نشأنا خلال العقود السبعة الأخيرة على مفهوم محدد للقداسة في كنيسة الإسكندرية القبطية، وهو أنها تنحصر في الماورائيات والأمور الخارقة للطبيعة أو غير المنطقية. كان يُنظر إلى القديس على أنه من يسير على الماء ويشفي الأمراض المستعصية. لكن الأنبا باخوميوس، مطران البحيرة ومطروح والخمس مدن الغربية في ليبيا، والذي رحل عن عالمنا يوم الأحد الماضي، ٣٠ مارس ٢٠٢٥، عن عمر ناهز التسعين عامًا، أسس مفهومًا جديدًا للقداسة خلال فترة إدارته للكنيسة في وقت عصيب على مصر كلها بين ١٧ مارس و١٨ نوفمبر ٢٠١٢. ورغم أنها فترة ثماني أشهر، فقد تركت أثرًا في كل من تابع عمله.
حصل الأنبا باخوميوس على لقب البابا بلا رقم
نظرًا للكفاءة والحنكة اللتين أدار بهما الكنيسة، في وقت كانت فيه مصر تعاني من حالة سيولة بعد أحداث يناير ٢٠١١. ومع انتشار حوادث عنف لم يُعرف المسؤولون عنها حتى الآن في شارع محمد محمود وأمام مجلس الوزراء وماسبيرو، واعتداءات طائفية على المسيحيين في محافظة الجيزة في قرية أطفيح (مارس ٢٠١١) وحي إمبابة (مايو ٢٠١١)، مهدت كل هذه الأحداث لوصول جماعة الإخوان المسلمين إلى الحكم. ويرحل البابا شنودة، الذي اشتد عليه المرض في آخر سنة، عن عمر يناهز ٨٩ عامًا، مما صعّب مهمة القائمقام البابوي.
لكن الأنبا باخوميوس، بالرغم من المهمة الصعبة، تعامل بكل حكمة ورويّة في إدارة شؤون الكنيسة. وكان همه الشاغل هو اختيار بابا جديد للكنيسة، خاصة مع وجود الإخوان في الحكم، مما صعّب المهمة في ظل وجود لائحة ١٩٥٧ لاختيار البابا، التي عفا عليها الزمن في قواعدها وشروطها التي لم تعد تناسب العصر. ورغم وعوده بتغييرها عند اختياره بطريركًا في ١٤ نوفمبر ١٩٧١، رفض البابا شنودة إجراء أية تعديلات عليها حتى مماته.
عمل الأنبا باخوميوس من خلال اللائحة المعيبة والمقيدة، وأُجريت الانتخابات، وبعدها القُرعة الهيكلية، وصولًا إلى اختيار الأنبا تواضروس، أسقف عام البحيرة وقتها، ليكون البابا رقم ١١٨ في بابوات الإسكندرية. وللوصول إلى هذه اللحظة، اتخذ الأنبا باخوميوس العديد من الإجراءات والقرارات التي احتاجت إلى حكمة وشجاعة وشخصية تتمتع بحسم القيادة.
إعطاء العيش لخبازه
كان الأنبا باخوميوس يضع صورة البابا شنودة الثالث على الكرسي الذي كان يجلس عليه، وكان يجلس في كرسي مجاور له في جميع اللقاءات المختلفة. كان يعرف أنه يسيّر أعمال الكنيسة ولا يرغب في الجلوس على كرسي البابا. وعلى عكس طريقة البابا شنودة صاحب الكاريزما القوية، اتبع الأنبا باخوميوس نهجًا مختلفًا، فكان يرى أن دوره أن يكون مديرًا وليس زعيمًا. كان يختار الأشخاص المناسبين لأداء المهام المختلفة بين إكليروس، سواء أساقفة أو كهنة، أو علمانيين من أصحاب التخصصات المختلفة، خاصة القانونية. ولا يُخفى أن المساعد الأبرز للأنبا باخوميوس في إدارة العملية الانتخابية وإجراءاتها كان الأنبا بولا، مطران طنطا الحالي والنائب البابوي على إيبارشية البحيرة بعد رحيل البابا شنودة، لحين رسامة أسقف جديد للبحيرة.
