“إذن وصية “لا تقتل” كانت وصية للمعاملات الفردية، و لكن جماعة المؤمنين عموماً وقتذاك، أو الدولة حالياً كدولة، لها الحق أن تقتل في نطاق القانون”
(البابا شنودة الثالث – الوصايا العشر في المفهوم المسيحي – الكتاب الثالث –  “ﻻ تقتل” – الطبعة السادسة)

“فالذين  يُعلِّمون  الناس طريقاً خاطئاً في الإيمان ، أو يرشدونهم إرشاداً خاطئاً يتلف حياتهم الروحية، إنما هم بذلك يكونون قد قتلوا هذه النفوس و ألقوها في الجحيم. ومن أمثلة هذا ما فعله الهراطقة والمبتدعون … قتلوهم بقتل أبشع من القتل الجسدي. لأنه في القتل الجسدي ربما تخلص الروح … بينما في الهرطقة … يكون مصيره الهلاك الأبدي. لذلك نضع في مقدمة أولئك القتلة اَريوس ومقدونيوس ونسطور … ولوثر وكثيراً من المبتدعين الحاليين كأصحاب بدعة شهود يهوه والسبتيين إلخ”
(البابا شنودة الثالث – الوصايا العشر في المفهوم المسيحي – الكتاب الثالث –  “ﻻ تقتل” – الطبعة السادسة)

رأي قرأته وأذهلني لشدة غرابته وتناقضه مع علاقة الله وتعاليمه للإنسان في العهد الجديد، والتي أسسها الرب يسوع المسيح في إرسالية تجسده لخلاص الإنسان لا لقتله. هذا الرأي قد يتسلل إلي ذهنية البعض عندما يخلطون بين عهد الله مع الإنسان قديماً وقبل مصالحة الله للإنسان بيسوع المسيح الذي خلق الإنسان جديداً

”إِذًا إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ: الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ، هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا. وَلكِنَّ الْكُلَّ مِنَ اللهِ، الَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ الْمُصَالَحَةِ، أَيْ إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحًا الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعًا فِينَا كَلِمَةَ الْمُصَالَحَةِ“
( كورنثوس الثانية : ٥)

إن العصور الوسطي المظلمة في أوروبا قد صاحَبَها ظهور نظرية لاهوتية تناسب المجتمع الإقطاعي لأمراء هذا العصر، هي نظرية أنسليم، الأسقف الكاثوليكي حوالي القرن ١٦، والتي علي هديها نشأ الفكر اللاهوتي الي (والذي يقول البعض منهم أنهم يتركونه حالياً). تقوم  تلك النظرية علي وراثة الإنسان لخطية أبيه   وضرورة عقوبته بالموت. وسيطر الفكر العقابي الذي لعدالة محاكم البشر علي فهم اللاهوت في الغرب تأثراً بالمجتمع وقتئذ. فمفهوم الشرق لخلاص المسيح أنه علاج و تأهيل و شفاء  لفساد وموت الإنسان، بينما الغرب غلبت عليه ملامح عصره من . ولأن شريعة العهد القديم قامت علي عدالة القضاء وليس عدالة الشفاء: “سافك دم الإنسان، بالإنسان يسفك دمه” (تكوين 9 : 6) – ”بِإِثْمِهِ الَّذِي فَعَلَهُ يَمُوتُ“ (حزقيال ١٣ :٣٣) لذلك فكلما احتاج بشر إلي السيطرة علي تابعية فإنه يبحث عن سند من شرعية إلهية لأوامره  و عاقبة العصيان، فيرجع إلي خطاب العهد القديم  بطريقة انتقائية لتخدم رأيه الخاص بغرض التمكين. ولأن الكتاب المقدس يحذر أن الذين بلا مرشد يسقطون كأوارق الخريف، لذلك كان شطط البعض الذين لم ينصتوا لتعليم الآباء. فادعوا بأن الله لم ينه عن القتل بصفة مطلقة في العهد الجديد، وهم في ذلك يخلطون خطاب العهد الجديد بخطاب العهد القديم وبالمخالفة للإيمان المسيحي.

