يأتي شهر فبراير هذا العام مع الذكرى الأولى لرحيل اللاهوتي د. جورج حبيب بباوي الذي ارتبط اسمه بالهرطقة بعد قرار مجمع أساقفة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، الصادر بعزله وقطعه من شركة الكنيسة سنة 2007 بإمضاء من البابا شنودة الثالث و66 أسقف آخرين دون حضور المتهم وبلا محاكمة، وحين سؤل البابا تواضروس عنه قال إنه يعرفه اسمًا فقط، بالرغْم من إنه كان واحدًا من الأساقفة الـ66 من الموقعين على قرار الحرمان، مما يشير إلى عدم اطّلاع أساقفة المجمع على أراء المحكوم عليه وعدم استماعهم إلى دفاعه، وهو ما يخالف القوانين الكنسية المعمول بها، فالتوقيعات جاءت إذعانًا لرغبة البابا الراحل الذي أغنى صوته عن بقية الأصوات، ولم يمل جورج بباوي من مطالبة الكنيسة بمحاكمته طوال حياته، وقوبلت مطالبته بالتجاهل والرفض حتى رحيله.
الدب الذي قتل صاحبه
كان جورج بباوي واحدًا من الشخصيات المقربة للبابا الراحل بشدة حتى إن البابا قد كلفه بمناصب عدّة منها على سبيل المثال لا الحصر، منصب وكيل الكُلْيَة الإكليريكية، ومنصب سكرتير الوفد القبطي في الحِوار مع الفاتيكان، وممثلًا لبابا الإسكندرية في لجان دراسة وصياغة اللقاءات العالمية، ومدرسًا في الإكليريكية بطنطا.
كان بباوي صديقًا مقربًا للبابا الراحل الذي أهداه يومًا قلنسوته الشخصية، لكن دوام الحال من المحال، فسرعان ما انقلبت الأوضاع ليتحول بباوي إلى عدو البابا شنودة اللدود وأشرس مهرطقي الكنيسة في العصر الحالي، هكذا بلا مقدمات، وكأن البطريرك الراحل لم يكن على دراية بمن يعينهم ويكلفهم بالمهام الرفيعة، ووصف بباوي ما تعرض له من هجوم وتكفير بمثابة عملية قتل بطيئة ومريرة.
بداية القطيعة
بدأ الاحتقان حين صرح البابا الراحل بعدم قدسية أي زواج غير أرثوذكسي ووصف زواج الطوائف الأخرى بالزنا، مما أثار حفيظة الكثيرين. كتب بباوي وقتها مقالة انتقد فيها ما جاء في تصريح البطريرك باعتباره كلامًا يقلل من ناموس الطبيعة ويهين الكثير من العائلات بلا وجه حق، وتسببت تلك المقالة البسيطة في تحويل بباوي إلى أول محاكمة كنسية. ومرت تلك الحادثة بسلام إلى أن اصطدم بباوي مع البابا مجددًا حين طالبه البابا بكتابه نقد لكتب الأب متى المسكين والأنبا إغريغوريوس، أسقف البحث العلمي، وقال بباوي إنه ببساطة غير مقتنع بوجود أخطاء بتلك الكتب، ولا يجد شيئًا ليكتبه عنها.
جاءت الضربة الثانية لتكون أفدح حين رفض بباوي ما جاء في عظة البابا شنودة بخصوص تناول المرأة خلال العادة الشهرية، وهو ما تسبب في مشادة كلامية بينهما قال فيها بباوي للبابا إن كلامه يتنافى مع القداس الإلهي ويشير إلى عدم فهم لصلوات الكنيسة، فأمر البابا بوقف بباوي عن التدريس وقطع مرتبه لمدة عام.
لم يجد بباوي في ذلك الوقت سبيلًا لإعالة أسرته، مما دفعه إلى البحث عن أي فرصة لكسب الرزق، وجاء الفرج الإلهي حين حصل على منحة مجانية من جامعة برمينجهام للسفر إلى إنجلترا، وسافر بباوي وكأن لسان حاله يقول: “هوذا بيتكم يترك لكم” ليقابل بضغوط البابا الراحل للتضيق عليه لتلفظه الجامعة التي أرسل لها جوابًا مفاده أن بباوي مهرطق ومن يتعامل معه يعادي الكنيسة القبطية.
