المقال رقم 7 من 7 في سلسلة الخطية الأصلية في فكر الآباء

نستكمل في هذا البحث مفهوم الخطية الجدية عند ق. باسيليوس الكبير رئيس أساقفة قيصرية الكبادوك بآسيا الصغرى، وواضع الة المسمَّى باسمه، التي نصلي بها في كنيستنا إلى اليوم. وذلك لنرى هل يتفق تعليم ق. باسيليوس الكبير مع تعليم أوغسطينوس في الغرب اللاتينيّ عن الخطية الأصلية الموروثة من إلى نسله من بعده.

دحض تعليم القدرية والجبرية

يدحض ق. باسيليوس مذهب القدرية والجبرية والحتمية الإلهية، الذي تبناه أوغسطينوس أسقف هيبو في الغرب اللاتينيّ، حيث يرى ق. باسيليوس أن أصل فضائلنا وشرورنا يكمن في داخلنا، وإنه ليس قدرنا الناتج عن ميلادنا، وهكذا يرفض الإرادة المقيَّدة بالشر بضرورة حتمية. لأنه لو صحَّ ذلك، فلا ذنب على السارق أو القاتل، إنما كُتِبَ هذا عليه ويستحيل عليه التراجع، لأنه مدفوع إلى الشر بضرورة حتمية كالتالي: [1]

لو أن أصل فضائلنا وشرورنا لا يكمن في داخلنا، وإنما هو قدرنا الناتج عن ميلادنا، لماذا، إذًا، حدَّد لنا المشرِّعون ما يجب علينا أن نقوم به وما يجب تجنبه؟ وما الفائدة أن يُكرِّم القضاة الفضيلة ويعاقبون الرذيلة. الذنب ليس في السارق أو القاتل، إنما كُتِبَ عليه واستحال عليه أن يتراجع فقد دُفِعَ للشر بضرورة حتمية. […] ونحن المسيحيون، لن يكون لنا أمل، فالإنسان مُسيَّر ولا يتصرف بحرية، فهو لا يُكافأ لعدله أو يُعاقب على شره. فبالضرورة وتبعًا للقدر ليس هناك مكانًا للدينونة العادلة.

(باسيليوس الكبير، الستة)

يدحض ق. باسيليوس تعاليم أوغسطينوس عن القدرية وسبق التعيين المزدوج للخلاص والهلاك، بالتأكيد على أنه لا يجب تنفيذ أمر الله بالإجبار، بل بالحرية التوَّاقة إلى فعل الخير واكتساب الفضائل. تتحقَّق الفضيلة بالإرادة الحرة لا بالإجبار، بينما تتوقف الإرادة الحرة على مدى استعدادنا الداخليّ، وهذا الاستعداد هو الحرية الداخلية. ثم يرد ق. باسيليوس على سؤال: لماذا لم يخلق طبيعتنا مُسيَّرة نحو الخير؟ فيقول إنَّ مَنْ يُفضِّل الطبيعة غير العاقلة (المسيَّرة) مُحتقرًا الطبيعة العاقلة (المخيَّرة) هو مَنْ يريد طبيعة غير ميَّالة للخطية. [2]

الخطية فعل إرادي وليس فعل موروث

يرد ق. باسيليوس على اعتراض رؤية وجود الشر وفعله الظاهر وانتشاره في العالم، بأنَّ المرض هو انحراف الأعضاء عن أداء وظيفتها الطبيعية، الله خلق الجسد وليس المرض، لقد خلق الله النفس، ولم يخلق الخطية، بالتالي، وجود الشر بسبب قَبُول النفس للشر وابتعادها عن حالتها الطبيعية. لقد كان مكان النفس بجوار الله، وكان الخير بالنسبة لها هو الاتحاد بالله بالمحبة، ثم سقطت من هذا المكان، وعانت أمراض كثيرة. نفس الإنسان لها حرية إرادة لقبول أو رفض الشر حسب خلقتها على صورة الله. نالت النفس الصلاح، وتعرف جيدًا الاستمتاع به، ولديها القدرة على الحفاظ على حياتها الطبيعية، طالمَا تظل في الاستمتاع بالروحيات، ولديها القدرة على رفض الصلاح. بينما تنحاز النفس إلى الجسد بسبب حب الملذات والشهوات، حيث تنفصل عن السماويات للالتصاق بمباهج العالم. [3]

يشير ق. باسيليوس إلى أن الخطية فعل إراديّ وليس فعل موروث، حيث تمتلك النفس بجملتها الإرادة الخاطئة، وتستعين بالجسد لعمل الشر، وذلك بانفصال النفس عن الروح القدس كالتالي: [4]

وكذلك النفس لا تُشطَر إلى شطرين، بل النفس بجملتها هي التي تملك الإرادة الخاطئة، وتستعين بالجسد لعمل الشر. ولكن الشَّطر إلى قسمين -كما ذكرت- هو الانفصال التام للنفس عن الروح القدس.

