من ذا الذي يحيط بشخصية يسوع الكاملة! كثيرون كتبوا عنه وحوله وفيه… ولم يَفْوه حقه… وعبثًا نحاول فهم واقع يسوع الحقيقي إذا اكتفينا بالحديث عن المسيح، أو عن المسيح الإيمان، ولم نهتم في أن هذا الإيمان إنما يستند على الوجود التاريخي ليسوع، فيسوع متجذر في تاريخ وارض بنتا شخصيته وطبق رسالته، وبقدر اكتشافنا هذه الشخصية الإنسانية بقدر ذلك ندخل في فهم رسالته الإلهية... ونحدد موقفنا منه.
المطران جرجس موسى يتقدم بتأملاته هذه على رؤوس أصابعه، فإذا بها إشارات رقيقة إلى بعض الجوانب الإنسانية لشخصية يسوع.
من هو، يا ترى، يسوع هذا؟
أهو نبي نال من روح الكشف والوحي ما لم ينله نبي من قبله أو من بعده؟
أهو صوفي شغف بالله إلى حدود الانعتاق من كل ما هو دنيوي؟ أم هو مجرد ابن اله بعيد، قد مر علينا مر الكرام، وشاءت حاجتنا إلى رب قوي قدير أن نجعل منه موضوع إيماننا؟
إذا جعلنا من يسوع ذلك النبي المتميز وحسب، وذلك الروحاني المنسلخ عن المادة تماما، وابن اله سام لا شان له بتاريخنا وطموحاتنا.. فقد جنينا عليه وعلى أنفسنا، وكنا كمن لفه بقماشة من المثالية والتجريد لا تصلح سوى للمتاحف ولبطون الكتب؟
عبثا نحاول فهم واقع يسوع الحقيقي إذا اكتفينا بالحديث عن “مسيح صوفي” أو عن “مسيح الإيمان” ولم نفطن إلى أن هذا الإيمان إنما يستند على الوجود التاريخي ليسوع، يسوع إنسان يحمل رسالة إلهية إلى البشر، اجل، لكنه يحيا إنسانية بأعلى درجات الوعي والإحساس وبكل بلاغة أوتار النفس البشرية. أنا لا أنكر “مسيح الإيمان” واتفق مع مضمون هذا الإيمان كليا، غير إني اعترف بان يسوع أقرب إلينا مما نظن، وإذا كان يحيا فينا بالإيمان اليوم، فذالك بعد أن عاش مثلنا أنسانا في التاريخ، وأرى انه بقدر ما نتعرف بصدق وموضوعية عمق شخص يسوع التاريخي، فبقدر ذلك نكتشف ذواتنا… ونحبه بالأكثر.
ما هي سمات وجه هذا الإنسان، يسوع؟
الأفكار التالية دراسة تفسيرية مقارنة وليست تحليلًا نفسانيًا فرويديًا، وإن استندت إلى معطيات تاريخية اجتماعية إنسانية، وإنما اعتبرها رؤوس نقاط لبحث أوسع يبدو لي شيقًا ومثيرًا حول شخصية يسوع الإنسانية.
يسوع ابن الأرض:
أول ما يلفت النظر في هذا “الرجل”، يسوع، أنه إنسان، ابن الأرض والقرية، وككل ريفي يحب الأرض والحقول.
وكان مجتازا بين الزروع، فاخذ تلاميذه يقتلعون سنبلا وهم سائرون(مرقس 12:2)
تأملوا زنابق الحقل(لوقا 27:12)
الإطار الجغرافي لكرازته يكاد يكون كله ريفيًا، فهو يدور في القرى وعلى سفوح الجبال وفي الحقول والمزارع وبين الربوع وعلى شواطئ البحار (مرقس 13:2، 1:4). ولدى تتبعك تنقلاته من خلال الإنجيل، تكاد تلمس حركة الحياة والدأب في هذه الأرياف الفلسطينية الآهلة، وكأنها خلية نحل في عملها، ولا يوقفها عن مسعاها سوى سكون الليل (مرقس 45:6) ويسوع كابن للطبيعة، كل الصور التي يتناولها لتوضيح أفكاره يستمدها من هذا الإطار [الرقعة الجديدة على الثوب العتيق (مرقس 2 :22-21) وشروط التربة للنمو (مرقس 4 :3-8) السراج والمكيال (مرقس 21:4) – الخردل (مرقس 30:4) – الخميرة (مرقس 15:8) – الملح (مرقس 50:9) – الكرم والمعصرة (مرقس 1:21) – الراعي والخراف (مرقس 27:14)… الخ]
إنه يحب الجماهير المندفعة حوله ولا يخاف منها، لأنه أصلا (مرقس 31:5) وهو يجد الكلمات المناسبة لمخاطبتها بلغتها ومشاعرها وانتظاراتها، فتصغي إليه بارتياح (مرقس 37:12)، ويقدر إيمانه البسطاء -وان تردى هذا الإيمان أحيانا برداء من الخشونة والسذاجة- لأنه صادر من القلب مباشرة [إدلاء المخلع من السقف (مرقس 5:2) – المرأة الكنعانية (مرقس 49:7) – أعمى أريحا (مرقس 52:10)…الخ]
يسوع، ككل إنسان، يجوع (مرقس 12:11)، ويعطش (يوحنا 7:4)، ويشعر بالتعب من السير الطويل والعمل فيأخذ قسطه من الراحة كما يتسنى له ذلك، شأنه شأن كل كادح، واضعًا حجرة تحت رأسه عوض الوسادة، مرة، أو متكئًا على شباك الصيد أو على وسادة مبللة في مؤخرة السفينة (مرقس 38:4)، مرة أخرى.
