
- مصر والنيل: الجغرافيا والمصالح
- مصر والنيل: التاريخ والمصالح
- مصر والنيل: السودان والمصالح
- مصر والنيل: إثيوبيا والمصالح
- ☑ مصر والنيل: المفاوضات والمصالح
- مصر والنيل: الطريق المسدود
الرسالة الثانية التي نريد أن نرسلها؛ هي أننا نمارس حقنا، في استخدام أنهارنا، لمحاربة الفقر في بلادنا، دون أيّ تعمّدٍ لإحداث أيّ أذى لأيٍّ من جيراننا.(ميليس زيناوي، رئيس وزراء إثيوبيا، عند وضع حجر الأساس لسد النهضة الكبير، ٢ أبريل ٢٠١١)
بين حجر الأساس وإعلان المبادئ 2011-2015
في 31 مارس 2011، أعلنت إثيوبيا عن البدء في إنشاء سد النهضة الكبير (أو سد الألفية
كما كان يُطلق عليه في البداية) في الموقع نفسه لـسد الحدود
المقترح سابقًا ولكن بسعة تخزينية تبلغ 74 مليار متر مكعب ومحطة كهرباء بقدرة 6000 ميجاوات. كانت التكلفة التقديرية للمشروع حينها 4.8 مليار دولار. واحتياطًا من محاولات مصر لإيقاف التمويل في حال استعانت إثيوبيا بالمؤسسات الدولية والإقليمية، عمدت الحكومة إلى تنويع التمويل بين تمويل حكومي ومحلي وعن طريق صكوك بيعت للمواطنين في الداخل والخارج وتمويل خارجي عن طريق بنوك صينية.
وفي إطار احتواء مخاوف بلدي المصب مصر والسودان، اتفقت الثلاثة بلدان في اجتماع في أديس أبابا في نوفمبر 2011 على تشكيل لجنة فنية للخبراء International Panel of Experts (IPoE). كان أول من اقترح تشكيل مثل هذه اللجنة هو رئيس الوزراء الإثيوبي ميليس زيناوي في اجتماعه مع وفد الدبلوماسية الشعبية المصرية الذي التقاه في أديس أبابا في 29 أبريل 2011 [1].
تم الاتفاق على أن تكون اللجنة مكونة من عشرة أعضاء: اثنان من كل بلد وأربعة خبراء دوليين. وهذه آلية شبيهة بآلية فض المنازعات في الاتفاقية الإطارية التعاونية لدول حوض النيل التي لم توقع عليها مصر [2]. تمت الموافقة على أسماء الأربعة خبراء الدوليين في مارس 2012 وبدأت اللجنة عملها، وبعد ستّ اجتماعات امتدّت من مايو 2012 حتى مارس 2013، أصدرت اللجنة تقريرها في 31 مايو 2013 [3].
وقبل موعد إصدار التقرير بأيام، قامت إثيوبيا بتنفيذ تحويل مجرى النيل الأزرق تمهيدًا لبدء إنشاء الهيكل الأساسي للسد دون انتظار الملاحظات الفنية للجنة [4]. وأثار ذلك غضب القيادة في مصر في عهد الرئيس الأسبق محمد مرسي، التي كانت تواجه ضغوطًا احتجاجية في الشارع آنذاك. دفعها ذلك إلى عقد مؤتمر في مركز المؤتمرات بمدينة نصر في يوم 10 يونيو 2013، صرح فيه محمد مرسي تصريحه الشهير: إن نقصت مياه النيل قطرة واحدة فدمائنا هي البديل
. [5]. وهو التصريح الذي أثار أزمة كبيرة بين البلدين، حيث صرح الناطق باسم رئيس الوزراء الإثيوبي في يوم 11 يونيو 2013 بأن خطاب مرسي كان خطابًا غير مسؤول، وأن هذه التهديدات لن توقف استكمال مشروع السد كما هو مخطط [6].
كانت الملاحظات التي وردت في تقرير اللجنة مثيرة للاهتمام والقلق، وكان أهمها:
- عوامل الأمان: رأت اللجنة أن الدراسات التي أجريت لدراسة استقرار جسم السد الرئيسي في ضوء العوامل الجيولوجية والجيوتقنية غير كافية. وتحديدًا، أثارت اللجنة مخاوفها بخصوص سلامة تصميم جسم السد، وبالأخص تقديرات إجهاد القص [7] على جسم السد وإمكانية الانزلاق وتسرب المياه. واقترحت اللجنة عدة تعديلات على التصميم.