(باسيليوس الكبير، الروح القدس)

الخطية الجدية هي الابتعاد الإرادي عن الله

لقد كان آدم في السماء بالمفهوم الروحيّ وليس المكانيّ، شعر بشبعٍ زائفٍ من هذه الخيرات السمائية، وفضَّل مباهج العيون الجسدية عن الجمال الروحيّ، بدَّل الاستمتاع بالروحيات، فَضَّلَ ملء بطنه، فطُرِدَ خارج الفردوس، وخارج ذلك المحيط الطوباويّ، وصار شريرًا لا عن إجبار، بل عن عدم استنارة، ووقع في الخطية باختياره السيء، ومات بسبب الخطية. كل مَنْ يبتعد عن الله الذي هو الحياة، يقترب من الموت، وغياب الحياة هو الموت. هكذا صنع الإنسان الموت بابتعاده عن الله، الله ليس خالق الموت، بل نحن جلبناه على أنفسنا بالإرادة الشريرة، ولم يُوقِف الله الانحلال الذي يحمله الموت حتى لا يظل المرض (الخطية) بلا نهاية كالتالي: [5]

لقد كان آدم في السماء بالمفهوم الروحيّ وليس المكانيّ، وفور أن دبَّت فيه الحياة، ونظر نحو السماء امتلأ فرحًا إذ نظر هذه الأشياء التي رآها. […] لكن بينما كان في حماية الله متمتعًا بخيراته، شعر بشبعٍ زائفٍ من هذه الخيرات السمائية، وفضَّل ما يبهج عينيه الجسدية على الجمال الروحيّ، وبدلًا من أن يستمتع بالأمور الروحية فضَّل أن يملأ بطنه، وللتو وجد نفسه خارج الفردوس، خارج تلك البيئة الطوباوية التي كانت محيطة به. وصار شريرًا ليس عن إجبار، ولكن عن عدم استنارة. إذًا، فهو الذي وقع في الخطية عن طريق اختياره السيء، ومات بسبب الخطية، لأن أجرة الخطيئة هي موت [6]، أي كل مَن يبتعد عن الحياة يقترب من الموت، لأن الله هو الحياة، وغياب الحياة هو موت. هكذا جلب آدم الموت على نفسه وصنعه بابتعاده عن الله وفق المكتوب في المزمور: لأنه هوذا البُعداء عنك يبيدون [7]. هكذا، ليس الله هو الذي خلق الموت، لكن نحن الذين جلبناه على أنفسنا بالإرادة الشريرة. لكن الله لم يُوقِف الانحلال الذي يحمله الموت حتى لا يظلّ المرض بدون نهاية.

(باسيليوس الكبير، الله ليس مسببًا للشرور)

الخطية والشر هما اغتراب عن الله

يُفسِّر ق. باسيليوس علة وجود بأنَّ استعداده الشخصيّ هو الذي جعله شريرًا، كان لديه حرية بمقدرته أنَّ يظل بالقرب من الله، أو يتغرب عن الله الصالح، اختيار الشيطان الحر هو الذي جعله يُلقِي بنفسه لأسفل؛ لأنَّ الشر هو الاغتراب والابتعاد عن الله الذي جعله مطرودًا. الشيطان شرير بإرادته، ولم يصر ضد الصلاح بطبيعته كالتالي: [8]

أيضًا على نفس المنوال: كيف صار الشيطان شريرًا؟ نفس الإجابة، كان الشيطان لديه حرية، كان بمقدرته أن يظلَّ بالقرب من الله، أو يتغرب عن الله الصالح. غبريال كان ملاكًا يقف دائمًا بالقرب من الله، والشيطان أيضًا كان ملاكًا، ولكنه سقط من رتبته. إرادة الملاك غبريال هي التي حفظته في السماء، أمَّا بالنسبة للشيطان، فإن اختياره الحر هو الذي ألقى به إلى أسفل. […] إذًا، الشرّ هو الاغتراب والابتعاد عن الله. بالتفاتة صغيرة من العين تجعلنا نكون تجاه الشمس أو تجاه ظل جسدنا. فالاستنارة والنور هما نصيب مَن نظر إلى فوق، أمَّا الظلام فهو مصير ذاك الذي يلتفت نحو الظلال. هكذا، فإن الشيطان صار شريرًا بإرادته، ولم يصر مُضادًا للصلاح بطبيعته.