أما الضربة القاضية جاءت حين سؤل بباوي في إحدى اللقاءات عن خلافات البابا مع السادات فوصف رفض البابا لتأدية صلاة العيد وخروجه بمظاهرات بسبب أزمة كنيسة الزاوية الحمراء في هذا الوقت بالأمر غير الحكيم، مما تسبب في القطيعة الكاملة، وانتهى الأمر بمنعه من شركه الكنيسة بالكامل -أي منع دخوله وممارسته للأسرار وليس منعه من الخدمة فقط- وأرسل بباوي خطابًا للبابا يقول فيه:
“لست في حاجة لأن أشرح لقداسة بابا الإسكندرية الإجراءات التي ينبغي اتخاذها كي يصدر حكم بهذا الجزاء الرهيب.. فمن الثابت أنني لم أواجه بقائمة تهم محددة. ومن الثابت أنه لم تشكل لجنة للفصل في هذا الأمر من الهيئة الكنسية القانونية التي ناط بها القانون الكنسي للفحص وإصدار الأحكام. ومن الثابت أن حكمًا قانونيًا شرعيًا لم يصدر في مواجهتي. والذي يخلص من كل ذلك أن ما تضمنه بيان الآباء الموقرين وخطاباتهم لا يستند إلى أي سند قانوني. وأنني واثق أن قداستكم وأنتم خير من يعرف القانون الكنسي.“
الموضوع أساسه نفسي
كان الأنبا إغريغوريوس أسقف البحث العلمي، أبرز من دافعوا عن جورج حبيب بباوي، فنقرأ في مذكراته خطابه الذي أرسله لبباوي ينصحه فيه بألا يجهد نفسه في مخاطبة البابا شنودة قائلًا: “إن الموضوع أساسه نفسي”.
ونقرأ أيضًا الخطاب الذي أرسله الأنبا إغريغوريوس للبابا شنودة بشأن بباوي، وجاء فيه:
“يا صاحب القداسة، الواضح أنه لم يكن منطقكم في موضوع جورج حبيب منطلقًا لاهوتيًا عقائديًا بالدرجة الأولى، وضميركم الباطن يشهد ويعلم هذا جيدًا. وكل من يعرفكم عن قرب يعرف هذا عنكم جيدًا. وهذه حقيقة لم تعد خافية على أحد غير البلهاء وغير العارفين. وليكن أن لجورج حبيب أو غير جورج حبيب أخطائه، فهل بهذا الأسلوب تعالج الكنيسة أمورها؟”
(السيرة الذاتية للأنبا إغريغوريوس)
الخطب المؤلم هو أن البابا شنودة الثالث قد اعترض من قبل عندما كان أسقفًا للتعليم على قرار المنع دون محاكمة سابقه ووصفه بالظلم حين منعه البابا كيرلس السادس من ممارسة الشعائر الدينية لفترة. فكتب الأنبا شنودة أسقف التعليم خطابًا إلى البابا كيرلس قائلًا:
“منع أسقف من أداء الشعائر الدينية. لا يمكن أن يتم حسب قوانين الكنيسة وتقاليدها إلا بواسطة المجمع المقدس بعد محاكمة قانونية.”
(اﻷنبا شنودة أسقف التعليم – السيرة الذاتية للأنبا إغريغوريوس)
ويحق لنا أن نسأل: أين ثقافة الاختلاف هنا؟ وهل تتفق سياسة البطش تلك مع تعاليم المسيح “من ليس علينا فهو معنا“؟
مغالطة رجل القش
أما عن أسلوب الاحتجاج المنطقي الذي اتبعه البابا الراحل مع جورج بباوي وغيره من المحرومين، فحدث ولا حرج. فالمغالطات المنطقية لا حصر لها، لكن مغالطته الأشهر على الإطلاق هي مغالطة رجل القش (Strawman Fallacy) وهي من أشهر المغالطات التي يتفتق لها الذهن حين يريد المرء التنكيل بخصمه دون وجود حجج منطقية فيلجأ إليها، تعتمد تلك المغالطة على التهويل من حِجَّة الخَصْم وتحريف كلامه ليحمل أكثر من معناه حتى يسهل هدمه، وكأنك تصنع رجلًا من القش ثم تهدمه بكل سهوله.
