المقال رقم 1 من 3 في سلسلة كلمة أخيرة

تلح على خاطري كلمات القديس لتلميذه تيموثاوس في رسالته الثانية: فإني أنا الآن أسكب سكيبًا، ووقت انحلالي قد حضر، [1] ويوصيه: وأما أنت فاصح في كل شيء. احتمل المشقات. اعمل عمل المبشر. تمم خدمتك [2].

ولست بحاجة للقول بأنني لا أقرن نفسي بكليهما، لكنني توقفت كثيرًا عند السبب وراء هذه الوصية، الذي رسمه القديس بولس بكلمات واضحة عما ينتظر الكنيسة، وهو ما أستطيع أن أقر أننا نعيشه اليوم، وتسلل إلينا قبل عقود هذا عددها؛ واستأذن القارئ في أن أضعها أمامه بحروف القديس بولس نفسه [3]:

اكرز بالكلمة. اعكف على ذلك في وقت مناسب وغير مناسب. وبخ، انتهر، عظ بكل أناة وتعليم. لأنه سيكون وقت لا يحتملون فيه التعليم الصحيح، بل حسب شهواتهم الخاصة يجمعون لهم معلمين مستحكة مسامعهم، فيصرفون مسامعهم عن الحق، وينحرفون إلى الخرافات

(رسالة بولس الثانية إلى تيموثاوس 4: 2-4)

وأجدني في مناخنا المشحون بالتربص والغضب والبحث فيمَا وراء السطور تفتيشًا في الضمائر، بحاجة إلى التأكيد على أن توقفي وطرحي هنا يقفان خارج مدارات الفرقاء، ولا يحملان إسقاطًا على أحد، أو تيارًا أو فريقًا، فقد ضج العالم الافتراضي بأطروحاتهم التي حولته إلى حلبة مترامية الأطراف لصراعات تذكرنا بمباريات “مصارعة الديوك” العنيفة التي تم توظيفها في عالم المراهنات، وبعض الدول فرضت عليها رسومًا صارت تشكل أحد أهم مصادر الدخل عندها، اللافت في تلك المصارعات أن الديوك تخرج منها إما موتًا أو مثخنة بجراحات مميتة، فيمَا يجني مديرو المباريات والمتراهنون أرباحًا طائلة.

يحدث هذا في حين نحفظ عن ظهر قلب تحذير القديس بولس [4]:

 وأنا أيها الإخوة لم أستطع أن أكلمكم كروحيين، بل كجسديين كأطفال في المسيح، سقيتكم لبنا لا طعاما، لأنكم لم تكونوا بعد تستطيعون، بل الآن أيضا لا تستطيعون، لأنكم بعد جسديون. فإنه إذ فيكم حسد وخصام وانشقاق، ألستم جسديين وتسلكون بحسب البشر؟ لأنه متى قال واحد: «أنا لبولس» وآخر: «أنا لأبلوس» أفلستم جسديين؟ فمن هو بولس؟ ومن هو أبلوس؟ بل خادمان آمنتم بواسطتهما، وكما أعطى الرب لكل واحد:  أنا غرست وأبلوس سقى، لكن الله كان ينمي.

(رسالة بولس الأولى إلى كورنثوس 3: 1- 6)

بين بولس وأبلوس انحصرت الصراعات عندنا فيما خرج المسيح من المعادلة ومن حياتنا، وإن بقي في عباداتنا النمطية التي نحرص عليها في طقوسية فاقدة للمعايشة الحياتية.

الذي أثار داخلي كل هذا هو إنني اشتبكت عبر ثلاث عقود ونصف ويزيد مع الإشكاليات الكنسية، طارحًا ومحللًا ومقدمًا لمخارج أزعم إنني امتلكتها عبر خدمة ممتدة بين واجتماعات الشباب، والحياة العملية المشتبكة مع الناس والهم العام، وقد تتلمذت بانتباه على خدام أتقياء كنسيين واعين، مدنيين وكهنة، لعل أبرزهم حسب زمن التلمذة، التي انطلقت في أروقة كنيستي “مار جرجس بالقللي”؛ أبي القمص يوحنا عبد المسيح أبادير والمهندس باقي نمر ميخائيل (القس شنودة ميخائيل فيما بعد) والأستاذ جورج رمزي أمين مدارس الأحد الذي فتح لنا الباب لنتعرف على فكر الآباء، عبر كتاب حياة الصلاة الذي وفره لنا بنظام التقسيط بما يتناسب مع قروشنا القليلة وقتها.

