المقال رقم 14 من 14 في سلسلة الخطية الأصلية في فكر الآباء

نواصل الحديث عن المفهوم الشرقيّ الأرثوذكسيّ للخطية الجدية، ممثلًا في ق. كيرلس السكندري، وهو مختلف عن المفهوم الغربيّ اللاتينيّ، ممثلًا في أوغسطينوس، ، الذي كان المحرِّك الرئيس وراء مفاهيم الثلاثة التي ناقشت الهرطقة ال، وقضت بحرمها. بالتالي، نرى أن المفهوم الغربيّ مختلف تمامًا عن المفهوم الشرقيّ للخطية الجدية، بسبب تأثير كتابات أوغسطينوس أسقف هيبو على الغرب اللاتينيّ بقوةٍ.

عدم وراثة الخطية في يوحنا المعمدان

يُفسِّر ق. كيرلس كيفية امتلاء من الروح القدس وهو في بطن أمه، بأنه وصل إلى قمة المجد والفضيلة الخاصة بطبيعتنا، داحضًا بذلك التعليم عن الأصلية؛ لأنه لو كان يوحنا المعمدان وارثًا للخطية الأصلية من والديه، فكيف يقول الإنجيل عنه إنه كان مُمتلئًا بالروح القدس من بطن أمه، ويتحدَّث ق. كيرلس عن أنه قد وصل إلى قمة المجد والفضيلة الخاصة بطبيعتنا البشرية، حيث يقول التالي: [1]

لأن المخلِّص يقول: ليس بين المولودين من النساء مَن هو أعظم من يوحنا [2]، وهذا حق، ولكننا نرى أن الذي وصل إلى قمة المجد والفضيلة الخاصة بطبيعتنا، يُكرِّم المسيح بكرامةٍ لا يمكن مقارنتها. فهو يقول: الذي لست أهلًا أن أنحني وأحلَّ سيور حذائه [3]. فكيف لا يبدو غير معقول، بل بالحري عدم تقوى، أن نؤمن أن يوحنا امتلأ من الروح القدس من بطن أمه [4]، ثم نفترض أن سيده، بل بالحري سيد ورب الكل قَبِلَ الروح القدس فقط عندما اعتمد، مع أن جبرائيل يقول للعذراء القديسة: الروح القدس يحل عليك، وقوة العلي تظللك، فلذلك أيضًا القدوس المولود منك يُدعَى ابن الله [5]، وعلى محب المعرفة أن يرى قوة الكلمات التي تتمخض بالحق. لأنه يقول عن يوحنا يمتلئ من الروح القدس، لأن الروح القدس صار فيه كعطية وليس بالجوهر، أما عن المخلص، فالملاك لا يقول عنه إنه سوف يمتلئ بالمعنى الدقيق للكلمة، بل القدوس المولود منك، ولم يقل 'المولود منك سوف يصير قدوسًا‘، فهو دائمًا قدوس بالطبيعة لأنه إله.

(كيرلس السكندري، شرح إنجيل يوحنا مج١)

تفسير آية ”واجتاز الموت لجميع الناس“ (رومية 5: 12)

يُفسِّر ق. كيرلس فقرة (رومية 5: 12) ”واجتاز الموت لجميع الناس“ دون أي ذكر لوراثة الخطية الأصلية، حيث يقول التالي: [6]

