المقال رقم 9 من 9 في سلسلة كلمة أخيرة

قبل أن ننتقل من عصر ال، الممتد ليغطي نصف قرن من زمن الكنيسة، نتوقف قليلًا ونحن نبحث عن المقدمات التي انتهت بنا إلى حالة الكنيسة اليوم، عند بدايات الجدل الكنسي. كيف تحول الرفاق إلى فرقاء، تفرقت بهم السبل، وتمترس كل واحد منهم خلف موقفه؟ وهي حالة نشهدها في كل الحركات التصحيحية، كما في السياسة كذلك في الفضاءات الدينية. وبشكل ما، رأيناها في وهي تنتقل في قرونها الأولى من مرحلة التكوين والبناء ومواجهة الاستهدافات والاضطهادات، إلى مرحلة الاستقرار والسلام، حين توقفت عن ملاحقتها وأقرتها ديانة معترفًا بها في القرن الرابع الميلادي. وقتها بدأ الجدل الكنسي/الكنسي، الذي لم ينتهِ إلا والكنيسة منقسمة إلى كنائس تتبادل اتهام بعضها بالهرطقة، لتبدأ مراحل الانهيارات حتى إلى زوال بعض منها. وشاهدنا جل الكنائس التي أسسها ال، التي اجتاحها العثمانيون، قد صارت أثرًا بعد عين. كذلك كنيسة شمال إفريقيَا، التي قدمت يومًا للكنيسة الجامعة طيفًا من قديسيها ومفكريها، في مقدمتهم القديس ، والقديس ، والقديس العلامة وس الأمازيغي.

بدأت إرهاصات الجدل عندنا عام 1962 الذي شهد رسامة أسقفي الخِدْمَات، الأنبا صموئيل، والتعليم، الأنبا شنودة، في 30 سبتمبر. وفي تحرك مبكر، طلب أسقف التعليم من صديقه ورفيق مشوار الصعود ومهندسه القمص (الأنبا غريغوريوس فيما بعد)، والقمص ( مطران الغربية فيما بعد)، والدكتور بباوي، فحص كتاب العنصرة الصادر عن بحلوان في مايو 1962، وكاتبه القمص متى المسكين، وبيان ما به من انحرافات وأخطاء حسب رأيه. فاعتذر القمص شنودة السرياني متعللًا بأن تخصصه في تاريخ الكنيسة، فيما قدم الآخران تقريرين منفصلين أجمعا على سلامة ما ورد بالكتاب، فحفظهما أسقف التعليم. لكن هذه الواقعة أحدثت شرخًا بينه وبينهما. ولم أستطع في بحثي أن أضع يدي على دوافع التنقيب المبكر في كتابات ، أو عن كيفية تحول العلاقة به من التلمذة التي نقتفي آثارها في باكورة كتابات أسقف التعليم إلى التربص به، الذي استمر طويلًا وعنيفًا.

يتجدد الجدل في العام 1967، الذي شهد رسامة الأنبا غريغوريوس أسقفًا للبحث العلمي والدراسات اللاهوتية. وقد فصَّل الأنبا غريغوريوس ملابسات رسامته وحواراته حولها مع ال، وخشيته أن يُفهم من رسامته أنها اقتناص لصلاحيات أسقف التعليم، الأمر الذي من شأنه أن يولد حساسية ما لدى أسقف التعليم. لذلك، طلب من البابا أن يكون منطوق رسامته أسقفًا عامًا للبحث العلمي والدراسات اللاهوتية وألا يتضمن أية إشارة للمعاهد الدينية أو ، واستجاب البابا له، كما ورد في تسجيل صوتي للأنبا غريغوريوس، المتوفر على شبكة يوتيوب. لكن تخوفاته تحققت، وشهدت صفحات حينها طيفًا منها. وتعمقت الفجوة بين أسقفي التعليم والبحث العلمي، وتفاقمت بعد تنصيب أسقف التعليم بطريركًا، الذي قلص صلاحيات الأنبا غريغوريوس في التدريس بالإكليريكية ومعهد الدراسات القبطية، وأبلغه بعدم الصلاة في كنائس منطقة الأنبا رويس.