إغلاق واحتواء ملفات قديمة
كان الأنبا باخوميوس يمنح الجميع مساحة للعمل، وكانت النتائج تصب لديه ليتخذ القرارات الصحيحة في الوقت المناسب. وكان يستمع للجميع ولم يغلق بابه في وجه أحد، ففتح الأبواب لكل المغضوب عليهم. وقابل جميع الفئات المختلفة في الكنيسة والمجتمع، ومن بينهم التيار العلماني القبطي، وأهدوه أوراق مؤتمراتهم ومقترحاتهم، وقرأها الرجل بعناية. كما أعاد بعض الأساقفة المُستبعدين على يد البابا شنودة وعصاه الغليظة؛ الأنبا بيشوي، مطران دمياط الراحل ورجل المحاكمات الكنسية. وشارك بعضهم في قداس الأربعين الخاص بالبابا شنودة، ومن بينهم الأنبا، تكلا مطران دشنا، والأنبا إيساك، الذي تم رسامته فيما بعد أسقفًا عامًا في البحيرة ليعاون الأنبا باخوميوس، قبل أن يرحل عن دنيانا في سبتمبر ٢٠٢٢.
الاستماع لصوت الشارع
في أكتوبر ٢٠١٢، شاركت في لقاء عُقد للصحفيين المتابعين لشؤون الكنيسة في المقر البابوي بالكاتدرائية بحضور الأنبا باخوميوس. طُلب من الحضور أن يتحدثوا بكل صراحة وأن ينقلوا إليه نبض الشارع. وقتها، أشرت خلال حديثي إلى غضب الشباب القبطي من ترشّح الأسماء القديمة كالأنبا بيشوي، مطران دمياط. طلب مني وقتها عدم ذكر أسماء، ولكنه أنصت جيدًا لكلمتي، حيث قلت: إنكم أردتم منا أن نتحدث بصراحة
. تركني ولم يُصادر على رأيي. في النهاية، تم تصفية المرشحين الـ١٧ إلى خمسة، بينهم اثنان من الأساقفة العموم وثلاثة رهبان، واستبعاد كل أساقفة الإيبارشيات ومعهم الأنبا يوأنس، الأسقف العام وقتها وأسقف أسيوط الحالي.
في ذلك الوقت، كان الجدل دائرًا حول لجنة الـ١٠٠ لكتابة الدستور، التي هيمن عليها الإخوان. بدأت شخصيات عامة مختلفة تنسحب من تلك اللجنة، وكانت هناك مُطالبات للكنيسة بأن تسحب ممثليها. عندما ناقشنا الأنبا باخوميوس في هذا الشأن، أبدى تفهمًا كبيرًا. وأوضح أنه بناءً على ما وصله من المقابلات والآراء المختلفة، يجب أن تنسحب الكنيسة. وقال نصًا خلال اللقاء: عندما نتخذ قرارًا، فإننا نفكر جيدًا في تأثيره على جميع الأقباط. نفكر فيمن يعيشون في القاهرة، كما نفكر فيمن يعيشون في القرى النائية والبعيدة، جميعهم أبناؤنا ويجب أن نحافظ عليهم
. تفهمت وقتها وجهة نظره، وأدركت كم كان هذا الرجل حكيمًا وقائدًا جيدًا، يتخذ قراراته برويّة ودراسة، ودون تعجل أو بطء زائد عن اللازم.
