
- كنيسة اليوم.. كلمة أخيرة
- هواجس الذوبان
- للنهضة جذور وللسياسة رأي
- البابا كيرلس ونقطة الانطلاق
- البابا شنودة والرئيس
- البابا شنودة والكنيسة
- زمن التغيرات المتسارعة
- الرهبنة: الواقع والأمل
- الجدل الكنسى: الجذور والمخاطر والحلول
- ☑ أنسنة الإكليروس
توقفتُ مليًّا عند سؤال يبدو بديهيًّا: ما الذي تعمل من أجله الكنيسة؟ أيّة كنيسة. فالبديهي أنها تسعى لتعيش إيمانها وتترجمه في صلواتها، وترتيبات عبادتها، التي هي عند الكنائس التقليدية “الطقوس”، وتأتي تعبيرًا عن معتقداتها. وتخصص نفرًا من المتقدمين فيها لنقل مفاهيم الإيمان، والعقائد، والطقوس، بعد إعدادهم ليؤهلوا لمهامهم. وتعمِّق روابط المحبة بين رعيتها، وتتلقى عطايا القادرين لتوزعها على المعوزين، على غرار خدمة الموائد التي عرفتها الكنيسة الأولى. وتمد أيادي السلام إلى مجتمعها الذي تعيش فيه، في ترجمة لوصية المحبة، وتقدم له ما يمكنها من دعم إنساني، على غرار “السامري الصالح” ومثالها الرب يسوع الذي كان يجول يصنع خيرًا للكل، على أرضية إنسانية بحتة.
استوجب هذا أن تُرتِّب الكنيسة منظومة عملها بما يضمن تحقيق كل هذا بحسب الأطر التي علّم بها الرب يسوع، وعاشها تلاميذه، وأشار إلى طيف منها القديس بولس في رسائله، فظهرت تراتبية الخدمة، وتحددت صلاحيات ومسؤوليات كل رتبة في تكاملية تخدم هدف عمل الكنيسة، ولم يكن المقصود من التراتبية تقرير أفضلية للرتب المتقدمة على التالية لها، فالمقصود منها تنظيم العمل وفق قواعد مُنظِّمة تضمن أداءً أفضل واستمراريةً تدوم، ورسالةً تصل.
حين استقرت الكنيسة وتصالح معها الإمبراطور الروماني، برؤية سياسية، ومدّ حمايته لربوعها، لم تلتفت إلى تسرب أدواته داخل تنظيماتها، وقبلت هداياه بعد مجمعها المسكوني الأول الذي تم بدعوة منه، وصار أحد العناصر القانونية لانعقاد المجامع المسكونية التالية. وحين سألت أحد الآباء: لماذا لا تسعى الكنيسة مع الكنائس الأخرى على مستوى العالم لترتيب عقد مجمع مسكوني يهدف إلى رأب الصدع بينها، توطئةً لعودتها كنيسةً واحدة مقدسة جامعة رسولية؟
، نظر إليّ مشفقًا على جهلي وقال: لأنه لم يعد هناك إمبراطور يدعو له!
.
كانت حزمة هداياه لكل أسقف مشارك تضم كرسيًا مستنسخًا من كرسيه، وصولجانًا يحاكي صولجانه، وعباءةً تماثل عباءته الإمبراطورية، وهم بدورهم أورثوها لخلفائهم. ويحكي أحد الباحثين في كتاب صدر مؤخرًا، بعنوان سر ولغز الأنبا بولا
، وهو يتابع لقاء الأنبا أنطونيوس، أبي الرهبان، مع الأنبا بولا، أول السواح، أن الأخير طلب من أبي الرهبان أن يذهب للقاء البابا أثناسيوس الرسولي ويبلغه أنه يريد منه عباءة الإمبراطور التي ورثها عن سلفه. فذهب وأتى بها إليه، لكنه وجده قد مات، فقام بخلع ردائه الليفي الخشن الذي كان يرتديه، وكفّن جسده بعباءة الإمبراطور، وعاد بالثوب الليفي ليعطيه للبابا البطريرك، الذي أدرك الرسالة: أن الكنيسة لا تُدار بعباءة الإمبراطور، وإنما بالثوب الخشن حيث النسك والاتضاع، فارتداه تحت ملابسه ولم يخلعه حتى رحيله. هكذا يقول الباحث، ويعزز رصده بقائمة من المراجع التي تناولت الواقعة.