أولاً : المسيح كمَّلَ   و شريعة العهد القديم ”ما جئت لأنقض بل لأكمل“ بمعني أنه وَصَل بالشريعة  إلي كمال شكلها وهدفها بحسب خطة الله ونضج الإنسان. لذلك فالالتزام بالناموس بمفهوم العهد القديم  هو خلط للكامل مع الناقص الذي لم يَكْمُل.  والرب يسوع أرانا بنفسه كيف حقق هدف العهد القديم للخلاص من الشر، فبينما يأمر  العهد القديم بقتل الزانية، نجد الرب يسوع لم  يترك المرأة الزانية  لليهود ليقتلوها، بل شفي طبيعتها الساقطة بالتوبة والغفران. وهكذا تَكمَّل العهد القديم في العهد الجديد بالمسيح، ليس بقتل الإنسان  كقضاء محاكم الأرض، ولكن  بإزالة الموت وفساده الذي سيطر علي طبيعته. فيسوع المسيح هو الطبيب العظيم الذي واجه موت الإنسان وفساد طبيعته علي الصليب وهزمه وأعطاه طبيعة جديدة.

ثانياً : إيمان منذ مجمع أورشليم برئاسة بعد سنوات قليلة من قيامة المسيح، منع التزام المسيحية بالتهود وناموس موسي وشرائع العهد القديم.

ثالثاً : رسائل وبخاصة غلاطية ورومية، هي شهادة دامغة لانتهاء العمل بشريعة العهد القديم بعد أن كمَّلتها شريعة الحرية في المسيحية.

رابعاً : المسيحية قاطبة  تقول إن الله  نهي عن القتل في العهد الجديد بصورة مطلقة. وبذلك فإن نص العهد القديم قد توقف العمل به في العهد الجديد لأنه قد اكتمل بشفاء الطبيعة الفاسدة  للإنسان القاتل بالتوبة والغفران. فهؤلاء الذين ينكرون أن الله نهي عن القتل بصفة مطلقة  في العهد الجديد،  اعتمدوا علي تفسيرهم الخاص لثلاثة آيات إعتبروها أدلة علي صحة فهمهم، فلجأوا إلي آية من العهد القديم بقتل القاتل “سافك دم الإنسان، بالإنسان يُسفَك دمه” (تك 9 : 6). وقول الرب يسوع  المسيح لبطرس “رد السيف إلي غمده لأن كل الذين يأخذون بالسيف، فبالسيف يهلكون” (مت 26 : 52). و أن  بولس الرسول صرح بالقتل بقوله أن السلطان لا يحمل السيف عبثاً (رو 13 : 4) ”إذ هو خادم الله منتقم للغضب من الذي يفعل الشر“.

خامساً : من العجيب أنهم يأتون بحادثة ضرب بطرس لأذن عبد رئيس الكهنة بالسيف وقطعها (مت 26 : 52) ويستخدمونها لإثبات أن الله لم ينه عن القتل بصفة مطلقة في العهد الجديد.  بينما قولهم هذا هو العكس تماماً لموقف المسيح الواضح  حيث نهي الرب يسوع تلميذه بطرس عن العنف والقتل بل وأظهر منهجه الشافي والغافر للمُعتدِي (بطرس) والمُعتَدي عليه (شفاء العبد مقطوع الأذن). ثم تحججوا بقول المسيح ”لأن كل الذين يأخذون بالسيف، فبالسيف يهلكون“ وكأن المسيح يؤيد القتل  بينما هو يُظهِر بقوله هنا مضادة تعليمه لِما يَسلك به العالم الذي وُضِعَ في الشرير.

سادساً : ِبناءً علي تفسيرهم الملتوي هذا نجدهم  يؤيدون عقوبة الإعدام  لأنهم يقولون أن الله لم ينه عن القتل بصفة مطلقة  في العهد الجديد، وأن هناك أنواع من القتل قد صرح بها الرب و لا تدخل في نطاق الخطيئة! فبينما الإنسان في معظم دول العالم ألغي عقوبة الإعدام لأنها لا تتوافق مع الرحمة التي أحسَّها الإنسان في إنسانيته (التي تحمل بصمات صانعها الرحيم)، نجد هؤلاء لا يستعملون الرحمة  بل ويقولون عن الله ما لم يقله.