لقد بيَّن ربنا يسوع المسيح المحبة الحقيقة اللافتة التي أظهرها لنا الله الآب من خلال تتميم تدبيره [الابن] في الجسد وآلامه على الصليب، إذ قيل: هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكيلا يهلك كل مَنْ يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية. وتأكيدًا لذلك، فقد بذل [الآب] بالحقيقة ابنه الوحيد من أجلنا، وبذلك افتُدِينا وتحرَّرنا من الموت والخطيئة. فالكلمة قد صار جسدًا وحلَّ بيننا ليس لسبب آخر سوى احتمال الموت في الجسد، ولكي يتمكن من الانتصار على القوات والسلاطين، ولتحييد ذاك الذي له سلطان الموت، أي إبليس، ولكي ينزع الفساد ومعه يزيل الخطيئة التي تقهرنا. بهذه الطريقة قد محى أيضًا تلك اللعنة القديمة التي تحملتها الطبيعة البشرية في باعتباره باكورة جنسنا وأصل نشأتنا. فعندما خالف آدم الوصية، فقد أخطاء تجاه الخالق. وهذا هو السبب في أنه قد صار ملعونًا وخاضعًا للموت. ولكن رب الكون قد تحنن على أولئك الذين هلكوا تمامًا؛ فنزل الابن من السماء، ومحا الاتهامات، مُبررًا الفاجر بالإيمان. كإله، أعاد تشكيل الطبيعة البشرية ليجعلها غير فاسدة رافعًا إياها إلى حالتها الأصلية. فكل ما في المسيح هو خليقة جديدة، لأنه قد جعل نفسه كأصل جديد وصار آدم الثاني. ولكن هذا لا يعني أنه قد صار سببًا لغضب الله كما كان آدم، أو سببًا لابتعاد المولودين منه عن فوق؛ بل على العكس، فهو المحسِن الذي منحنا أن نصير أقرباء لله من خلال التقديس، وعدم الفساد، والتبرير الذي بالإيمان. ويشرح لنا بولس الحكيم هذا الأمر في كلمات المقطع الذي نحن بصدده، فيقول: كأنما بإنسان واحد، ثم يُكمِل قائلًا: دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع. إذًا، فقد دخل الموت بالخطيئة -كما قُلتُ- في الإنسان الذي خُلِقَ أولًا، في مصدر جنسنا. ثم تم أسر [نهب] الجنس البشري بأكمله لاحقًا. وعندما تسيَّدت الحية، مُخترِعة الخطيئة، على آدم بطرق المكر، اخترقت العقل البشري. الجميع زاغوا وفسدوا معًا. ليس مَنْ يعمل صلاحًا. في الواقع، عندما ابتعدنا عن وجه الله كلي القداسة، إذ أن العقل البشري شغل نفسه باجتهاد بالشر لأنه شرير منذ حداثته، بدأنا نعيش حياة خالية أكثر من المنطق، وساد الموت وابتلعنا كما يقول النبي [إشعياء]، والهاوية وسعت نفسها وفغرت فاها. فعندما صرنا متبعين لآدم في تعديه، الذي بحسبه أخطأ الجميع، صرنا مستحقين لنفس العقوبة التي كانت عليه. لكن الأرض تحت السماء لم تبقَ بدون مساعدة. فالخطيئة انتُزِعَت، وسقط ، والموت ذهب هباءً.

(Cyril of Alexandria, Commentaries on Romans, 1-2 Corinthians, and Hebrew)

نفي وراثة خطية آدم

ويستطرد ق. كيرلس في سياق شرحه لفقرة (رو5: 18-19) من أجل إثبات عدم توارث ذرية آدم معصيته الأولى كذنب موروث، لأننا لم نكن مولودين وموجودين لنخطئ معه، بل يتحدَّث عن انتقال مرض الخطية إلى طبيعتنا البشرية، ويشرح الأمر كالتالي: [7]

