ما يميز الإنسان، من منظور علم الاجتماع التطوري، عن غيره من الرئيسيات هو قدرته على التخيل وتوصيل هذا التخيل لغيره من أفراد جنسه بحيث تعمل مجموعات كبيرة من البشر، ربما لم يلتقوا قبلًا، وفقًا لهذا المتخيل، حتى لو لم يكن له أساس على الأرض. هذه القدرة هي التي مكنت الإنسان من صنع حضارات وصولًا لما أصبحنا ندعوه بـ القرية الكونية
.
انظر مثلًا وثيقة إعلان الاستقلال الأمريكي، التي تبدأ بهذه العبارة الافتتاحية: أن كل البشر خلقوا متساوين.
وتؤكد أن هذه “حقيقة بديهية”.
بعد حوالي مئتي سنة، وبعد ما شهده العالم من أهوال الحربين العالميتين، تبنت الأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي ينص في افتتاحيته على الاعتراف بالكرامة المتأصلة لجميع أعضاء الأسرة البشرية، وحقوقهم المتساوية، كأساس للحرية والعدل والسلام في العالم.
لكن، هل فعلًا البشر متساوون في القيمة والحقوق؟ هل هذه حقيقة بديهية ومتأصلة ولا يمكن التشكيك بها؟
إن تاريخ البشر في معظمه هو أبعد ما يكون عن هذه “الحقائق”. في مملكة الحيوان لا يوجد ما يدعى بالمساواة والكرامة، هناك فقط منطق القوة. إن لم تكن قويًا بما يكفي لتدافع عن وجودك فأنك ببساطة ستترك لتموت أو ليأكلك من هو أقوى منك. إن تاريخنا كبشر يظهر أننا لسنا مختلفين، فلطالما رتب البشر بعضهم البعض لدرجات وقبلوا أن بعضهم أهم بما لا يقارن من البعض الآخر. لم نعتمد كبشر على “كرامتنا المتأصلة” لننجو، لكن على صلاتنا بأفراد عشائرنا وقبائلنا وصولًا للانضواء تحت إمبراطورية مهيمنة أو دولة قوية تضمن حمايتنا وحقوقنا. في معظم تاريخنا، آمنّا كبشر أن هناك عبيد وأحرار، وأن بعض الأعراق هي أكثر تميزًا من غيرها. لم تكن المساواة أبدًا “حقيقة بديهية” إذ تطلب تصديقها حروبًا مهلكة، وحروبٍ أطول للحفاظ عليها ضد قانون الغابة الذي حكم معظم تاريخنا كبشر.
إن الإنجيل هو البشارة المفرحة بأن عالمنا الساقط سوف يُسترد للمقصد الأصلي لله من خليقته. حاجج الله شعب إسرائيل في القديم ليفهمهم أنه إله الجميع، وأنه لا يميز اليهود كشعب لفضل فيهم. في سفر عاموس، الذي كتب قبل حوالي ٢٧٠٠ سنة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، نقرأ هذه الكلمات التي يعلنها الله [1] :
ألستم لي كبني الكوشيين يا بني إسرائيل، يقول الرب؟ ألم أُصْعِد إسرائيل من أرض مصر، والفلسطينيين من كفتور، والآراميين من قير؟(سفر عاموس ٩: ٧)
في هذه الكلمات المزلزلة يذكر الله شعب إسرائيل أنه إله الجميع ويقارنهم بالكوشيين سمر البشرة من الجنوب، الذين كان ينظر لهم عادة على أنهم أقل قيمة. ليس هذا فحسب، إذ تمضي كلمات الله لتساوي بين التجربة الأكثر قداسة في الفهم اليهودي، تدخل الله لإخراج الشعب من أرض مصر، بتجارب أعدائهم الفلسطينيين والآراميين. يعلن الله أنه هو من كان وراء تكون وحياة هذين الشعبين العدوين لإسرائيل!
يعلن الرسول بولس نفس الحقيقة، أن ليس عند الله محاباة[2]، فالمسيح جاء ليتمم القصد والمسرة الإلهية بأن يصالح الكون كله لله، وأنه اختار المؤمنين كلهم كورثة لهذا الفداء [3].
مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح، كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم، لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة، إذ سبق فعيننا للتبني بيسوع المسيح لنفسه، حسب مسرة مشيئته، لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب، الذي فيه لنا الفداء بدمه، غفران الخطايا، حسب غنى نعمته، التي أجزلها لنا بكل حكمة وفطنة، إذ عرفنا بسر مشيئته، حسب مسرته التي قصدها في نفسه، لتدبير ملء الأزمنة، ليجمع كل شيء في المسيح، ما في السماوات وما على الأرض، في ذاك الذي فيه أيضا نلنا نصيبًا، معينين سابقا حسب قصد الذي يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته، لنكون لمدح مجده، نحن الذين قد سبق رجاؤنا في المسيح. الذي فيه أيضا أنتم، إذ سمعتم كلمة الحق، إنجيل خلاصكم، الذي فيه أيضا إذ آمنتم ختمتم بروح الموعد القدوس، الذي هو عربون ميراثنا، لفداء المقتنى، لمدح مجده.(رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس ١: ٣-١٤)
هذا هو الإنجيل، الأخبار السارة بأننا مخلوقين على صورة الله وافتدينا بفعل عمل المصالحة في المسيح يسوع. لكن يظل هذا لغير المؤمنين بالإنجيل مجرد كلام حالم، لا يمكن أن نحيا به.
في شرقنا المعذب بالحروب والعداوات وفقر إدارة الموارد، يصبح من الأصعب أن يقتنع الناس أنه هناك إله يهتم بالعدل والمساواة بين الجميع. لا يمكن أن نلوم أناس لم يروا في حياتهم إلا تهميشًا وسدًا لكل آفاق المستقبل إن هم لم يروا إلا القوة والعنف سبيلًا لتحقيق غاياتهم.
وسط كل هذا، هل يمكن للكنيسة الشرق أوسطية أن تظل صوتًا يعلن رسالة الإنجيل؟ وكيف يمكن للناس أن تؤمن بمحبة الله غير المشروطة للجميع إن لم يعش المؤمنون هذه الرسالة وأصبحوا هم أنفسهم دعاة للعدل والحق، دعامتا كرسي الله [4].
إن ظن البعض اليوم أن انشغال الكنيسة بمجتمعها وبآلام وحيرة الناس من الظروف المحيطة بهم هو نوع من البعد عن “روحانية الإنجيل” لصالح أمور دنيوية هو أكبر كذبة وتشويه لروح الإنجيل. إن الكنيسة، إن كل مؤمن فينا، لو انعزلت عن واقعها ولم تختبر الصراع حول كيف يمكن لملكوت الله أن يكون بيننا هنا والآن تكون قد حولت رسالة الإنجيل إلى أسطورة… قصة قد يراها البعض لطيفة وآخرون ربما سخيفة، لكنها تظل قصة لا تمت لواقعنا بصلة!
عام جديد يقترب علينا، وتحدياته بدأت من قبل أن يبدأ. أصلي أن تكون بركتنا من الله فيه هو الحيرة والانشغال بواقعنا أكثر من الهروب لمساحات تدين زائفة الأمن.