- تصريف المياه خلف السد: رأت اللجنة أن الدراسة الهيدرولوجية التي قدمتها إثيوبيا بشأن تغير تصريف مياه النهر نتيجة إنشاء السد هي دراسة ابتدائية للغاية. حيث لم تأخذ في اعتبارها الإنشاءات المقترحة أعلى النهر ولا التأثيرات المحتملة على كميات المياه أسفل النهر الواصلة لمصر والسودان. كما قدمت تقديرات غير سليمة لمقدار البخر في خزان السد. وأوصت اللجنة بإجراء دراسة كميّة تفصيلية لتحديد تأثيرات السد على دول المصب.
- تشغيل السد: رأت اللجنة أن المعلومات المقدمة عن تشغيل السد لتوليد الكهرباء قليلة جدًا. فليس من الواضح ما إذا كان التصميم الحالي لمحطة توليد الكهرباء يأخذ في الاعتبار الحد الأدنى لمتوسط تدفقات أشهر الجفاف إلى دول المصب.
- الآثار البيئية وتغير المناخ: لم تتضمن الدراسة المُقدمة للجنة أي رصد وتقييم لتأثير السد على المجتمعات والبيئة المحلية، إذ اقتصرت على دراسة تأثيره على المنطقة المحيطة بالسد فقط، دون النظر إلى آثاره البيئية فيما وراء هذه المنطقة، سواءً داخل إثيوبيا أو في دول المصب. كذلك لم تتضمن الدراسة أي تقييم لتأثير التغير المناخي على المشروع، على الرغم من أن مشروعًا بهذا الحجم، الذي يعتمد بشكل كبير على أنماط هطول الأمطار، يتطلب فهمًا أفضل للظروف الهيدرولوجية والمناخية المستقبلية لضمان أعلى درجة من المرونة في تصميمه وتشغيله.
مرفقات: تحميل نسخة ضوئية من تقرير لجنة الخبراء الدولية باللغة الإنجليزية [2013].
رحبت إثيوبيا من جانبها بالتقرير وصرحت أنها ستسعى بالتعاون مع مصر والسودان على تنفيذ الدراسات الإضافية التي طلبتها اللجنة، مؤكدةً على الفائدة التي ستعود على الجميع من بناء السد، وعلى استمرارها في الإنشاء كما هو مخطط [8]. كذلك، رحبت مصر بالتقرير مع التأكيد على الملاحظات التي أثارتها اللجنة، ودعت إلى تشكيل لجنة فنية بخبراء دوليين أو تكليف بيت خبرة دولي بإعداد الدراسات الإضافية الواردة في تقرير اللجنة، وهو الشرط الذي رفضته إثيوبيا، بل وتعهدت بمواصلة العمل على إنشاء السد رغم تحذيرات اللجنة [9].
جرى عدد من الجلسات التفاوضية بين البلدان الثلاثة في نوفمبر 2013 ويناير 2014، إلا أنها باءت بالفشل وتوقفت المفاوضات. ولم تُستأنف إلا عقب انتخابات الرئاسة في مصر في يونيو 2014 [10]. أسفرت المفاوضات بين مصر والسودان وإثيوبيا عن الاتفاق في أغسطس 2014 على تشكيل لجنة وطنية ثلاثية، بحضور وزراء الري الثلاثة، للاتفاق على الخطوات التنفيذية لاستكمال الدراسات المتعلقة بالسد [11]. ووُفق هذه الاجتماعات، تم الاتفاق على تكليف مكتب استشاري عالمي لإجراء الدراسات التفصيلية المطلوبة [12].
السودان وسد النهضة
من جهة السودان، لم يكن موقفه معارضًا تمامًا لإنشاء السد كما كان موقف مصر، إذ أن السودان سيستفيد من السد في أكثر من جانب: أولًا، عند اكتمال الربط الكهربائي بين السودان وإثيوبيا، سيتمكن السودان من سد العجز في شبكته الكهربائية عبر استيراد فائض الطاقة المنتجة من محطة السد. ثانيًا، سيستفيد السودان من منع السد للفيضانات العالية التي لم يكن خزان الرصيرص يحتويها وأدت إلى خسائر جسيمة في بعض السنوات. ثالثًا، سيحجز السد كميات كبيرة من الطمي الذي يتراكم أمام خزان الرصيرص الآن وأدى مرور السنوات إلى تقليص قدرته على التخزين.
ويعتبر حجز الطمي من الفوائد القليلة التي من الممكن أن تعود على مصر من هذا السد، إذ أن تقليل كميات الطمي المترسبة في بحيرة ناصر سيطيل من عمر السد العالي. كذلك، قلة البخر ببحيرة سد النهضة عند التخزين بها مقارنة بالبخر في بحيرة ناصر الذي يصل إلى حوالي 10 مليار متر مكعب سنويًا [13].