ذهبت العباءة إلى التراب، لكن بقي الكرسي والصولجان والملابس الإمبراطورية، وذهب أصحابها إلى التفتيش في متون وحواشي الكتب يستخرجون منها رموزًا وإشاراتٍ تُقنِّنُها وتُعَمِّدُها وتُضفي عليها هالاتٍ من التقديس. حدث هذا في كل الكنائس التقليدية، وكان لنا نصيب منها، تعمَّق في الوجدان القبطي ربما بسبب الحنين الجيني للجذور المصرية الفرعونية، التي سبقت في عظمتها الإمبراطوريةَ الرومانية، وحين صرنا أقليةً عدديةً بعد التحولات الدرامية التي كادت أن تعصف بوجودنا، تمسكنا أكثر بكل مظاهر العظمة، كداعم نفسي لشعب منكسر، حتى لو تعارضت مع الحس السكندري التقوي النسكي.
قصدتُ أن أفسح سطوري قبلًا لرؤية دير من أعرق أديرتنا في الرهبنة، الذي أشار بجلاء إلى التراجع الذي أصابها والمخاطر التي تتهددها، ولعل الخطر الأكبر ما أصاب قدرًا وافرًا من قاطنيها من أمراض ومتاعب نفسية وروحية. ووفقًا لنظرية الأواني المستطرقة، فإنهم جاءوا من مناخ التراجع الفكري والثقافي الذي شمل المجتمع خارج الأديرة، وبعضهم دفعه عدم التحقق خارج أسوارها عسى أن يجده داخلها، وبعضهم قادته طموحاته ليختار إقامة مؤقتة بالدير كمحطة ينتقل منها إلى مواقع الخدمة المتقدمة خارجها، وبعضهم ذهب ليدفن جروحه وصدماته الإنسانية في رمال صحرائها. ولكن هذا لا يعني إنكار أن بينهم من سعى ويسعى لخلاص نفسه وأبديته، محتفظًا في وجدانه بإضاءات كواكب البرية، وترك الكل من أجل الالتصاق بالواحد.
الحقيقة أن كل هذه الأطياف كانت متواجدة في عصور الرهبنة المختلفة، لكن وجود شيوخ البرية وقتها في الأديرة كان يُقوّم ويعالج كل هذه التوجهات عبر نسق التلمذة والخضوع لتوجيهاتهم وإرشاداتهم، فتنتقل خبرة الحياة الديرية السوية إليهم، فتصحح انحرافات الرؤية وتقود خطوات المعوج إلى سواء السبيل، وتجبر منكسري النفوس وتقيم الساقطين، وأدبيات الرهبنة تعجّ بحكايات التوبة والتداوي الروحي والنفسي لكل هؤلاء.
الذي حدث أن تم إقصاء الشيوخ بطرق مختلفة، بعد أن صار لكل دير أسقفٌ يُلزم رهبانه بألا يكون لهم آباء اعتراف من الشيوخ، فهو أبُ اعتراف كل رهبان الدير. فتوارى الشيوخ داخل قلاليهم، يقضون ما بقي من أيامهم مع خبراتهم في الحياة في المسيح، يجترّونها بعيدًا عن الضجيج والصخب وصراعات المتكأ الأول. أما شباب الرهبان، فلهم الله.
حرص الشيوخ، ومعهم جل تلك الجماعة التي استنارت أذهانها، على البقاء بعيدًا، يعتذرون عن دعوات الخدمة خارج أديرتهم، بل ويرفض كثير منهم نوال أي رتبة كهنوتية، حتى الشماسية. وبقوا على حالهم رهبانًا فقط، ويحرصون أن يلتقوا بغير صخب وبعيدًا عن الأعين مع بعضهم بعضًا، يتبادلون خبراتهم، ويستزيدوا كيف أنار الرب عيونهم، وكم صنع بهم الرب ورحمهم.
ولما كان هذا حال الرهبنة، والكنيسة في عقودها الأخيرة، التي تقترب من القرن، تختار أساقفتها حصرًا من الرهبان، فما الذي نتوقعه منهم؟ وأنا هنا لا أشير إلى أحد بعينه، بل أشهد أن بينهم أساقفة بحسب قلب الله، دخلوا الدير وغادروه إلى رتبهم، وهم مُحتفظون بقاماتهم الروحية وسلامهم النفسي، وقلوبهم المختبرة للعشرة مع المسيح وفيه، بما تأسسوا عليه في بيوتهم وكنائسهم التي شهدت تكوينهم الأساس، وبناءهم الروحي والنفسي السوي.
طيفٌ منهم خرج من أديرته ومعه كل متاعبه، لم يستطع التخلص من سيطرة الفكر الرهباني الدخيل. وهو فكرٌ حادّ أحادي لم يختبر الحياة الاجتماعية، وانعكس هذا بالضرورة عليهم كرهبان انطلقوا من محبسهم ليصيروا رؤساء إيبارشيات مطلقي الصلاحيات. وهو ما نراه في ملبسهم ومقراتهم ومساعديهم وطاسوناتهم وفي تعاملهم مع كهَنتهم.
