كان يشغل خاطري في كثير من الأوقات لماذا دافع آباء الكنيسة الأوائل عن لاهوت المسيح وإنسانيته في المجامع المسكونية باستماتة؟ هل لإنه يحتاج إلى دفاع بسبب عدم مقدرته على ذلك! مرت الأيام وبدأت في طريق القراءة والمعرفة وحينما تصفحت كتابات الآباء استطعت وقتها إن أصل إلى إجابة،

يؤكد القديس الرسولي إنه إن لم يكن الابن هو الإله الذي تجسد واتخذ طبيعة ناسوتية كاملة مشابهة لنا تمامًا بدون الخطية وحدها كالتدبير، لما كان ممكنًا أن يؤلهنا ويعطينا معرفة الله الآب غير المنظور عندما اتحد بطبيعتنا البشرية.

لأن كلمة الله صار إنسانًا لكى يؤلهنا نحن، وأظهر نفسـه في جسد لكى نحصل على معرفة الآب غير المنظور، واحتمل إهانة البشر لكى نرث نحن عدم الموت. لأنه بينما لم يَمسّه هو نفسه أى أذى، لأنه غير قابل للألم أو الفساد، إذ هو الكلمة ذاته وهو الله

(القديس أثناسيوس الرسولي، كتاب “”، الفصل الرابع والخمسون، الفقرة الثالثة )

من أجل ذلك اتخذ جسداً إنسانياً حتى إذا ما جدَّده لنفسه [كخالق] له حينئذ يؤلِّهه في ذاته وبهذا يُحضرنا جميعاً إلى ملكوت السموات على مثاله. [أي ما صار له بالجسد جعله لنا أيضاً] لأن الإنسان كان لا يمكن أن يتألَّه [يتحد بالله] إن كان اتحاده يتم بمخلوق، أو أن يكون ابن الله ليس إلهاً، وكذلك لا يمكن أن يأتي “إنسان” إلى حضرة الله إذا لم يكن هو كلمته الحقيقية ومن جوهره وقد لبس جسدًا

(القديس أثناسيوس الرسولي، المقالة الثانية “ضد الين”، الفصل السبعون )

ويؤكد من قبله القديس والقديس أ على نفس المفهوم.

ان المسيح كما قلنا، قد ألَّف ووحَّد الإنسان مع الله، لأنه لو لم يكن الإنسان قد اتَّحد بالله لما استطاع أبداً أن يشترك في الخلود. لذلك كان ينبغي أن الوسيط بين الله والناس، بسبب انتسابه لكلٍّ منهما، يعيد بينهما الأُلفة والتوافق حتى إن الله يقبل إليه الإنسان، والإنسان يقدِّم نفسه لله. فبأي وسيلة كان يمكننا أن ننال التبنِّي لله، إلاَّ بأن نحصل بواسطة الابن على الشركة مع الله، وذلك بأن يصير كلمة الله مشاركاً لنا، بأن يصير جسداً؟! لذلك فقد جاء مجتازاً في جميع القامات حتى يسترجع للجميع الشركة مع الله

(القديس إيرينيئوس، “ضد الهرطقات”، الكتاب الثالث، الفصل الثامن عشر، الفقرة السابعة)

ويٌكمل قائلًا:

كيف كان يمكن للإنسان أن يذهب إلى الله، لو لم يكن الله قد جاء أولاً إلى الإنسان؟ وكيف كان يمكن للبشر أن ينعتقوا من ميلادهم الأول المؤدِّي إلى الموت، لو لم يولدوا من جديد بالإيمان بذلك الميلاد الجديد الإعجازي المُعطَى من الله كآية للخلاص (انظر أشعياء 14:7 «يُعطيكم الرب نفسه آية»)، أعني الميلاد الذي صار من العذراء؟ بل، وكيف كان يمكن أن ينالوا التبنِّي لله وهم باقون في ميلادهم الأول الذي بحسب البشر في هذا العالم؟ من أجل ذلك صار الكلمة إنساناً، وصار ابن الله ابناً للإنسان؛ لكي يتَّحد الإنسان بالكلمة، فينال التبنِّي ويصير ابناً لله

(القديس إيرينيئوس، “ضد الهرطقات”، الكتاب الثالث، الفصل الثامن عشر)

ويضيف في الفصل الثالث من نفس المرجع السابق:

الله صار إنسانًا لكي يجعل الإنسان إلهًا

(القديس إيرينيئوس، “ضد الهرطقات”، الكتاب الثالث، الفصل الثالت)

ويذكر القديس إكليمنضس في كتابه الستروماتا:

صار كلمة الله [اللوغوس] إنسانًا حتى يتعلم كيف يصير الإنسان إلهًا

(إكليمندس السكندري، ستروما)

ويقول القديس يوحنا :

فحينما تسمع أن ابن الله هو ابن داود ابن إبراهيم، تيقَّن أنك أنت يا ابن ستصير ابناً لله. فليس جزافاً أو باطلاً قد وضع نفسه إلى هذا الحد، إلاَّ لأنه كان ينوي أن يرفعنا معه إلى فوق! فإنه قد وُلِد بحسب الجسد لكي تُولَد أنت بحسب الروح، فكما إذا وقف أحد بين شخصين منفصلين، ومدَّ يديه من الناحيتين لكي يوحِّدهما معاً؛ هكذا فعل هو ليوحِّد العهد القديم بالجديد، والطبيعة الإلهية بالبشرية، والذي له بالذي لنا

(القديس يوحنا ذهبي الفم، العظة الثانية لشرح الإصحاح الأول من  إنجيل القديس متى)

ويُكمل أيضا القديس يوحنا ذهبي الفم:

صار ابنًا للإنسان لكي يصير بنو الإنسان أبناء الله

(القديس يوحنا ذهبي الفم، العظة الثانية لشرح الإصحاح الأول من  إنجيل القديس متى)

ويذكر أيضا القديس :

أريد أن أعرف ما هي الغاية من مجيئه إلينا، وكيف تأنَّس ولماذا؟ أليس من الواضح تماماً ولا يخفى على أحدٍ أن الابن الوحيد صار مثلنا، أي إنساناً كاملاً، لكي يعتق جسدنا الأرضي من الفساد الذي اندس فيه؟ وكما أن الجسد لمَّا صار جسداً للكلمة الذي يُحيي الكل تغلَّب على سلطان الموت والفساد، هكذا تماماً أعتقد أن النفس لمَّا صارت نفساً للذي لا يعرف أن يخطأ، صارت في وضع ثابت ومستقر في جميع الخيرات، وصارت أقوى بلا قياس من الخطية التي كانت تتسلّط عليها فيما مضى فالمسيح أول إنسان «لم يفعل خطية ولا وُجد في فمه مكر» (1بط22:2)، وقد جُعل مثل أصلٍ وباكورةٍ للذين يتغيَّرون عن شكلهم إلى جدة الحياة بالروح، وصار منذ الآن يوصِّل إلى سائر جنس البشرية بالمشاركة وبالنعمة عدم فساد جسده، وثبات واستقرار لاهوته!

(القديس كيرلس الكبير، “تجسد الابن الوحيد”، غاية تجسد الله الكلمة ربنا يسوع المسيح)

ويُكمل في شرحه لإنجيل القديس يوحنا ويقول:

إن التأكيد على أن الكلمة ”حلَّ فينا“ هو نافع، لأنه يُعلن لنا أيضًا سرا عميقًا جدًا، لأننا كنا كلنا في المسيح. فالعنصر المشترك للبشرية قد تركَّز في شخصه، وهذا هو السبب في تلقيبه بآدم الأخير، فهو أَغَنى طبيعتنا البشرية المشتركة بكل ما يوصِّل لها الفرح والمجد، بعكس ما َفعَلَ آدم الأول إذ أفقرها بكل ما أتى بها إلى الفساد والحزن. وهذا هو بالتحديد السبب في أن الكلمة حلَّ فينا كلنا حينما حلَّ في كائن بشري مفرد [المسيح] لأنه من خلال هذا الواحد الذي تعيَّن [ابن الله بقوة] من جهة روح القداسة )رو 1 : 4) فإن كل البشرية ترتفع إلى قامته، حتى أن الآية القائلة “أنا قلت إنكم آلهة وبنو العليِّ كلُّكم” قد كرَّر ذِكرها ، فمن خلال تطبيقها على واحد منا [المسيح] تنطبق علينا جميعًا وهكذا يحل ويسكن في الجميع، لمَّا حَلَّ وسكن في هيكلٍ واحد مأخوذ منا ولأجلنا، إذ احتوانا كلنا في نفسه ”لكي يُصالحنا جميعًا في جسد واحد مع الله الآب“ كما يقول في أفسس 2 : 17

