المقال رقم 17 من 17 في سلسلة الخطية الأصلية في فكر الآباء

هذه هي الحلقة الأخيرة من هذه السلسة التي دار الحديث خلالها عن المفهوم الشرقيّ الأرثوذكسيّ للخطية الجدية، ممثلًا في ق. كيرلس السكندري، والقديس ، وهو طرح مختلف عن المفهوم الغربيّ اللاتينيّ، ممثلًا في القديس وس، أسقف هيبو، الذي كان المحرِّك الرئيس وراء مفاهيم الثلاثة التي ناقشت الهرطقة ال، وقضت بحرمها. بالتالي، نرى أن المفهوم الغربيّ مختلف تمامًا عن المفهوم الشرقيّ للخطية الجدية، بسبب تأثير كتابات أوغسطينوس أسقف هيبو على الغرب اللاتينيّ بقوةٍ.

براءة الأطفال من الخطية الأصلية

يشير ق. كيرلس السكندري إلى وجود معمودية الأطفال في عصره، حيث يُؤكِّد على إحضار الاشبين المسؤول عن الطفل به لينال مَسْحَة الموعوظين، ثم يحصل على المَسْحَة الكاملة بالمعمودية المقدَّسة، ولم يأت ق. على ذكر أية خطية موروثة تمحوها المعمودية المقدَّسة في الأطفال، بل كانت إشارته إلى نوال المَسْحَة المقدَّسة في المعمودية كالتالي: [1]

لأنه حينما يُحضِرون طفلًا مولود حديثًا لكي ينال مَسْحَة الموعوظين، أو يحصل على المَسْحَة الكاملة بالمعمودية المقدَّسة، فإن مَنْ يُحضِره إلى المعمودية [أي الاشبين] يُكرِّر بصوتٍ عالٍ قائلًا: 'آمين‘ نيابةً عنه.

(كيرلس السكندري، تفسير إنجيل يوحنا ج2)

يتحدَّث ق. كيرلس السكندري عن مصير اﻷطفال غير المعمَّدين، ويُذكِّرنا موقفه هذا بموقف كل من كاتب عظة ”صوم المسيح“ المنسوب إلى ق. أثناسيوس، وموقف ق. في عظته عن ”الموت المبكر للأطفال غير المعمدين“. حيث يقول ق. كيرلس في رده على سؤال الشماس أنثيموس (منشور القول في بردية crum حقَّقها وعلَّق عليها العالم Ehrhard) التالي: [2]

أنثيموس: هل يدخل الأطفال الصغار إذَا ماتوا قبل أن ينالوا المعمودية الملكوت؟ كيرلس: حقًا الملكوت هو لهم، لأنهم عندما تكوَّنوا في بطون أمهاتهم قد حُسِبوا للملكوت. وبالإضافة إلى ذلك، إذَّا كان الجذر مُقدَّسًا، هكذا تكون الأغصان.

(A. Ehrhard, Der PapyrusCodex Saec. VI- VII Der Philipusbibliothek in Cheltenham Koptische theologische Schriften)

نجد هنا ق. كيرلس السكندري لم يقل إن الأطفال غير المعمَّدين لن يدخلون الملكوت بسبب عدم معموديتهم، ولا بسبب الخطية الأصلية الموروثة كما يقول أوغسطينوس، بل الملكوت هو لهم من بطون أمهاتهم، لأنهم مُقدَّسون من البطن بلا خطية.

ويشدد ق. كيرلس، على العكس من أوغسطينوس واللاهوت الغربيّ، على براءة الأطفال من أي خطية سواء خطية أصلية موروثة أو خطية فعلية قائلًا: [3]

ولكن الولد الذي قد أخذه لأيّ شيء جعله مثالًا ورسمًا؟ لقد كان مثالًا لحياة بريئة غير طامعة، لأن عقل الطفل خالٍ من الخداع، وقلبه مُخلِص وأفكاره بسيطة، وهو لا يطمع في الدرجات […] في قلبه وعقله توجد صراحة كبيرة ناشئة من البساطة والبراءة. وقال المخلص نفسه مرةً للرسل القديسين، أو بالحري لكل الذين يحبونه: الحق أقول لكم، إنْ لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد، فلن تقدروا أن تدخلوا ملكوت الله [4].

