
- كنيسة اليوم.. كلمة أخيرة
- هواجس الذوبان
- للنهضة جذور وللسياسة رأي
- البابا كيرلس ونقطة الانطلاق
- البابا شنودة والرئيس
- البابا شنودة والكنيسة
- زمن التغيرات المتسارعة
- الرهبنة: الواقع والأمل
- الجدل الكنسى: الجذور والمخاطر والحلول
- أنسنة الإكليروس
- ☑ التعليم؛ التوثيق والصراع
عندما قادتني قدماي للاقتراب من العليقة المشتعلة، أو هكذا خلتها وفق الصورة الذهنية التي اختزنتها من سنين الطفولة والصبا، هالني أن أجدها وقد صارت كنائس تحمل نفس اللافتة، وتصلي نفس الصلوات، وتمارس ذات الطقوس، وتنضوي -شكلًا- في منظومة واحدة.
واحدة منها استغرقتها أمواج التنظير اللاهوتي، فراحت تنهل من ينابيعه. بعضها عبر لغات وسيطة لا تخلو من إسقاطات أصحابها، وبعضها عبر يونانية الآباء التي أسرتهم في عصورها. فجاءت القراءة محملة بحلم مفارق للحياة المعيشة، يرفضون تحريك التخم القديمة. فيما ذهب نفر ثالث إلى هضمها واجترارها وطرحها بلغة معاصرة، تُصالح العصر بها بعد أن تيقنوا أن السعي الحقيقي هو إدراك لاهوت التجسد الذي نقلنا من الظلمة إلى النور، وفيه كانت الحياة التي ينبغي أن نختبرها معاشة ونحياها. وعمودها الفقري “المحبة”، وترجمتها تفعيل قيم العطاء والبذل في اتضاع وإنكار للذات. ومحلها المختار ليتورجية القداس والتسبحة.
واحدة منها استراحت إلى حصرها وحصارها في الممارسات التعبدية، تنقلها كما هي وتحرص على أدائها في تنميط يجور على روحها. ولم تلتفت إلى خبرات الكنيسة الأولى التي تنبهت لتوجه تهويدها، وتحميل كواهل مؤمنيها بفروض والتزامات «لا تمس! ولا تذق! ولا تجس!»، في غير انتباه أن ترتيبات الكنيسة، طقوسها وممارساتها، هي ترجمة حياتية لما تؤمن به، محملة بعمق التعبير عن استيعاب حراك الحب الإلهي الذي يعيش معنى الجسد الواحد، الذي يجمعنا مع القديسين حتى أولئك الذين سبقونا للمجد. نجتمع كلنا حول شخص المسيح، ونشترك معًا في وليمته السماوية التي توفرها لنا الكنيسة مع كل اجتماع إفخارستي، وهي تنادينا: أيها الجلوس قفوا، وإلى الشرق انظروا،
هوذا عمانوئيل إلهنا كائنًا معنا على المذبح…. وينتهي بنا المطاف والكاهن يعيد تأكيد ما قاله الرب يسوع المسيح: جسدي مأكل حق، ودمي مشرب حق، يُعطى لمغفرة الخطايا وحياة أبدية لمن يتناوله
.
واحدة منها راحت تغازل الحياة الاجتماعيّة، فاستغرقتها الأنشطة والرحلات، بغطاء يبدو روحيًا، تشغل شبابَها بالمسابقات التنافسيّة، واقتبست مسمّياتها من العالم الذي تسلّل إليها، بعد أن جفّ حسّها التقوي الآبائي، لتستهلك زمانها في مهرجانات وأنشطة وجوائز، وتنام قريرة العين، فقد نجحت في جذب مئات وربما آلاف الشباب إلى فعالياتها، وعندما ينفضّ سامروها، يعودون إلى حياتهم وصراعاتهم، يحاربون طواحين الخطايا بسيوف خشبيّة، يعيشون ضجيجًا ولا يجنون طحينًا.
بين الممارسات التعبدية الشكلية والأنشطة الاجتماعية، لم يلتفت أصحابها إلى مشاكل رعاياها الجسيمة: بيوتٌ تتفكك، وأسرٌ تنهار، يسرى فيها الطلاق كالنار في الهشيم، ويغازل الإلحاد بشكل متنام أجيالًا لم يشر لها أحد عن الحياة في المسيح، بحسب موروثها المتخم بخبرات الآباء. اللافت أنها ظواهر تتفشى بين كثيرين من المحسوبين على خدام الكنيسة وشمامستها. أنا هنا لا أطلق أحكامًا جزافية، لكنني أنقل ما لمسته بيدي ورأته عيني في دوائر خدام أعرفهم بالاسم، كانوا يومًا من أنشط الخدام. ولا أزيد حتى لا أضع مزيدًا من الملح على جروحنا التي لا تريد أن تندمل، ويصرخ في وجهي من يتهمونني بالإساءة إليهم وإلى منظوماتهم الهشة.