الحسم مع الاعتداءات الطائفية
في أغسطس ٢٠١٢، وقعت أول أحداث طائفية في عهد الرئيس الإخواني محمد مرسي في قرية دهشور، جنوب محافظة الجيزة. ذهبت لتغطية ما حدث، وتحدثت مع المواطنين هناك، مسلمين ومسيحيين، بعدما دُمرت غالبية بيوت المسيحيين إثر مشكلة بين مسيحي وجاره المسلم تحولت إلى عقاب جماعي لكل المسيحيين. اكتشفت أن المسلمين يلومون أنفسهم على هذا العنف، وربما كان السبب الرئيسي، من وجهة نظري، هو عدم وجود مياه شرب نظيفة. بالإضافة إلى ذلك، كانت القرية تعوم على بركة آسنة من مياه المجاري لعدم وجود صرف صحي، وكان المواطنون يشعرون بضيق الحال، مما تحول إلى غضب فيما بينهم، مع تحريض من بعض المتطرفين، فكان العقاب من نصيب الحلقة الأضعف والأقل عددًا، أي المسيحيين.
في ذلك الوقت، تحدثت إلى الأنبا باخوميوس للحصول على تعليق منه على الأحداث، خاصة بعد التقليل من شأن ما حدث من قِبَل مرسي وجماعته وحكومته. فكان رده: يعني هيَّ الناس حرقت بيوتها بنفسها؟
وقتها، كانت له وقفة قوية، وطالب مرسي وحكومته بتحمل مسؤولياتهم ووقف الاعتداءات على المسيحيين.
عدم الطمع في الكرسي البابوي
طلب الكثيرون من الأنبا باخوميوس الاستمرار كقائم مقام للبابا أو أن يصبح البابا الجديد للكنيسة، نظرًا للطريقة التي أدار بها الكنيسة والتي جعلت الكثيرين يشعرون معه بالاطمئنان في ظل الوضع الصعب. وكان رده: هاتعوزو بعد سنة، سنتين، أن تبحثوا عن بطريرك جديد، ونحن لا نعرف ظروف البلد في ظل الإخوان
. وقد رفض هذه المقترحات رفضًا قاطعًا، أي أنه رأى أن هذا الأمر ليس من مصلحة الكنيسة، فلم تغره شهوة الكرسي والسلطة، بل سلم الكنيسة مترابطة ومتماسكة على الرغم من الصعوبات والضباع التي كانت تحوم حول السلطة في نهاية عهد البابا شنودة.
وقال في لقاء قبل الانتخابات البابوية بأيام؛ إنه يفضل العودة إلى إيبارشية البحيرة وأبنائه هناك. وأوضح: أنا هأخلص مهمتي وأرجع لإيبارشيتي مع أولادي، وأقعد وسطهم على الحصيرة
. هكذا وعد، وهكذا فعل. فبمجرد أن رُسم البابا تواضروس، عاد إلى البحيرة ولم يتجاوز دوره كمطران للبحيرة، مع أنه كان يمكن أن يظل بجوار البابا الذي كان قبلًا مساعدًا له. لكنه قال يوم الرسامة: أصير له ابنًا وخادمًا
.
لقد كان الأنبا باخوميوس بحق رجل الله، البابا الذي لا رقم له، والذي تمنى بعض السياسيين لو أنه أٌديرت المرحلة الانتقالية في مصر بعد ٢٥ يناير ٢٠١١، كما أدار الكنيسة بهدوء وحكمة، ولم تجرفه شهوة الكرسي ولا السلطة، ورحل بشيبة صالحة بعدما تحمل آلام المرض في سنواته الأخيرة.
لعلَّ لوعتنا في وداعه، لأننا نودِّع سيِّد سياسات الحسم والإفراز، والفارس الذي وقف كحارسٍ لنا من مُشتهي السلطة.
باحث وكاتب صحفي متابع للشأن الكنسي وشؤون الأقليات.
زميل برنامج زمالة الأقليات- مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان- الأمم المتحدة، جنيف/ ستراسبرج 2023.
زميل برنامج "الصحافة للحوار" مركز الحوار العالمي (كايسيد) لشبونة 2022.