(كيرلس السكندري، تفسير إنجيل لوقا)

ويستطرد ق. كيرلس في نفس السياق مؤكدًا على بساطة وبراءة الأطفال من أيّ خطية كالتالي: [5]

وكما سبق أن قلت، فإن المسيح أحضر الولد كنموذج للبساطة والبراءة، وأقامه عنده، مبينًا بذلك  –كما في رسمٍ توضيحيّ–  أنه يقبل الذين مثل هذا الولد ويحبهم، ويحسبهم مستحقين أن يقفوا إلى جواره لكونهم يُفكِّرون مثله ويتوقون للسير في خطواته. لأنه قال: تعلَّموا مني لأنيّ وديع ومتواضع القلب [6].

(كيرلس السكندري، تفسير إنجيل لوقا)

يشير ق. كيرلس إلى معمودية الأطفال، حيث يُقرَّب الأطفال ويُباركون من المسيح عن طريق الأيادي المكرَّسة، ونموذج هذا الفعل، أي تكريس الأطفال بالمعمودية ومسحة الميرون، لا يزال مستمرًا إلى هذا اليوم، لأنه منحدر بالأساس من عادة المسيح كينبوع لهذه البركة، ولكن لا يتمّ تقديم الأطفال بطريقة غير لائقة أو مُشوشة، بل بترتيب ووقار ومخافة. وهنا لم يأت ق. كيرلس على ذكر تقديم الأطفال للمعمودية من أجل مغفرة الخطية الأصلية المورثة، بل للتقريب والبركة من المسيح والتكريس بالأيادي المكرَّسة قائلًا: [7]

والأطفال إلى الآن يُقرَّبون ويُباركون من المسيح عن طريق الأيادي المكرَّسة، ونموذج هذا الفعل لا يزال مستمرًا إلى هذا اليوم، وقد انحدر إلينا من عادة المسيح كينبوع لهذه البركة. ولكن لا يتمّ تقديم الأطفال بطريقةٍ غير لائقةٍ أو مُشوشةٍ، بل بترتيبٍ ووقارٍ ومخافةٍ.

(كيرلس السكندري، تفسير إنجيل لوقا)

يؤكد ق. كيرلس على قلة معرفة الأطفال أو عدم معرفتهم على الإطلاق، ولذلك يتمّ إعفائهم بعدلٍ من تهمة الانحراف والشرّ، وهنا يؤكد ق. كيرلس على براءة الأطفال من أي شر أو انحراف أو خطية سواء خطية أصلية موروثة أو خطية فعلية. وهذا عكس الموقف الذي اتَّخذه أوغسطينوس والغرب من بعده من الأطفال، وخاصةً الأطفال غير المعمَّدين، الذين اعتبره أوغسطينوس والغرب مذنبين بسبب خطية الأصلية التي ورثوها بالولادة من أبويهما، ويرى أوغسطينوس أن مصير الأطفال غير المعمَّدين هو الجحيم أو الليمبوس، وهو درجة من درجات الجحيم أخف وطأةً وتعذيبًا من درجات تعذيب الأشرار والخطاة البالغين كالتالي: [8]

ولكن مِن الضروريّ أن نفحص ما معنى أن نكون أطفالًا في الشرّ، وكيف يصير الإنسان هكذا، أمَّا في ذهنه فيكون كاملًا. فالطفل بسبب أنه يعرف القليل جدًا أو لا يعرف أيّ شيء مطلقًا، يُعفَى بعدلٍ من تهمة الانحراف والشرّ. هكذا أيضًا من واجبنا أن نسعى للتمثل بهم بنفس الطريقة، بأن نطرح عنَّا تمامًا عادات الشرّ، لكي نُعتبر كأناس لا يعرفون حتى الطريق المؤدي للخداع، بل كمَّن لا يعرفون الخبث والاحتيال، وهكذا يعيشون بأسلوبٍ بسيطٍ وبريء، ويمارسون اللطف والاتضاع الفائق الثمن، كما يمتنعون بسهولةٍ عن الغضب والحقد. ونحن نؤكد أن هذه الصفات هي التي توجد في أولئك الذين لا يزالون أطفالًا. لأنه بينما تكون صفاتنا هكذا في البساطة والبراءة، فإنه ينبغي أن نكون كاملين في الذهن، فيكون لنا ذهنًا مؤسَّسًا بثباتٍ في المعرفة الواضحة للذي هو بالطبيعة وبالحق خالق الكون، وهو الإله والربّ.