مثال: تحدث جورج بباوي في كتبه ومحاضراته كثيرًا عن عقيدة التأله التي كتب عنها الآباء وآمنوا بها. ومفاد تلك العقيدة هو أن الإنسان حين يتحد بالله يصير إلهًا مخلوقًا وشريكًا للطبيعة والمجد.
لاحظ كيف انتقد البابا الراحل الفكرة ليلصق بجورج تهمة الهرطقة:
قال البابا في عظاته إن تلك العقيدة تهدم لاهوت المسيح وتجعل الإنسان مساويًا لله، مما يجعل المسيح كأي شخص عادي.
“صدقوني يا أخوتي من يريد هدم التجسد سيجعله يبدو كشيء عادي يمكن أن يحدث لكل البشر”
(البابا شنودة الثالث)
لم يقل جورج بباوي أبدًا إن الإنسان يصير مثل الله تمامًا، ولم يقلل من تجسد المسيح، بل على العكس قال إن التجسد هو الخطوة الأولى التي بدونها لن يتأله الإنسان.
“ولذلك لا تتم الخطوة الثانية بدون الأولى. والشركة في الطبيعـة الإلهيـة لا تلغـي طبيعـة الإنسـان كمخلـوق، بـل تحفـظ الطبيعـة المخلوقة إلى الأبد، وتعطي لها كل أمجاد الابن المتجسد”
(جورج حبيب بباوي)
هل رأيت كيفية تشويه رأي الخَصْم بانعراج الحديث إلى ما لم يكن يعنيه، وخلق حِجَّة هاشة لهدمها بسهولة بدلًا من هدم الحِجَّة الأصلية؟
بباوي والأكاديميا المسيحية
حصل بباوي على الدكتوراه في اللاهوت من جامعة كامبريدج، ودرس الإنجليزية، والعربية، والقبطية، والآرامية، واليونانية، والسريانية، والعبرية، والفارسية، والفرنسية، واللاتينية. ويعد الإنجاز الأهم لجورج بباوي هو اهتمامه بالبحث العلمي والباترولوجي (علم دراسة كتب الآباء)، وتأسيسه لموقع الدراسات القبطية والأرثوذكسية. ففي وقت يكتفي فيه الناس بسماع العظات وتصديق ما بها دون بحث، جاء هذا الرجل ليرفع راية البحث الأكاديمي. وفي وقت نصطدم فيه بكتيبات صغيرة للجيب يكتبها بابا الإسكندرية والمطارنة لتقدم للقارئ بعض الخواطر على أنها لاهوت وبلا مراجع ولا مصادر، وبلا احترام لعقل القارئ قِيد أنملة، جاء بباوي ليقدم لنا كنز من كتب ومجلدات مدعومة بشواهد من أمهات الكتب، ويمكنك مراجعة ما شئت لتحقق مما يكتبه. أما محاضراته على اليوتيوب، فستجد فيها عمق اللاهوتي ممتزجًا ببساطة المعلم الموهوب.
الإيمان والممارسة
لطالما تحدث جورج بباوي عن خطورة عبادة الممارسة ومساواتها بالمعبود، وقال إن حديثه عن اختلاف الممارسات الكنسية عبر العصور ليس الغرض منه الثورة والتمرد، بل هدفه توضيح الفرق بين الإيمان والممارسة، كي لا تصبح الممارسة هدفًا في حد ذاتها. على سبيل المثال، كان العلمانيون قديمًا يتناولون بمفردهم في المنازل، والآن قد تغيرت الممارسة تمامًا، لكن ظل الإيمان بالإفخارستيا ثابتًا.
“عندما تصبح الوسيلة هي الغاية، نقع في أشد خطية.. تبقى العلامات والرموز والصلوات والممارسات وسائل تقربنا من الله”
(جورج حبيب بباوي)
خدمته وتأثيره
لو كنت تسمع عن بباوي لأول مرة، ربما ستظن أن تأثيره توقف بقرار وقفه، لكن، المثير للدهشة أن نعمة الله رافقته طوال تلك الرحلة المؤلمة وأصبح له تلاميذ في شتى بلاد العالم، وفي ذكرى نياحته يوم الرابع من فبراير، امتلأ موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك بمنشورات تشهد عن تأثيره.