ظهر موقف السودان إلى العلن في ديسمبر 2014 عندما صرح الرئيس البشير قائلًا: ساندنا سد النهضة لقناعتنا الراسخة بأن فيه فائدة لكل الإقليم بما فيها مصر، وسنعمل عبر اللجنة الثلاثية الدولية لتقييم سد النهضة يدًا بيد لما فيه مصلحة شعوب المنطقة.
[14]. أدى هذا التباين في المواقف بين مصر والسودان إلى توتر مكتوم بين البلدين في المفاوضات التي تلت إعلان تقرير اللجنة [15].
جاء شهر مارس 2015 بتطور جديد في ملف السد، إذ وقّعت الدول الثلاث في الخرطوم اتفاقية إعلان المبادئ بشأن سد النهضة بين الرئيس عبد الفتاح السيسي ونظيره السوداني عمر البشير ورئيس وزراء إثيوبيا هايلي ماريام ديسالين، التي تحدد إطارًا للالتزامات والتعهدات التي تضمن التوصل إلى اتفاق كامل بشأن تشغيل وملء خزان السد. وكان أهم ما ورد في هذه الاتفاقية [16]:
- مبدأ عدم التسبب في ضرر ذي شأن: إذ تلتزم الدول الثلاث باتخاذ كافة الإجراءات المناسبة لتجنب التسبب في ضرر ذي شأن خلال استخدامها لنهر النيل الأزرق/ النهر الرئيسي، وفي حالة حدوث ضرر ذي شأن لإحدى الدول، فإن الدولة المتسببة في إحداث هذا الضرر عليها، وفي غياب اتفاق حول هذا الفعل، أن تتخذ كافة الإجراءات المناسبة بالتنسيق مع الدولة المتضررة لتخفيف أو منع هذا الضرر، ومناقشة التعويض كلما كان ذلك مناسبًا.
- مبدأ التعاون في الملء الأول وإدارة السد: التزمت الدول الموقعة على تنفيذ توصيات اللجنة الدولية واستخدام المخرجات النهائية للدراسات المشتركة الموصى بها في تقرير لجنة الخبراء الدولية في الآتي: * الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد الملء الأول لخزان سد النهضة، التي ستشمل كافة السيناريوهات المختلفة، بالتوازي مع عملية بناء السد. * الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد التشغيل السنوي لسد النهضة، التي يجوز لمالك السد ضبطها من وقت لآخر. مع الالتزام بالاتفاق على هذه القواعد في مدى زمني قدره 15 شهرًا منذ بداية إعداد الدراستين المُوصى بهما من جانب لجنة الخبراء الدولية.
- مبدأ التسوية السلمية للمنازعات: اتفقت الدول الثلاث على أن تقوم بتسوية منازعاتها الناشئة عن تفسير أو تطبيق هذا الاتفاق بالتوافق من خلال المشاورات أو التفاوض وفقًا لمبدأ حسن النوايا. وإذا لم تنجح الأطراف في حل الخلاف من خلال المشاورات أو المفاوضات، فيجوز لهم مجتمعين طلب التوفيق أو الوساطة أو إحالة الأمر لعناية رؤساء الدول/ رئيس الحكومة.
بدا وقتها أن الخلاف في طريقه للحل، إلا أن المياه جرت على عكس ذلك.
مرفقات: تحميل نسخة ضوئية من وثيقة إعلان المبادئ باللغة الإنجليزية [2015].
تفاوض بلا نتيجة 2015-2019
رغم الأجواء الإيجابية التي عكسها إعلان المبادئ، إلا أن ما تلاه من تطورات أوضح أن إثيوبيا تسعى للمماطلة وشراء الوقت، مع استمرارها في إنشاء السد لخلق أمر واقع على الأرض. وهكذا سارت المفاوضات من تأجيل إلى خلق مشكلات إلى تسويف إلى فشل ثم محاولة جديدة، وهكذا دواليك.
وعلى الرَّغم من الاتفاق في بداية أبريل 2015 على تكليف مكتبي دلتارس الهولندي وبى آر إل الهندسي الفرنسي بإجراء الدراسات [17]، وهو الحل الوسط بين مصر التي اقترحت المكتب الهولندي وإثيوبيا التي اقترحت المكتب الفرنسي، إلا أن الخلافات دبت مجددًا بينهما على آلية العمل بين المكتبين، وتعثر البدء في تنفيذ الدراسات رغم الاجتماعات العديدة التي عُقدت لحل الخلاف على مدى عام 2015 [18].
