعقلية شعبوية عتيقة، تلعب على وتر الطائفية كلما تأزمت الأحوال.

إن قضيتي ليست الدفاع عن شخص، ولا عن مدرسة، ولا عن طائفة. قضيتي هي الدفاع عن الحق، وعن العقل، وعن وطن يُراد له أن يُحرق في أتون الجهل والطائفية.

وختامًا أقولها صريحة: لو سار النقض في طريق نزيه، بعيدًا عن ضغوط السياسة، وانحرافات الإعلام، وأكاذيب كتائب الخراب، ستنكشف الحقيقة جلية… وإن غدًا لناظره قريب.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