(كيرلس السكندري، تفسير إنجيل لوقا)

تفسير آية ”هأنذا بالإثم حُبل بي …“ [9]

يُفسِّر ق. كيرلس الإسكندري آية (مزمور ٥١: ٥/ مزمور٥٠: ٥)، فلو كان يؤمن كما يعتقد البعض ب الأصلية، لكان أنتهز الفرصة وفسَّر هذه الآية كما فسَّرها أوغسطينوس كدليل كتابي صريح على وراثة الخطية الأصلية، ولكن لأن ق. كيرلس الإسكندري لا يعرف شيء اسمه وراثة الخطية الأصلية، فقد فسَّر آية (مزمور ٥١: ٥) هأَنَذَا بِالإِثْمِ صُوِّرْتُ، وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي، بل يدحض فكرة وراثة الخطية الأصلية كالتالي: [10]

ويقول [داود] هذا ليس لأن فعل الخطية طبيعيّ، لأنه لو كان كذلك ما كان مُستحق لعقابٍ، بل لأنه ورث بالطبيعة الانزلاق، ولكنه ينتصر بالإرادة والأتعاب [الجهاد]، غير أنه لا ينضبط إجباريًا لأنه حر الإرادة. ووفقًا لبعض الناس والبابليين، يُوجِّهون كلامهم إلى الله قائلين: إنْ أردت أن تُحاكِمنا على الخطايا التي فعلناها في حقك، فإنها ساعتك[أي الوقت المناسب لك] أن تُحاكِم أجدادنا، لأن أولئك لم يظهروا مُعترِفين لك بالجميل، وبطريقة ما قد ورثتُ منهم الجحود، وكُوني أخطئ فهذا بسبب أولئك الأجداد‘. لذا توجد عادة عند القديسين في تهدئة غضب الله، بأنهم يدعونه لكي ما يشفق عليهم بصرخات كثيرة جدًا، بل أيضًا يسرعون إلى إلقاء اللوم على ضعف الطبيعة البشرية، لذا يمكننا أن نسمعهم وهم يصرخون: تذكر أننا تراب، وأيام الإنسان كمثل العشب [11]، وأيضًا تذكر ما هو وجودي [12]، ويشرح أيضًا أيوب محتمل الألم هذا الأمر بوضوحٍ صارخًا لله: ألم تصبُني كاللبن، وخثرتني كالجبن؟ كسوتني جلدًا ولحمًا، فنسجتني بعظامٍ وعصبٍ. منحتني حياةً ورحمةً [13].

(Cyrillus Alexandrinus, Expositio in Psalmos)

سبب الميلاد البتولي للمسيح من العذراء

لم يشر ق. كيرلس لا من قريب ولا من بعيد إلى الخطية الأصلية الموروثة من آدم في سياق تعليله ل البتوليّ من العذراء القديسة مريم، ولم يقل كما فسَّر أوغسطينوس والغرب من بعده أن ميلاد المسيح البتوليّ من العذراء مريم كان ليمحو الخطية الأصلية الموروثة من آدم، حتى لا يرث المسيح خطية آدم الأصلية من العذراء القديسة، الذي أدى بعد ذلك إلى ظهور تعليم في الغرب اللاتينيّ من بعد أوغسطينوس، الذي يقول بأن العذراء القديسة لم تُولَد من أبويها يواقيم وحنة حاملةً للخطية الأصلية الموروثة من آدم، حتى لا يرثها المسيح نفسه بعد ذلك عند ولادته منها بالروح القدس، فكان دور الروح القدس حسب هذا المعتقد الغريب أن يمنع وراثة المسيح للخطية الأصلية من العذراء القديسة مريم عند الحبل البتوليّ منها، وقد منع الروح القدس من قبل أن ترث العذراء القديسة مريم الخطية الأصلية الموروثة من آدم عند الحبل بها من أبويها يواقيم وحنة. فيقول ق. كيرلس التالي: [14]