“من حوالي 15 سنة أو أقل شوية، كنت واحد من أشد مؤيدي المطران بيشوي (واللي يعرفوني شخصيا عارفين ده كويس)، وكان على النقيض واحد زي متى المسكين عندي مهرطق، عدو للكنيسة، بيفتي في اللاهوت. كانت قناعتي بده زاي قناعتي إني أشرف! … افتكر اني بعت للمطران رسالة قلتله فيها اني بطلب معونته في الرد على التأله اللي كان منتشر نسبيا بين بعض الاراء هنا وهناك، وفاكر انه رد بذوق عليا وبعتلي مقدمة بحث ليه مع بداية الرسالة بلفظ “الابن اشرف…”، اللي كانت وقتها كلمة في رسالته مخلياني مزقطط،
لفت سنين تاني، وكان النت بداية طفرة، وكان أول مرة اسمع عن وجود ترجمات آبائية فرنسية وانجليزية (كان ظني وقتها إن كلها يوناني ولاتيني)، ومكانتش متوفرة free online، فطقت في دماغي أما أجهز كام رد على المنتديات على المهرطق متى المسكين، ووقتها كان ابتدا تاني شخص يظهر ميقلش عنه هرطقة اسمه جورج بباوي، وكنت أنا قاريء ممتاز لكتب البابا والمطران، بدون مبالغة قريت كل كتبهم أكتر من مرة، وكنت متشبع عمياني بكلامهم، وفعلا قلت لازم أرد على العك المسكيني البباوي ده..
قريت تاني وتالت ورابع، ملقتش أي نصوص فيها مشكلة، مسكت كتب البابا اللي كان بقالي سنتين أو اكتر منقطع عنها هي وكتب المطران عشان استرجع الاعتراضات (كنت بقول لنفسي أنت اللي مش شايف السم في العسل!)، وبعد كام صفحة حسيت إن في جبل بيتحط على دماغي، اعتراضاتهم عليه هي اللي مخالفة للآباء !!! ازاي ؟.. بس قلت يمكن الأب متى المسكين أب رهبنة مختبر مش سهل يتمسك عليه غلطة، قلت أشوف جورج بباوي المهرطق الأكبر، وكانت الصدمة بعد ما قريت في حوالي سنة تانية كتبه (اللي كانت متاحة أونلاين وكان ابتدا النت يرخص)، إن جورج بباوي كان أكثر تطابق مع الآباء من متى المسكين!!! لدرجة إني كان ممكن أرصد اختلافات آبائية مع المسكين بس شبه مستحيل مع بباوي.. وكان كل كتاب بقراه قلم بيخبطنى وبينزل على وشي”
( أشرف بشير على صفحته الشخصية بفيسبوك، بتاريخ 7/6/2017 )
لم يتوان الدكتور جورج حبيب بباوي عن تقديم الخِدْمَات المجانية من الكتب والعظات بالرغْم من مرضه إلى أن انتقل من عالمنا في العام الماضي، وكانت وصيته هي أن نروي قصته للأجيال القادمة ونرفع دعواه إلى أن يظهر الحق. ونتمنى أن نكون قد ساهمنا بهذا المقال على تنفيذ جزء يسير من وصيته تلك.
سلاما لروحك يا د. جورج.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
نحاول تخمين اهتماماتك… ربما يهمك أن تقرأ أيضا:
- الكلب والبجع في البلاد الإسكندينافية (السويد والنرويج وفنلندا والدنمارك وأيسلندا) تكثر المياه الضحلة التي يتوالد فيها السمك بكثرة، ولذا يكثر أيضاً الصيادون هناك. خرج الصياد ليصطاد وكان معه قاربه الصغير، لا يحمل فيه سوى أدوات الصيد ودلو بلاستيك فيه الطُّعم الذي يستعمله لصيد الأسماك، مع كلبه الظريف الأمين الذي لا يكاد يفارقه. وأثناء تجول الصياد بين الجزر......