(باسيليوس الكبير، الله ليس مسببًا للشرور)

الخطية الجدية هي فقدان أغطية النعمة

يشير ق. باسيليوس إلى أن أسباب سقوط الإنسان هي حسد إبليس الذي أوقعنا، وجعل عداوة الله داخلنا، وكانت النتائج هي: اعتياد فعل الشرور الذي ينشئ في النفس شرورًا أعظم حتى لو كان الضرر غير مُباشر، بالإضافة إلى التلذُّذ بمنظر العري والاهتمامات الجسدية الضارة. وفقدان أغطية النعمة بممارسة الرذيلة تحت تأثير إبليس، أي نعمة الله التي يلتحف بها الملائكة كالتالي: [9]

فالشيطان هذا الوعاء المملوء بالشر قد حسدنا من أجل المكانة التي منحها الله لنا. لم يطق أن نحيا في الفردوس بدون حزن. لذا خدع الإنسان بالدسائس والمكائد وانتهز فرصة اشتياق الإنسان لأنه يتشبه بالله، فخدعه وأظهر له بهجة الشجرة، ووعده بأنه إذَا أكل من ثمرتها سوف يصير مثل الله […] لم يُخلَق هذا الملاك [الشيطان] لكي يكون عدوًا لنا، ولكنه جراء الحسد انتهى إلى هذه الحالة صائرًا عدوًا لنا. وإذ رأى نفسه سقط من مكانة الملائكة، فلم يستطع أن يرى الإنسان الأرضيّ يرتفع مرتقيًا نحو رتبة الملائكة […] هكذا اعتياد فعل الشرور يُنشِئ في النفس شرورًا عظيمةً حتى لو كان الضرر لا يحدث بطريقةٍ مُباشرةٍ. […] لم ينتج عن الأكل من الشجرة المحرَّمة عصيان الوصية فقط، بل أيضًا معرفة العُري الجسديّ، لأنه مكتوب: فانفتحت أعينهما وعلِما أنهما عريانان [10]. كان ينبغي للإنسان ألا يعرف العُري الجسديّ حتى لا ينشغل عقل الإنسان بتعويض جسده المكشوف عن طريق صُنع الملابس، وأيضًا حتى لا يتلذّذ الإنسان بمنظر العُري، وعلى أية حال، فإن الاعتناء الزائد بالجسد يجعلنا ننفصل عن الله بدلًا من أن نتجه دائمًا نحوه. […] إذًا، لم يكن ينبغي للإنسان أن تكون له أغطية طبيعية ولا حتى صناعية، إذ كان مُعدًّا له نوعًا آخر من الأغطية إذَا مارس الفضيلة. هذه الأغطية التي كانت لا بد أن تغطي الإنسان بنعمة الله هي تلك التي يرتديها الملائكة، تلك الملابس المنيرة التي تفوق جمال الزهور، ولمعان وبهاء النجوم. لذا لم تُعطَ له الملابس مُباشرةً بعد خلقته، إذ كانت مُعدَّةً له كمكافأة له إذَا مارس الفضيلة، والحقيقة كان في يده أن يأخذها لكن للأسف بسبب تأثير الشيطان لم يستطع أن ينالها.

(باسيليوس الكبير، الله ليس مسببًا للشرور)

‎ ‎ هوامش ومصادر: ‎ ‎
  1. باسيليوس الكبير، أيام الخليقة الستة، ترجمة: القمص ، مراجعة: الأنبا بطرس الأسقف العام، دار القديس للنشر، 1996، عظة 6: 7، ص 71. [🡁]
  2. باسيليوس الكبير، الله ليس مسببًا للشرور، ترجمة: د. ، ، 2012، ص 34، 35. [🡁]
  3. باسيليوس الكبير، الله ليس مسببًا للشرور، ترجمة: د. چورچ عوض، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2012، ص 32، 33. [🡁]
  4. باسيليوس الكبير، الروح القدس، ترجمة: د. ، جذور للنشر، 2014، 16: 40، ص 119، 120. [🡁]
  5. باسيليوس الكبير، الله ليس مسببًا للشرور، ترجمة: د. چورچ عوض إبراهيم، القاهرة، 2012، ص 33، 34. [🡁]
  6. رسالة بولس إلى رومية 6: 23 [🡁]
  7. مزمور 73: 27 [🡁]
  8. باسيليوس الكبير، الله ليس مسببًا للشرور، ترجمة: د. چورچ عوض إبراهيم، القاهرة، 2012، ص 36. [🡁]
  9. باسيليوس الكبير، الله ليس مسببًا للشرور، ترجمة: د. چورچ عوض إبراهيم، القاهرة، 2012، ص 37-40. [🡁]
  10. سفر التكوين 3: 7 [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ الخطية الأصلية في فكر الآباء[الجزء السابق] 🠼 الخطية الجدية عند باسيليوس الكبير [١]
أنطون جرجس
بكالوريوس اللاهوت اﻷرثوذكسي في    [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
ترجمة كتاب: "الثالوث"، للقديس أوغسطينوس أسقف هيبو [٢٠٢١]
كتاب: عظات القديس على سفر الجامعة [٢٠٢٢]
ترجمة كتاب: "ضد "، للقديس غريغوريوس النيسي [٢٠٢٣]
كتاب: الطبيعة والنعمة بين الشرق والغرب [٢٠٢٣]
كتاب: مونارخية الآب في تعليم آباء الكنيسة [٢٠٢٤]

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