سابعاً : بل ونجدهم يُخرِجون قول بولس الرسول ”(السلطان) لا يحمل السيف عبثاً“ عن نطاق المعني والاستدلال الذي يشير إليه الرسول بخصوص  سلطة الدولة في الضبط والربط، فاعتبروا قوله تصريحاً استثنائيا من الله للقتل.

ثامناً : نأتي إلي أخطر مرحلة لادعائهم بأن الله لم ينه عن القتل بصفة مطلقة في العهد الجديد فيقولون

“إذن وصية “لا تقتل” كانت وصية للمعاملات الفردية، و لكن جماعة المؤمنين عموماً وقت ذاك، أو الدولة حالياً كدولة، لها الحق أن تقتل في نطاق القانون”
(البابا شنودة الثالث – الوصايا العشر في المفهوم المسيحي – الكتاب الثالث –  “ﻻ تقتل” – الطبعة السادسة)

إن خطورة هذا المفهوم  تظهر إذا قرأنا رأيهم عن القتل بمفهومه الشامل والذي يتضمن ”قتل الروح“

“فالذين  يُعلِّمون  الناس طريقاً خاطئاً في الإيمان ، أو يرشدونهم إرشاداً خاطئاً يتلف حياتهم الروحية، إنما هم بذلك يكونون قد قتلوا هذه النفوس و ألقوها في الجحيم. و من أمثلة هذا ما فعله الهراطقة والمبتدعون … قتلوهم بقتل أبشع من القتل الجسدي. لأنه في القتل الجسدي ربما تخلص الروح … بينما في الهرطقة … يكون مصيره الهلاك الأبدي. لذلك نضع في مقدمة أولئك القتلة اَريوس و مقدونيوس و نسطور … و لوثر و كثيراً من المبتدعين الحاليين كأصحاب بدعة شهود يهوه و السبتيين إلخ”
(البابا شنودة الثالث – الوصايا العشر في المفهوم المسيحي – الكتاب الثالث –  “ﻻ تقتل” – الطبعة السادسة)

والسؤال هنا:
هل الدولة هي التي ستقوم بقتل الهراطقة الذين يقتلون الإنسان عندما يقترف جريمة ”قتل الروح“ كما يفسرون؟، أم الذي يقوم بالقتل هم جماعة المؤمنين؟ إن الدولة لا تفهم في الأمور الإيمانية  وبالتالي فإن ما يدَّعونه من حق الله في قتل مَن يقتل ”روح الإنسان“ يصير مسئولية جماعة المؤمنين! وهنا يكمن خطر الانفراد بتفسير الكتاب المقدس خارج تعليم الروح القدس الذي أعلنه في إجماع الكنيسة المسيحية بآبائها والمستقِر عبر عصورها  اعتمادا علي سلوك مسيحها و المكتوب في إنجيلها.

إنني أطالب – قبل أن يقوم أحد من خارج الكنيسة بذلك – بسحب هذا الكتاب من السوق بسبب خطر رأيه الشاذ علي سلامة الآخرين، فمِن المحتمل أن يعتبره أي شخص موتور غير منضبط وكأنه تنظير وفتوي بقتل مَن يخالف تعليم ال باعتباره مهرطقا.

لقد أحتكر الأنبا شنودة التعليم المسيحي في الكنيسة القبطية وأختزله في نفسه لأكثر من ٤٠ سنة. ونجح أن يفرض نفسه أسطورة متحكِّمة في أذهان أغلبية الأقباط بما يشبه “غسيل المخ”. وبحسب التفسير الخاطئ للأنبا شنودة فإن الهرطقة أشد من “القتل الجسدي” لأنها ”قتل للروح“، وبالتالي تؤدي إلي القتل الأبدي. ومثل هذا التفسير الدموي كان سبباً في إباحة الإدارة الكنسية لقتل مسيحيين في العصر الوسيط المظلم بأوروبا. ومن المرجَّح جداً أنه مهَّد الطريق لاغتيال الشهيد “أنبا إبيفانيوس” رئيس دير القديس في صحراء مصر منذ سنوات قليلة علي يد راهب مارق بنفس الدير وبدم بارد بسبب معاداة أنبا شنودة علي مدي عشرات السنين لتعاليم القمص متي المسكين أب رهبان هذا الدير المبارك .

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

"القتل المُباح" في رأي اﻷنبا شنودة  1
[ + مقالات ]