أهله معروفون عند العامة و يقلقون عليه، ككل الناس، عندما يرونه في مأزق (مرقس 21:3). أما هو فحتى رسالته لا تقطعه عن جذوره الإنسانية والشعبية: انه من ناصرة الجليل، هذه المقاطعة الحدودية ذات السمعة الوضعية التي تختلط فيها الأجناس ويتكثف التواجد الوثني، ويعرف بالنجار بن النجار. ولأمه مريم، ولبنات وأبناء عمومته صلات قربي وجيرة ومصاهرة تجعلهم معروفين (مرقس 6: 3-4)
يسوع: شخصية قوية وحرية داخلية:
يتحلى يسوع بشخصية قوية وبعزة نفس لا تثلمها المهانة: فهو، إذن، إذا يغضب في غيرته على شرف الله وحرمة المقدسات وكرامة المستضعفين ولا يتردد من استعمال السوط ضد تجار الهيكل السماسرة (يوحنا 15:12)، فانه يستعمل الحلم والتدليل إلى فعله يهوذا تلميذه الماضي في خيانته ولا يشهره علانية صيانة لماء الوجه (يوحنا 21:13، 48:14)، (لوقا 48:22)، وذلك بالرغم من الألم الذي يحز في قلبه من نكران الجميل، لان هذا يصيب القلب المحب في الصميم، كما في حادثة نكران بطرس له حين نظر إليه بشفقة وعتاب(لوقا 61:22).
يسوع إنسان له كرامته، وهو، أن استعبد الألم عنه لقسا وته وانه دبه جسده الشاب ،لا تخور قواه المعنوية، فيصمت أمام الادعاءات ولا يتكلم في استجوابه إلا متى شاء، وبإباء [صلاة البستان(مرقس 33:14-36)، (مرقس 61:14) – المحاكمة أمام بيلاطس (مرقس 5:4) – أمام هيرودس (لوقا 9:23)]
يسوع رجل يتمتع بحرية داخلية وتوازن نفسي عظيمين في كل الحالات وليس معقدًا تجاه أي شيء (مرقس 7 :1-23) أو أي إنسان مهما كانت مكانته الاجتماعية (مرقس 2 :16-17) أو انتماءه العرقي (يوحنا 4 :46) أو الديني(مرقس 7 :26)، ويقدر تكريم الناس له ويقبل استضافتهم، لا سيما البسطاء منهم، بارتياح. وإذ يكن للمرأة كل احترام، لا نجد في تصرفه أية عقدة تجاهها أو منها [المرأة والطيب (مرقس 7 :1-23) – السامرية (يوحنا 4 :27) – مرتا ومريم (يوحنا 11 :5)… الخ]. وحتى في مسالة الطلاق حين يشد على وحدانية الزواج فإنما يفعل ذلك -وهو الرجل الأعزب- لاحترامه الكبير للرابطة الزوجية (مرقس 10 :9) القاطع أن يكون الزمام كله بيد الرجل على حساب المرأة، فالحب فوق الأنانية المتمثلة في طلاق (مرقس 10 :11-12).. يكون فيه الشرع في معظم الأحيان إلى جانب الرجل.
ويسوع، رغم وعيه بمحبة الجماهير له، ليس ساذجًا ينساق وراء فورة المتحمسين (يوحنا 6 : 15، 26، 24:2). أما تجاه خصومه من المتنفذين والمتصيدين، فهو حذره اليقظ، يستخدم إستراتيجية الإيقاع التي لا تخلو من روح الدعابة والاستدراج [الرؤساء الذين يسألونه عن أساس سلطانة (مرقس 11 :29) – أسلوب مثل الكرامين (مرقس 12 :12) – ما لقيصر لقيصر (مرقس 12 :17،13) – للصدوقيين حول الزواج والقيامة (مرقس 12 :29) -أسلوب المبارزة في إجابته للكاتب حول أولى الوصايا- مداعبة نيقوديموس (يوحنا 3 :10) – استدراج السامرية (يوحنا 4 :1-16)…الخ]
إنه يشفق على المعذبين والمستضعفين (مرقس 1 :41) ويتحنن على كل متألم يقصده (مرقس 7 :1-23)، وأصدقائه تراهم في صفوف البسطاء والهامشيين (مرقس 3 :14).
أما المنافقون وذوو الوجهين والانتهازيون فضحهم أمام الجمهور -وتلك قوته- لأن القاعدة الشعبية معه، ولا يستطيع أولئك الارتداد عليه بيسر وبمجابهة مكشوفة خشية أن يخسروا نفوذهم وبقية رصيدهم عند الناس (مرقس 12 :37-40).
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
المطران جرجس موسى
رئيس أساقفة الموصل سابقاً، ومعاوناً بطريركيا للسريان الكاثوليك في بيروت
- ﻻ يوجد أرشيف حتى الأن