في مايو 1985، وبعد شهور قليلة من عودة البابا شنودة إلى مقره بالكاتدرائية (5 يناير 1985)، أصدرت أسرة القديس كيرلس الإكليريكية كتابًا بعنوان القديس في مواجهة التراث الديني غير الأرثوذكسي لمؤلفه الدكتور جورج حبيب بباوي. فعاد الجدل الكنسي مجددًا. في تقديري أن أزمة الكتاب لم تقف عند القضايا اللاهوتية التراثية التي ناقشها في ضوء تعاليم القديس أثناسيوس الرسولي، وهي قضايا ما زالت مثيرة للجدل بين الفرقاء، وإنما جزءً كبيرًا من الأزمة كان في المقدمة التي كتبها الناشر، وفي الأسئلة التي وضعها الناشر على غلاف الكتاب، التي صارت محور الهجوم على الدكتور جورج حبيب بباوي. وقد تساءل الكتاب عن موت المسيح على الصليب وجدلية العدل والرحمة، ولمن قدم المسيح الفدية، وماهية خطيئة الإنسان، وطبيعة جسد المسيح، و وفساد الطبيعة. ويتصدر هذا الكتاب وأسئلة غلافه قائمة الاتهامات التي حوصر بها مؤلفه.

جُرحٌ عميق تركته شهور الاعتقال الأربعون في صدر البابا شنودة، وقد حوصر في ديره، بعيدًا عن اجتماعه الأسبوعي ومجلته الأثيرة الكرازة. كان الاثنان يحملان رؤاه لجماهير الكنيسة ويحققان تواصله الحيوي معها، ويخوض من خلالهما معاركه. وكان من آثار ذلك عند عودته تغيير سكرتير المجمع؛ الأنبا يوأنس (1973-1985)، الذي لم ينسَ له قبوله عضوية اللجنة الخماسية، ويعين الأنبا بيشوي بدلًا منه، الذي ظل سكرتيرًا للمجمع حتى رحيل البابا (1985-2012). يتحمل الأنبا بيشوي مهمة التصدي لمعارضي البابا بخشونة، وهو ما أقر به في أحاديثه وتصريحاته، وصار رمزًا لعنف الإدارة. حتى أصبحت إحالة أي كاهن للمحاكمة أمامه بمثابة إحالة أوراق متهم رهن المحاكمة للمفتي تمهيدًا لصدور حكم الإعدام بحقه. فلم يخرج من مكتبه أحد منهم إلا مجردًا من كهنوته أو موقوفًا. وقد استحدثت هذه المحاكمات إلزام الكاهن المقدم لها بالتوقيع على إقرار بارتكابه ما يوجه إليه من اتهامات، أو على بياض، على وعد بعودته إلى خدمته، ويوقع صاغرًا، حسب ما أجمع عليه كل من تعرضوا للإحالة للمحاكمة أمامه. ولم يشذ عن هذه القاعدة سوى القمص ، الذي رفض التوقيع وتم إيقافه دون استكمال المحاكمة.

اللافت أن الأنبا بيشوي لم ينخرط في دراسات أكاديمية نظامية لاهوتية. توقف تحصيله العلمي الأكاديمي عند درجة الماجستير في العلوم الهندسية، في مايو 1968، بعد تعيينه معيدًا بكلية الهندسة بالإسكندرية. وقد استقال من وظيفته هذه والتحق بالدير ليصبح راهبًا في فبراير 1969، ورُسم أسقفًا في سبتمبر 1972، ورُقي مطرانًا في سبتمبر 1990. لكنه واصل قراءاته اللاهوتية الحرة بشكل متواتر. وذكر في أحاديثه أن الأنبا شنودة كان صديقًا للعائلة، وأنه تأثر به واقتفى أثر خطواته. وفي محبته، تصدى لفكر الدكتور جورج حبيب بباوي والأب متى المسكين، في سعيه لتأكيد صحة رؤية البابا شنودة، مرشده ومثله الأعلى. لتشهد الكنيسة جدلًا لاهوتيًا لا ينتهي بين القطبين: الأنبا بيشوي والدكتور جورج حبيب بباوي. ولم ينخرط فيه الأب متى المسكين الذي فضل مواصلة اجتهاداته خلف أسوار ديره.

بعيدًا عن تقييم هذا الجدل والحسم فيه برأي -لا أملك مقوماته- لم ينتبه أطرافه والمناصرون لهم إلى الآثار المدمرة التي أنتجها في الذهنية القبطية. وهي ذهنية تم تسطيحها بتعاليم غيبية تداعب مشاعر الشارع، وتلقي بهم بعيدًا عن لاهوت الآباء، ومحوره لاهوت التجسد وترجمته في ال التي اختزنته في صلواتها وطقوسها بشكل مبدع. وفيها تعيش الكنيسة الشركة عبر ال. لكن التعليم كان مشغولًا بتنظير الجدل اللاهوتي لإعادة إنتاج حالة مماثلة للقرن الخامس الميلادي، رصدها وتناولها بالتحليل الدكتور تيموثي إي. جريجوري، أستاذ التاريخ في جامعة ولاية أوهايو، في كتابه Vox Populi صوت الشعب، الصادر عام 1979، الذي كتب تحت عنوان: “العنف والمشاركة الشعبية في الخلافات الدينية في القرن الخامس الميلادي”.