وأخيرًا، في 28 ديسمبر 2015، اتفقت الأطراف على بدء الدراسات الفنية لسد النهضة في فبراير 2016، على أن يُكلَّف المكتب الفرنسي بتنفيذ 70% من الدراسات، مقابل 30% تقوم بها شركة ارتيليا الفرنسية بدلًا من المكتب الهولندي [19]، وهو ما يعد تنازلًا من جانب مصر لتيسير الوصول إلى اتفاق. إلا أن التعاقد مع المكتبين تأخر مجددًا نظرًا لخلافات جديدة على صياغة العقود، ثم الخلاف على النطاق الفني للدراسات [20].
ولم يتم توقيع العقود إلا في سبتمبر 2016 على أن تنتهي الدراسات خلال 11 شهراً. وعندما قدم المكتب الاستشاري الفرنسي في مارس 2017 مسودة التقرير الافتتاحي الذي يحدد من خلاله الآلية والشروط المرجعية التي سيعمل بها على الدراسات، نشأ خلاف آخر حول هذه المسودة [21].
وبعد أن كان الخلاف الأساسي بين مصر وإثيوبيا، أصبحت السودان طرفًا في الخلاف على مسودة هذا التقرير. إذ طلبت السودان وإثيوبيا تعديلات على المسودة رفضتها مصر، وهو ما أدى إلى انهيار المفاوضات في نوفمبر 2017 [22]. وإثر هذا الموقف السوداني، ظهر التوتر بين مصر والسودان إلى العلن وبدأت السودان في إثارة مشكلة مثلث حلايب وشلاتين مجددًا. وتبادل المسؤولون في البلدين التصريحات، حتى وصل الأمر إلى استدعاء السودان سفيرها بالقاهرة في يناير 2018 [23].
وفي نفس الشهر اقترحت مصر دخول البنك الدولي كطرف محايد في المفاوضات لتحريك الجمود، لكن هذا الطلب قوبل بالرفض من جانب إثيوبيا بحجة وجود إمكانية لحل الأزمات العالقة دون الحاجة إلى أطراف جديدة. بعد ثلاثة أشهر من الجمود التام، توصلت الأطراف إلى إنشاء لجنة تساعية من وزراء الخارجية والري ومديري أجهزة المخابرات في الدول الثلاث. وتم الاتفاق في اجتماع اللجنة الثاني في مايو 2018 على تشكيل مجموعة علمية بحثية وطنية مستقلة مكونة من 15 عضوًا، على أن ترشح كل دولة 5 أعضاء. وتكون مهمة اللجنة مناقشة وتطوير عدة سيناريوهات تتعلق بقواعد الملء والتشغيل للسد، وذلك طبقًا لمبدأ الاستخدام العادل والمنصف للموارد المائية المشتركة. كذلك تم الاتفاق على إرسال الملاحظات على التقرير الافتتاحي للمكتب الاستشاري الفرنسي [24].
بدا أن هناك انفراجة في الأزمة، حيث لبى رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد علي، دعوة الرئيس المصري لزيارة القاهرة في يونيو 2018، حيث أدلى بوعده الشهير [25]. وبعد الزيارة بأيام، بدأت اللجنة العلمية المستقلة عملها وعقدت خمسة اجتماعات من يونيو 2018 إلى سبتمبر 2019، ولكن دون الوصول إلى اتفاق كامل، رغم حدوث بعض التقدم [26].
تقدمت مصر، من خلال لجنتها، بمقترح شامل بشأن قواعد ملء وتشغيل السد [27]، إلا أن الاقتراح قوبل بالرفض من الجانب الإثيوبي مع اقتراح مقابل يقضي بالتفاوض على قواعد تشغيل السد بشكل سنوي [28]. وهو ما استنكرته مصر وأدى إلى انهيار المسار التفاوضي في أكتوبر 2019 حيث أعلنت مصر وصول المفاوضات إلى طريق مسدود [29].
وهكذا سارت المفاوضات من تأجيلٍ، إلى خلقٍ للمشكلاتِ، إلى تسويفٍ، إلى فشلٍ، ثم محاولة جديدة، وهكذا دواليك. ومن استئناف لدراسات، يفشل إلى اتفاق على قواعد الملء والتشغيل. وكل ذلك يتزامن مع استمرار العمل في بناء السد واكتماله وبدء التخزين، مما يؤثر بكل تأكيد على كميات المياه الواردة لمصر والسودان.