تختفي القدوة والتلمذة، أو يكادان، وتختلط الحقائق بأشباهها، وعلى الأبواب تربض الفخاخ تتصيد المتساقطين من شبكة تهرأت، وتئن كنائسنا ببكاء مكتوم يمنعه العار الاجتماعي من البوح. وامعانًا في ثقافة الإنكار، يُعوّض بالإيغال في إبهار الشكل، وصخب الاحتفالات، وشخصنتها، خاصة عند المدبرين، والاستغراق في تعميق الفكر الغيبي، وحكايات الكرامات والمعجزات التي تفعل مفعول المخدر في جسد تمزقه آلام الأمراض.
أصدقكم القول إنني تراجعت لأخرج من هذه الدائرة، وصوت يصرخ داخلي: «اهرب لحياتك! لا تنظر إلى ورائك، ولا تقف في كل هذه الدائرة. اهرب إلى الجبل لئلا تهلك». كان السؤال: كيف وصلنا إلى هذا الحال؟ ولم تسعفني مداركي بإجابة، فكل إجاباتي تدين رموزًا تم تحصينها وتقديسها في العقل الجمعي، وفي تقديري أن حسن النية توافر لكثير منهم. لكن الطريق إلى المصاعب مفروش بالنوايا الحسنة.
مازال سعي البحث عن مخارج يؤرقني، هل يمكن أن نُصالح التنظير اللاهوتي والخبرات الآبائية على الحياة المعاصرة، لنخرج بكنيسة اليوم من كل هذه الدوامات، لتسترد عافيتها ونضارتها، وتعود صوتًا صارخًا في برية العالم تعيش المسيح وتعلنه وتجمع المتفرقين إلى واحد؟
لن نبدأ من فراغ، ولن نعيد تكوين منظومة إيمانية لاهوتية من عندياتنا. فكنيستنا من أعرق وأقدم الكنائس، وتملك مقومات البقاء والحياة عبر تاريخ طويل من تقنين الإيمان وتوثيقه. ولها ثقلها في نحت صياغاته التي أخذتها واعتمدتها كل كنائس المسكونة، استنادًا إلى ما علّم به المسيح، وكرز به تلاميذه الأطهار، وسجّلوه في الأناجيل وفي الرسائل التي ضمّتها دفتا كتاب العهد الجديد، وشرحه الآباء الرسوليون، وحملته مخطوطات مدرسة الإسكندرية، ومن بعدها أقبية أديرة مصر باتساع جغرافيتها.
مدخلنا إذن “التعليم”، وهو ما نبه عليه القديس بولس في وصاياه لتلاميذه، مؤكدًا حضور التلمذة بجوار التعليم. ففي حديثه لتيموثاوس، أحد أبرز تلاميذه، يقول: أما أنت فقد تبعت تعليمي، وسيرتي، وقصدي، وإيماني، وأناتي، ومحبتي، وصبري، واضطهاداتي، وآلامي
[1] ويستطرد مؤكدًا: فاثبت على ما تعلمت وأيقنت، عارفًا ممن تعلمت. وأنك منذ الطفولية تعرف الكتب المقدسة، القادرة أن تحكمك للخلاص، بالإيمان الذي في المسيح يسوع
[2].
ويضعنا القديس بولس أمام منهج الكنيسة في التنشئة والتعليم، الذي يبدأ من البيت، ويتأكد بدور الكنيسة عبر ترتيباتها، ويستمر بالعمل الشخصيّ. أتذكر الإيمان العديم الرياء الذي فيك، الذي سكن أولًا في جدتك لوئيس وأمك أفنيكي، ولكني موقن أنه فيك أيضًا. فلهذا السبب أذكرك أن تضرم أيضًا موهبة الله التي فيك بوضع يديّ، لأن الله لم يعطنا روح الفشل، بل روح القوة والمحبة والنصح
[3] تمسك بصورة الكلام الصحيح الذي سمعته مني في الإيمان والمحبة اللذين في المسيح يسوع. احفظ الوديعة الصالحة بالروح القدس الساكن فينا
[4] وما سمعته مني بشهود كثيرين، أودعة أناسًا أمناء، يكونون أكْفاء ليعلموا آخرين أيضًا
[5]. هو منهج متكامل: تلمذة، أمانة، ونقل الخبرات الإيمانية بتتابع الأجيال.