كانت من أكثر الظواهر المُميزة والمُحيِّرة في الإمبراطورية الرومانية اللاحقة أن الرجل العادي [ال، من غير ال] كان ينخرط عادةً في نقاش مفتوح وحار حول أسئلة لاهوتية معقدة لم تكن لها صلة مباشرة بحياته اليومية. وفقًا لأحد المعلقين المعاصرين، غريغوريوس ، إذا سألت عن ثمن الخبز، فسيقال لك، ‘الآب أعظم والابن أدنى'. ولم تنته الحجج العاطفية التي اندلعت في جميع مدن الشرق، في كل حالة، بمجرد الكلمات، بل أدت غالبًا إلى أعمال غضب وعنف. أُحرقت الكنائس في الليل، وغرقت المدن في الدماء. ولقد اضطر الإمبراطور نفسه في كثير من الأحيان إلى الابتعاد عن الشؤون السياسية والعسكرية لإخماد النزعة الفئوية داخل المدن، حيث لقي أكثر من ثلاثة آلاف شخص حتفهم في هجوم واحد في مناسبة واحدة. [1]

(تيموثي إي. جريجوري، العنف والمشاركة الشعبية في الخلافات الدينية)

هذا الجدل الشعبي الذي بدأ في نهايات القرن الرابع، وشهد صراعات المجامع المسكونية، وامتد إلى القرون التالية، انتهى إلى تسطيح الإيمان وتجهيله، وصار العقل الجمعي مهيئًا وقتها لهجرة المسيحية. ما يؤرقني أن ينتهي بنا الحال، مع تكرار المقدمات، إلى حصد نتائج مشابهة. فالإلحاد يلف حولنا، ويربض عند البوابات. المتصارعون الجدد في صراعهم لا يرون أبعد من أصابع أيديهم، ولا يسمعون إلا رجع صدى أصواتهم.

يمكن للجيل الحالي أن يفكك هذا الجدل عبر مؤسساته البحثية اللاهوتية، وأبرزها مؤسسة القديس أنطونيوس، باعتبارها مركزًا لدراسات الآباء، التي أسسها الدكتور ، الذي بقي بعيدًا عن الانخراط في تلك الصراعات، ونجح في حماية توجه التكريس من الانزلاق إليها. وهي مؤسسة تملك، بالتعاون مع المؤسسات الأرثوذكسية القبطية المناظرة، أن تضع القضايا محل الجدل تحت سيطرة البحث اللاهوتي الأكاديمي، والخروج برؤية أرثوذكسية قاطعة، تفض هذه الصراعات لحساب وحدة وسلام الكنيسة.

ولا يمكننا أن نغض الطرف عن محاولات بعض رموز المرحلة في تسجيل شهاداتهم عليها، التي تحمل الكثير من الأنين، وتحتشد بما يمكن أن يكون مدخلًا لتفكيك هذه الصراعات بقراءة نقدية متأنية لما حملته. وبقدر ما يتوفر لديّ، وتضمه رفوف مكتبتي، أشير إلى بعضها بترتيب صدورها:

  • مذكرات القمص : أحداث كنسية عشتها وعايشتها [2].
  • موسوعة الأنبا غريغوريوس: الأجزاء التاريخية التي تطرح السيرة الذاتية له [3].
  • كتاب أبونا متى المسكين: السيرة التفصيلية. وصدر عن بوادي النطرون [4].
    ـ كتاب شاهد أمين للدكتور نصحي عبد الشهيد (شهادة على العصر) [5]
    ـ كتاب الأربعة الكبار، للمهندس فؤاد نجيب يوسف [6].

وما زال بحثنا في كنيسة اليوم مستمرًا في لقاءات قادمة.

‎ ‎ هوامش ومصادر: ‎ ‎
  1. تيموثي إي. جريجوري، العنف والمشاركة الشعبية في الخلافات الدينية في القرن الخامس الميلادي، ترجمة د. . [🡁]
  2. صليب سوريال،أحداث كنسية عشتها وعايشتها، الأرثوذكسي، 1989. [🡁]
  3. منير عطية، موسوعة الأنبا غريغوريوس، جمعية الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي. [🡁]
  4. رهبان دير القديس أنبا مقار، أبونا متى المسكين: السيرة التفصيلية، دار ، 2008. [🡁]
  5. رضا توت، ، نصحي عبد الشهيد: شاهد أمين، ، 2024. [🡁]
  6. فؤاد نجيب يوسف، الأربعة الكبار: قصة الصراع العنيف حول كرسي البطريرك، دار جذور للترجمة والنشر والتوزيع، 2025. [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ كلمة أخيرة[الجزء السابق] 🠼 الرهبنة: الواقع والأمل
كمال زاخر موسى
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري   [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