يُضِيف بولس الموحَى إلهيًا إليه، نوعًا من الاستنتاج حول الأفكار السابقة عندما يقول: وهكذا بمعصية الواحد وما يَتْبَع ذلك. فلقد تم إدانتنا جميعًا في آدم، كما قلت سابقًا. وعندما حَلَّت لعنة الموت، انتشرت النتيجة إلى الكل من الجذر الأصلي. ولكننا أيضًا أصبحنا مُبَرَّرين وأشرقنا مرةً أخرى للحياة عندما تبرَّرنا في المسيح. لَقَدْ عَصَى جَدُّنَا الوصية الممنوحة له. وأساء إلى الله وعانى من عواقب الغضب الإلهي، ومِنْ ثَمَّ سقط في الفساد. وهنا انتقلت الخطية إلى طبيعة البشرية، وهكذا جُعِلَ الْكَثِيرُونَ خُطَاةً التي تعني كل شخص على الأرض. والآن قد يقول شخص ما: نعم آدم سقط، وعصى الوصية الإلهية وقد أُدِينَ للموت والفساد. ولكن كيف جُعِلَ الْكَثِيرُونَ خُطَاةً‘ بسببه؟ ولماذا تؤثر سقطته علينا؟ لماذا تم إدانتنا معه ونحن لم نكن مولودين بَعْدٌ؟ وعلى النقيض، يقول الله: لاَ يُقْتَلُ الآبَاءُ عَنِ الأَوْلاَدِ، وَلاَ الأَوْلاَدُ عَنِ الآبَاءِ، واَلنَّفْسُ الَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ، كيف إذًا سندافع عن موقفنا؟ بالفعل، فإنَّ النفس التي تخطئ يجب أن تموت. ومع ذلك، لقد أصبحنا خطاةً بواسطة عصيان آدم بالطريقة التالية: لقد خُلِقَ -آدم- في الحياة وعدم الفساد، وعاش حياة مقدَّسة في فردوس النعيم. وكان عقله بالكامل وعلى الدوام يتمتع برؤية الله، وجسده كان هادئًا وغير مضطرب حيث أن كل الملَذَّات المخْزِيَّة كانت في خمولٍ. ولم يكن فيه أيّ اضطرابٍ البتة من الدوافع الغريبة. ولكن عندما سقط تحت الخطية غرق في الفساد واجتاحت الشهوات النجسة طبيعة جسده، وتُوَلِّد ناموس الشر في أعضائنا. فالْتَقَطَتْ طبيعتنا مرض الخطيئة بِمَعْصِيَةِ الإِنْسَانِ الْوَاحِدِ -أي آدم- وهكذا جُعِلَ الْكَثِيرُونَ خُطَاةً ليس لأننا أخطئنا معه -إذ لم نكن موجودين بعد- بل لأننا من نفس طبيعته، التي سقطت تحت ناموس الخطية. وهكذا، كما اكتسبت الطبيعة البشرية الفساد في آدم بسبب عصيانه واجتاحتها الأهواء الشريرة، تحرَّرت مرةً اخري في المسيح، الذي كان طائعًا لله الآب، ولم يرتكب خطيةً.

(Cyril of Alexandria, Commentaries on Romans, 1-2 Corinthians, and Hebrew)

يشرح ق. كيرلس في موضع آخر كيف نقل لنا آدم الأول لعنته وعقابه الذي لحق به من جراء العصيان ردًا على سؤال تيبريوس الشماس حول ذلك الأمر، حيث يقول التالي: [8]

سؤال: لماذا عن طريق الموت في آدم، علينا أن نُوفِي عقوبة جَدِّنَا الأول؟ ولماذا يكون كل واحد منَّا مديونًا بسبب مخالفة ذاك؟ لماذا لم أرث الطهارة حين وُلِدتُ، بالرغم من أن والدي صار طاهرًا، كلٍّ من: عقوبة الجد الأول ومن تعديه الخاص، وصار حيًا في المسيح بواسطة الروح القدس؟ لماذا لم تَفِدْني نعمة البر التي قَبِلَها هو ذاته، بالرغم من أن هذه النعمة هي أقوى جدًا من الخطية؟
جواب: ينبغي أن نفحص كيف نقل لنا آدم الأب الأول العقاب الذي لحقه من جراء مُخالفته، فقد سمع: أَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ [9]. وهكذا صار فاسدًا من كونه غير فاسدٍ، وخضع لقيود الموت. ولكن بما أنه أنجب أولادًا بعد السقوط في هذه الحالة، فقد وُلِدْنَا نحن فاسدين بما أننا أتينا من الفاسد، وهكذا نحن وارثون لعنة آدم. لكن على أية حال لم نُعاقَب لأننا مُذنِبين مع آدم وخالفنا الوصية الإلهية التي أُوصِي بها ذاك، لكن -كما قلت- لأن الإنسان حين صار مائتًا نقل اللعنة لذريته، إذ أننا وُلِدنا مائتون من أصلٍ مائتٍ. بينما صار ربنا يسوع المسيح -آدم الثاني- بدايةً ثانيةً لجنسنا بعد آدم الأول. وأعاد تشكيلنا وقادنا إلى عدم الفساد مُهِينَاً الموت ومُبْطِلاً إياه في جسده. بالمسيح إذن انحلَّت قوة اللعنة القديمة. لأجل هذا أيضاً يقول بولس الحكيم: فَإِنَّهُ إِذِ الْمَوْتُ بِإِنْسَانٍ، بِإِنْسَانٍ أَيْضًا قِيَامَةُ الأَمْوَاتِ. [10]، وأيضًا: لأَنَّهُ كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ الْجَمِيعُ، هكَذَا فِي الْمَسِيحِ سَيُحْيَا الْجَمِيعُ. [11]. نستنتج إذًا أن العقوبة الجامعة والعامة لمخالفة آدم هي الفساد والموت، وبالمثل الفداء الشامل للكل قد تحقَّق في المسيح. أي أن الطبيعة البشرية في المسيح قد خلعت الموت الذي كان يُثَقِّلُهَا من خلال الإنسان الأول الذي صار فاسدًا. لكن والد كل واحد مِنَّا، بالرغم من أنه قُدِّس من الروح القدس ونال غفران خطاياه، إلَّا أنه لا يمكنه أن ينقل لنا أيضًا العطية؛ لأن واحدًا هو الذي يُقدِّس ويُبرِّر جميعنا، ويُحضِرنا ثانيةً إلى عدم الفساد، هو ربنا يسوع المسيح. وبواسطة المسيح، هذه العطية تأتي بالتساوي لجميعنا. فإنَّ مغفرة الخطية وانحلال الموت، شيئان مختلفان. فكل واحد مِنَّا يحصل على مغفرة خطاياه الخاصة في المسيح من خلال الروح القدس. بينما نتحرَّر جميعاً على حد سواء، من العقوبة الأولى المفروضة علينا، أعني عقوبة الموت التي امتدت إلى الجميع على مثال الإنسان الأول الذي سقط في الموت. لأجل هذا أيضًا يشير بولس الحكيم إلى أن الموت قَدْ مَلَكَ الْمَوْتُ مِنْ آدَمَ إِلَى مُوسَى، وَذلِكَ عَلَى الَّذِينَ لَمْ يُخْطِئُوا عَلَى شِبْهِ تَعَدِّي آدَمَ، الَّذِي هُوَ مِثَالُ الآتِي. [12]. لكن فيما بعد، عندما أشرق المسيح، أتى البر الذي برَّرنا بنعمة الله وأبعد الفساد عن أجسادنا.