(القديس كيرلس الكبير في شرحه لانجيل القديس يوحنا، الإصحاح الأول)

واستمرارًا في حلقة أباء الكنيسة يقول القديس :

الله [ظهر] فى الجسد، ليس فقط بفعله وعلى فترات متقطعة، كما كان في الأنبياء؛ ولكنه اقتنى البشرية مغروسة فيه و متحده به، فقد جمع في نفسه البشرية كلها بواسطة جسده الذي كان مساوياً لأجسادنا. اعلم، إذن، السر: من أجل ذلك جاء الله في الجسد، لكي يقتل الموت المتخفي فى أعماقنا، فقد ملك الموت حتى مجيء المسيح (رو ٥: ١٤)، ولكن لما ظهرت نعمة الله المخلصة (تى ٢: ١١)، وأشرق «شمس البر» (ملا ٤: ٢) ابتلع الموت إلى غلبة (١كو١٥ :٥٤)، إذ لم يحتمل التواجد أمام الحياة الحقيقية، فيا لعمق صلاح الله ومحبته للبشر! لماذا يتباحث الناس في كيفية مجيء الله بين البشر، بينما كان الأجدر بهم أن يسجدوا أمام صلاحه؟!

(القديس باسيليوس الكبير، عظة عن الميلاد)

يقول القديس غريغوريوس :

لقد وُلد بكل ما للإنسان ما خلا الخطية، وُلد من عذراء طهَّرها الروح القدس جسداً وروحاً، خرج منها إلهاً مع الجسد الذي اقتناه، واحداً من اثنين مختلفَين، جسداً وروحاً، حيث [أحدهما كان يؤلِّه والآخر يتألَّه]. يا له من اقتران من نوع جديد! يا له من إتصال مدهش عجيب! فهوذا «الكائن بذاته» ”يصير“ [جسداً] (يو 1: 14)، وغير المخلوق يأخذ صفة المخلوق، وغير المحوى يدخل إلى حدود [الزمان والمكان]، ومعطي الغِنَى يجعل نفسه فقيراً (2كو 8: 9). إنه يفتقر بأخذ جسدي، لكي أغتني أنا بلاهوته. هوذا المملوء نعمة وحقّاً (يو 1: 14) يُخلي نفسه، أي يُفرِّغ ذاته (في 2: 7). فإنه يُفرِّغ ذاته من مجده الخاص إلى حين، حتى أشترك أنا في امتلائه (يو 1: 16). فما أعظم غِنَى صلاحه! وما أعظم هذا السر الحادث  من أجلي

(القديس اللاهوتي “غريغوريوس النيزينزي”، العظة 38 عن الظهور الإلهي)

ونختم أخيرًا بالقديس أثناسيوس الرسولي بقوله:

فالابن الذي كان على صورة الله لم يفقد شيئاً من لاهوته لما أخذ شكل العبد، بل على العكس فقد صار بذلك مخلِّصاً لكل جسد بل وللخليقة كلها. وإن كان الله قد أرسل ابنه مولوداً من امرأة فهذا الأمر لا يكون لنا سبب خجل، بل على العكس هو سبب فخر لنا مع نعمة فائقة. لأنه قد صار إنساناً لكي يؤلّهنا في ذاته وصار من نسل المرأة ووُلِد من عذراء لكي يحوِّل لنفسه ميلادنا الذي كان في الضلال ولكي نصير فيما بعد “جنساً مُقدّساً” (١بط٩:٢)، بل و كما كَتَب الطوباوي بطرس (٢بط٤:١)

(القديس أثناسيوس الرسولي، الرسالة 60 إلى ادلفيوس)

نستنتج من كل هذا أن دفاع آباء الكنيسة عن المسيح كان في المقام الأول دفاعًا عن قيمة الإنسان في المسيح الذي رفعه لمشاركة مجده وقدسه في ذاته وأعطاه نعمة و، فلو لم يكن المسيح هو الله بالحقيقة وهو الكلمة المتجسد لما كانت جميع أفعاله خلاصية ولما كنا استفدنا من تجسده وحلوله بيننا.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

مينا زكريا
[ + مقالات ]