كيرلس: ولكن ما دام الله لم يحتقر الزواج، بل بالحري كرَّمه بمباركته، فلماذا إذًا جعل الكلمة -الذي هو الله- من عذراء أمًا لجسده بحملٍ من الروح القدس؟
المحاور: لا أستطيع أن أجيب على هذا السؤال.
كيرلس: بالرغم من أن المبرِّر غير ظاهر للكل، لكن إذَا فحصنا بتدقيق، نجد أن الابن أتى، أي تأنس لكي يُعيد تشكيل وضعنا داخل نفسه منذ البداية بولادةٍ وحياةٍ عجيبةٍ ومدهشةٍ حقًا؛ لهذا صار هو نفسه الأول الذي وُلِدَ من الروح القدس [أقصد من جهة الجسد]، حتى أنه صار بمثابة طريق تأتي لنا النعمة بواسطته، ليجعلنا نُولَد ثانيةً ولادةً روحيةً، ليس من دم ولا من مشيئة جسد، ولا من إرادة رجل، لكن من الله بواسطة الروح [15]، وبتشبُّهنا الروحيّ بالابن الحقيقيّ بالطبيعة، ندعو الله يا أبانا. وهكذا نظلّ غير فاسدين، طالما أننا لسنا من الأب الأول، أي آدم، الذي منه دبَّ الفساد فينا. لذلك قال المسيح: لا تدعوا لكم أبًا على الأرض لأن أباكم واحد وهو الذي في السموات [16].

(كيرلس السكندري، المسيح الواحد)

 

‎ ‎ هوامش ومصادر: ‎ ‎
  1. كيرلس السكندري، تفسير إنجيل يوحنا ج2، ترجمة: د. وآخرون، ، 2015، تعليق على (يو11: 26)، ص 46. [🡁]
  2. A. Ehrhard, Der PapyrusCodex Saec. VI- VII Der Philipusbibliothek in Cheltenham Koptische theologische Schriften, Herausgegeben und ubersetzt von W. E. Crum, (StraBbrugh: Karl J. Trubner, 1915), pp. 43-48. [🡁]
  3. كيرلس السكندري، تفسير إنجيل لوقا، ترجمة: د. نصحي عبد الشهيد، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2016، العظة 54، ص 264 [🡁]
  4. إنجيل متى 18: 3 [🡁]
  5. كيرلس السكندري، تفسير إنجيل لوقا، ترجمة: د. نصحي عبد الشهيد، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2016، العظة 54، ص 265 [🡁]
  6. إنجيل متى 11: 29 [🡁]
  7. كيرلس السكندري، تفسير إنجيل لوقا، ترجمة: د. نصحي عبد الشهيد، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2016، العظة 121، ص 582. [🡁]
  8. كيرلس السكندري، تفسير إنجيل لوقا، ترجمة: د. نصحي عبد الشهيد، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2016، العظة 121، ص 583، 584. [🡁]
  9. مزمور 51: 5 [🡁]
  10. Cyrillus Alexandrinus, Expositio in Psalmos PG 69, 1089-1092. [🡁]
  11. مزمور ١٠٣: ١٤، ١٥/ مزمور ١٠٢: ١٤، ١٥ سبعينية [🡁]
  12. مزمور ٨٩: ٤٧/ مزمور ٨٨: ٤٧ سبعينية [🡁]
  13. سفر أيوب١٠: ١٠- ١٢ [🡁]
  14. كيرلس السكندري، المسيح الواحد، ترجمة: د. ، القاهرة، 2017، ص 75، 76. [🡁]
  15. إنجيل يوحنا 1: 13 [🡁]
  16. إنجيل متى 23: 9 [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ الخطية الأصلية في فكر الآباء[الجزء السابق] 🠼 الخطية الجدية عند كيرلس السكندري [٧]
أنطون جرجس
بكالوريوس اللاهوت اﻷرثوذكسي في    [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
ترجمة كتاب: "الثالوث"، للقديس أوغسطينوس أسقف هيبو [٢٠٢١]
كتاب: عظات القديس غريغوريوس النيسي على سفر الجامعة [٢٠٢٢]
ترجمة كتاب: "ضد "، للقديس غريغوريوس النيسي [٢٠٢٣]
كتاب: الطبيعة والنعمة بين الشرق والغرب [٢٠٢٣]
كتاب: مونارخية الآب في تعليم آباء الكنيسة [٢٠٢٤]

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