(Cyril of Alexandria, Select Letters (The Answers to Tiberius, Doctrinal Questions))

‎ ‎ هوامش ومصادر: ‎ ‎
  1. كيرلس السكندري، شرح إنجيل يوحنا مج١، ترجمة: د. وآخرون، ، 2015)، ص 164 [🡁]
  2. إنجيل متى 11: 11 [🡁]
  3. إنجيل مرقس 1: 7 [🡁]
  4. إنجيل لوقا 1: 15 [🡁]
  5. إنجيل لوقا 1: 35 [🡁]
  6. Cyril of Alexandria, Commentaries on Romans, 1-2 Corinthians, and Hebrews, ed. Joel C. El owsky et al., trans. David R. Maxwell, Ancient Christian Texts (Downers Grove, IL: IVP Academic: An Imprint of InterVarsity Press, 2022), p. 4–5. [🡁]
  7. Cyril of Alexandria, Commentaries on Romans, 1-2 Corinthians, and Hebrews, ed. Joel C. El owsky et al., trans. David R. Maxwell, Ancient Christian Texts (Downers Grove, IL: IVP Academic: An Imprint of InterVarsity Press, 2022), p. 4–5. [🡁]
  8. Cyril of Alexandria, Select Letters (The Answers to Tiberius, Doctrinal Questions), Edit. & Trans. by Lionel R. Wickham, (Oxford: Clarendon Press, 1983), p. 201, 203. [🡁]
  9. سفر التكوين ٣: ١٩ [🡁]
  10. رسالة بولس الأولى إلى كورنثوس ١٥: ٢١ [🡁]
  11. رسالة بولس الأولى إلى كورنثوس ١٥: ٢٢ [🡁]
  12. رسالة بولس إلى رومية ٥: ١٤ [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ الخطية الأصلية في فكر الآباء[الجزء السابق] 🠼 الخطية الجدية عند كيرلس السكندري [٤]
أنطون جرجس
بكالوريوس اللاهوت اﻷرثوذكسي في    [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
ترجمة كتاب: "الثالوث"، للقديس أوغسطينوس أسقف هيبو [٢٠٢١]
كتاب: عظات القديس على سفر الجامعة [٢٠٢٢]
ترجمة كتاب: "ضد "، للقديس غريغوريوس النيسي [٢٠٢٣]
كتاب: الطبيعة والنعمة بين الشرق والغرب [٢٠٢٣]
كتاب: مونارخية الآب في تعليم آباء الكنيسة [٢٠٢٤]

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