ثم تعرف أقدامنا الطريق إلى اجتماع الأستاذ الذي دخل بنا إلى عمق الكتاب المقدس، بكنيسة مار مينا ـ بشبرا ـ التي تقع على بعد خطوات من كنيستنا، ويصير فيما بعد الأنبا بيمن أسقف ملوي، ومن شبرا حيث كنيسته نذهب إلى اجتماع ناشئ لأسقف واعد مختلف بالكلية الإكليريكية لنشاهد افتتاح الاجتماع العام لأسقف التعليم ال، الذي يبحر بنا في تأملات سخية في مزامير سواعي الإچبية، ثم تنويعات من التأملات الروحية، بلغة كسرت الأنماط السائدة وقتها، التي كانت تعتمد على اللغة الفصحى المحتشدة بالبلاغة والمحسنات والشعر التقليدي، فإذا بنا أمام أسقف يخاطب الشباب بلغة معاصرة، وفي موضوعات تدغدغ مشاعرهم وتفتح أمامهم آفاق العشرة مع الله وتضع أقدامهم على طريق التوبة. وننتقل معه إلى القاعة اليوسابية بالإكليريكية، ثم إلى البطريركية بكلوت بك بعد أن ضاقت قاعات الإكليريكية على مرتادي الاجتماع، ثم ننتقل معه إلى الكاتدرائية المرقسية بالأنبا رويس وهي بعد هيكل خرساني، إلى أن استقر به المقام وقد صار بطريركًا للكنيسة في بهو الكاتدرائية.

في غضون ذلك نطرق أبواب الأديرة لنتعرف على جناح الرهبنة ونغترف من خبرات النسك والنمو الروحي ونتسلح بتقوى آباء البرية، ونتلقف كتب الأب بشغف لتتسع مداركنا اللاهوتية وتكتمل دائرة مصادر الوعي بين الوعظ والتعليم والتلمذة.

غير بعيد نتغذى من روافد عديدة كان أبرزها في مراحلنا المبكرة كتب الأرشيدياكون ، التي تناقش قضايا الشباب المسيحي في مواجهة الحياة العامة والمحاربات المرتبطة بمرحلتهم السنية، حول العفة والطهارة والنمو الروحي بعيدًا عن الأطروحات النظرية المثالية المفارقة للواقع، ونجح في أن يصالح بيننا والمجتمع العام مشاركين فاعلين في دعمه لحياة أفضل. وكان الدكتور أحد العلامات المضيئة والفاعلة في توفير إبداعات آباء الكنيسة الأولى منابع اللاهوت الآبائي الأرثوذكسي مترجمة من أصولها اليونانية، في الذي دشنه لوصل ما انقطع مع الآباء.

وقد تركت قلمي يستدعي كل هذه الخبرات لنقول إننا كنا جيلًا محظوظًا، استطاع أن ينجو بفعل تعدد مصادر التكوين، من مصيدة الانحياز لتيار أو مدرسة بعينها، واحتفظنا بتقديرنا لكل من تعلمنا وتتلمذنا عليهم، حتى في أدق لحظات المواجهة مع الإشكاليات الكنسية. وكتاباتي تقف شاهدة على هذا.

دعونا نقترب من جذور الأزمة الكنسية المعاشة متى بدأت وكيف تنامت وهل من مخارج؟، هذا ما سنتناوله في مقال تال.

‎ ‎ هوامش ومصادر: ‎ ‎
  1. رسالة بولس الثانية إلى تيموثاوس 4: 6 [🡁]
  2. رسالة بولس الثانية إلى تيموثاوس 4: 5 [🡁]
  3. رسالة بولس الثانية إلى تيموثاوس 4: 2-4 [🡁]
  4. رسالة بولس الأولى إلى كورنثوس 3: 1-6 [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ كلمة أخيرة[الجزء التالي] 🠼 كنيسة اليوم.. كلمة أخيرة [٢]
كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار ال المصري   [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