وقد سبق الرب يسوع المسيح له المجد أن أشار لنا، في المدخل، لبناء إيماننا والهدف مته: فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية. وهي التي تشهد لي
[6] فلا حياة أبدية إلا في المسيح يسوع، ولا تعليم خارج الشهادة لشخصه وعمله الخلاصي لأجلنا. وقد استوعبت الكنيسة هذا وترجمته في ليتورجيتها بإيجاز وتدقيق، لتشرح في كلمات معدودات حكاية الخلق والسقوط والفداء، وقبل كل هذا، من هو المسيح في إيمانها الذي هو إيماننا، فيما يعرف بصلاة الصلح:
أيها الكائن الذي كان، الدائم إلى الأبد، الذاتي، والمساوي، والجليس، والخالق الشريك مع الآب، الذي من أجل الصلاح وحده، مما لم يكن، كوّنت الإنسان، وجعلته في فردوس النعيم. وعندما سقط بغواية العدو، ومخالفة وصيتك المقدسة، وأردت أن تجدده وترده إلى رتبته الأولى، لا ملاك ولا رئيس ملائكة، ولا رئيس آباء، ولا نبيّ، ائتمنته على خلاصنا، بل أنت، بغير استحالة، تجسدت وتأنست، وشابهتنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها، وصرت لنا وسيطًا لدى الآب، والحاجز المتوسط نقضته، والعداوة القديمة هدمتها، وأصلحت الأرضيين مع السمائيين، وجعلت الاثنين واحدًا، وأكملت التدبير بالجسد. وعند صعودك إلى السموات جسديًا، إذ ملأت الكل بلاهوتك، قلت لتلاميذك ورسلك القديسين: سلامي أعطيكم، سلامي أنا أترك لكم. هذا أيضًا الآن أنعم به علينا يا سيدنا، وطهرنا من كل دنس، ومن كل غش، ومن كل رياء، ومن كل شر، ومن كل مكيدة، ومن تذكار الشر الملبس الموت.(القداس الغريغوري، صلاة الصلح)
دعوني أعود إلى اقترابي من “كنيسة اليوم”، التي تعاني من توجهات البحث عن بدائل تزيح الرب يسوع المسيح من دائرة اهتماماتها، كحجر الزاوية الذي يقوم عليه البناء كله، لينتهي بنا الأمر إلى الصور البديلة التي أشرت إليها هنا في سطوري الأولى، وتُنتج لنا كل أوجاعنا التي تؤلمنا وتؤرقنا، ونعيش تجربة مريرة فيها الآباء أكلوا الحصرم وأسنان الأبناء ضرست
[7].
الكنيسة اليوم، وفي مقدمتها مجمعها المقدس والبابا، والمعاهد اللاهوتية الكنسية المؤسسية (الإكليريكية ومعهد الدراسات القبطية)، والمراكز البحثية القبطية الأرثوذكسية، والأديرة ذات التاريخ البحثي الآبائي، وكتيبة المترجمين عن يونانية الآباء، ورفقائهم من المترجمين عن لغات وسيطة، كل هؤلاء متضامنون، مطالبون بوضع استراتيجية تعكف على دراسة وتوثيق القوانين الكنسية المتعلقة بمحاور الإيمان: عقيدة وطقس وترتيب، بحيث يصبح لديها نصوص مكتوبة وثائقية يمكن الرجوع إليها عند حدوث خلاف بين من يتناولونها، وتخرجنا من دوامة الآراء الانطباعية، التي هي في كثير منها نتاج مجهود فردي يخلط بين الرأي والاستيعاب الشخصي وبين ما سلمته الكنيسة في تقليدها المحقق.
وهو عمل شاقّ ومجهد، ويحتاج إلى سنوات، لكن المهم أن تبدأ الكنيسة في تدشينه بشكل جادّ، وفق القواعد العلمية المستقرّة التي سبقتنا إليها كنائس شقيقة. ولا تكفي فيه لجان الإيمان والعقيدة والطقوس والتاريخ في مجمع الكنيسة وحدها، والظرف اليوم أكثر ملاءمة للبدء في هذا العمل في ضوء توافر المراجع، سواء في مخطوطات الأديرة أو الأبحاث اللاهوتية التي قام بها أبناء الكنيسة الدارسون والمؤهلون لذلك، فضلًا عن أمهات الكتب والوثائق والمراجع المتوفرة في المكتبات العالمية ذات الصلة، والمتاح الحصول على نسخ منها، وتطور وتقدم علوم اللغات القديمة وعلوم الترجمة. ويمكن الاستفادة من الخبرات الكنسية المسكونية في هذه المحاور.
ننتظر مبادرة لتدشين مسار التوثيق الممنهج من الآب البطريرك البابا تواضروس الثاني، والذي صرّح كثيرًا بأنه يتوق لمثل هذا العمل، بغير أن يلتفت للأصوات المعوقة والمتربصة، لنضع نقطة في نهاية سطر الصراعات التي أرهقت الكنيسة. وسوف يضعه التاريخ بذلك في مصاف البطاركة الذين خاضوا معارك التنوير، بثقة وإيمان وعزيمة لا تلين، في ظروف معاكسة سواء في تاريخنا المعاصر أو في تاريخنا الوسيط أو القديم.
وما زال لطرحنا بقية، وإلى لقاء.
صدر للكاتب:
كتاب: العلمانيون والكنيسة: صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