وكان الأساقفة من الأجيال القديمة يعالجون هذه الانحرافات (المحاربات) النفسية بالحرص على تعميق العلاقة الروحية مع الله نسكًا وعبادةً وملاحظةً للنفس. وقد شهد جيلنا نماذج عديدة من هؤلاء الذين أثروا الكنيسة برؤاهم الرزينة وحكمتهم وتدبيرهم الأبوي لإيبارشياتهم.
الأزمة أن لقمة عيش الكاهن واستقراره وسلامه ومستقبله، في تلك الإيبارشيات، في يد مثل هؤلاء الأساقفة، يعِزّون ويذِلّون، يمنحون ويمنعون، يستندون إلى ما قاله القديس إغناطيوس الأنطاكي: الأسقف هو المسيح
وإلى ما ورد في كتاب الكهنوت للبابا شنودة: قيل عن السيد المسيح:
.راعي نفوسكم وأسقفها
[1]. وقيل في الكهنوت: يجب أن يكون الأسقف بلا لوم كوكيل لله
[2]. فالمسيح هو الأسقف، لأنه هو الراعي الحقيقي. لأنه وكيل للمسيح الذي هو أسقف نفوسنا
فهموهما على غير مقصدهما ليبنوا عليه هرمًا من التسلط، وهو أمر لم يكن موجودًا حين كانوا أتقياء قبل أن تداهمنا طبقة الرهبان الجدد الذين لم يختبروا التلمذة ولم يتشربوا قيم المحبة، والاتضاع، وإنكار الذات، والفقر الاختياري، والنسك، رغم أنها نذورهم الرهبانية الأساسية.
كنيسة اليوم بحاجةٍ جادةٍ لمراجعة التراث في ضوء حياة الكنيسة الأولى لتتخلص من الأثقال التي تعوق تواصلها مع الناس، وحتى تتمكن من إيصال نور المسيح الذي فيها إليهم. فهل تملك أن تتخفف من مظاهر السلطة التي تسللت إليها واستراحت لها، كما حاول في ذلك القديس البابا كيرلس، وكما يحاول البابا تواضروس بخطواتٍ متوجسة؟ هل يمكن أن تحل الشملة الرهبانية محل التاج، ويستبدل كرسي الأسقفية بكرسي بسيط كسائر الرعية؟ وهل يمكن أن تحل التونية محل العباءة الملوكية، أو على الأقل تتخلص العباءة من الزخارف والألوان الزاعقة؟ الكرامة والمجد لا يأتيان بإبهار الزي الكهنوتي، بل بالأبوة والاتضاع والبذل.
هل تتدبر الكنيسة توجيه القديس بطرس الرسول في رسالته الأولى:
أطلب إلى الشيوخ الذين بينكم، أنا الشيخ رفيقهم، والشاهد لآلام المسيح، وشريك المجد العتيد أن يُعلن، ارعوا رعية الله التي بينكم نظّارًا، لا عن اضطرار بل بالاختيار، ولا لربح قبيح بل بنشاط، ولا كمن يسود على الأنصبة، بل صائرين أمثلة للرعية. ومتى ظهر رئيس الرعاة تنالون إكليل المجد الذي لا يبلى.(رسالة بطرس الأولى ٥: ١-٤)
دعوتي أن ندرك أن آية المسيحية هي التجسد، الذي فيه أخلى الرب يسوع نفسه آخذًا صورة عبد، صائرًا في شبه الناس. فماذا عنا وقد توجب علينا أن نقتدي به، ونحن بعد بشر تحت الضعف؟ ألم نقرأ هذا عند القديس بولس الرسول في رسالته إلى فيلبّي:
فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضًا: الذي إذ كان في صورة الله، لم يحسب خلسة أن يكون معادلًا لله. لكنه أخلى نفسه، آخذًا صورة عبد، صائرًا في شبه الناس. وإذ وُجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب. لذلك رفعه الله أيضًا، وأعطاه اسمًا فوق كل اسم لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب.(رسالة بولس إلى أهل فيلبي ٢: ٥-١١)
أنسنة الإكليروس، بحسب فكر المسيح، مدخلنا لاستعادة كنيسة اليوم قوتها وقدرتها على أداء رسالتها ودعوتها. لا بالقدرة ولا بالقوة، بل بروحي، قال ربُّ الجنود.
وما زلنا نبحر في حال كنيسة اليوم، ولنا فيها كلمة أخيرة.
صدر للكاتب:
كتاب: العلمانيون والكنيسة: صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