في العام الماضي 2023، كنت مُفوضًا من شبكة لزمالة الأقليات، والمنظمة من مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان  (OHCHR) بمقر الأمم المتحدة، چنيڤ، سويسرا. وخلال تواجدي في فندق الإقامة طلب مني أحد موظفي الاستقبال، وهو  من أصل مغربي، أن أساعده في التَّرْجَمَة لمجيء نزيل جديد من ليبيَا ولا يستطيعون التفاهم بينهما، فموظف الفندق يتقن الفرنسية اللغة الرسمية في جنيف، ولغته الأم في المغرب ليست العربية بل لغة محلية للبلدة التي ولد فيها (بالأغلب الأمازيغية) ولا يتحدث العربية، والليبي يتحدث العربية بلهجته الخاصة وأنا كذلك، فكنت أفهم ما يريده الليبي بالعربية وأتواصل مع موظف الفندق بالإنجليزية لأترجم له ما يسأل عنه النزيل الجديد.

فلك أن تتخيل عزيزي القارئ أن مصري وليبي ومغربي، ثلاثتهم من المفترض أنهم عرب، لم يستطيعوا التواصل فيما بينهم إلا من خلال الإنجليزية، مع أنه نشأنا على “كليشيه” تم تجرعه بـ”ملعقة الدواء” ونحن  أطفال في المدارس بأن الدول التي تضع اللغة العربية لغة رسمية لها، ثقافتها واحدة، لأن غالبية سكانها يدينون بالإسلام ومن بعد منه توجد أقليات مسيحية وأديان أخرى، فإننا جميعا لنا لغة واحدة وثقافة واحدة، لذا التنميط والقولبة هم أحد أسوأ الأمور التي يرتكبها البشر بحق بعضهم، فإننا نلغي تمايز كل مجموعة عن بقية المجموعات الأخرى، وتفاوت الإنسان داخل نفس المجموعة.

على أرض الواقع لا توجد دولة تتكلم العربية كما هي، بل في كل دولة سواء في شمال إفريقيا أو مصر أو سوريا ولبنان والعراق لغات قديمة لازال سكان هذه الدول يتحدثون بها مع استخدام كم أكبر من المفردات العربية، وحتى دول الخليج أو شبه الجزيرة العربية تتحدث كل دول منهم لهجة خاصة بها، كما أن مضمون الكلمات يختلف من دولة لدولة، ومن مدينة لمدينة داخل الدولة الواحدة.

إذا اقتربنا بشكل مركز من الدول (الناطقة بالعربية) سنجد أن كل دولة منهم بها تنوع ديني ومذهبي وإثني ولغوي وثقافي كبير جدًا ولا يوجد فيهم مجموعة شبه الأخرى تمامًا، نعم هناك بعض المشتركات، لكن لكل مجموعة ما يميزها وتتفرد به، ومع الآسف فغالبية الدول العربية لا تعرف مفهوم الدولة بالمعنى الحديث حيث لا يوجد للدولة ومؤسساتها لون أو هوية دينية أو ثقافية بعينها، بل يوجد دستور وقوانين تمنع التمييز بين المواطنين بسبب دينهم أو إثنيتهم، وتحترم التعددية والتنوع وتمنح كل فرد في إطار انتمائه الوطني أن يعبر عن نفسه وهويته الفردية تحت مظلة الدولة كما هو حادث في الدول الحديثة، بل أن الدول العربية لا زالت تعيش وتُحكم بمنطق قبلي فكل مجموعة تصل إلى الحكم لا تبني مؤسسات دولة حقيقية عصرية بل تبني مؤسسات تبدو حداثية من الخارج لكنها تدار بمنطق قبلي، ورغم تعاسة الوضع في العديد من هذه الدول فإن قبيلة الحاكم سواء الدينية أو المذهبية تعتقد أنها أسعد حالًا من بقية القبائل، مما يخلق عداوات شعبية بين المواطنين يَجِبُ ألاّ تكون.

لذلك، ما يحدث في سوريَا حاليًا، وما حدث مثله من قبل في ليبيَا والعراق واليمن والسودان وغيرها من الدول، هو إزاحة لقبيلة الحاكم من قبيلة أخرى، وكما فهمت من رواية “1984” للعبقري ، فإن أي تغيير عنيف تحت مسمى الثورة أو الانقلاب، تزول معه طبقة حاكمة وتأتي طبقة أخرى جديدة، سيصحبه مزيدًا من العنف والديكتاتورية. فإذا كان داخل البلد الواحد، المجموعات المختلفة من سكانه تدخل في عداء وحروب أهلية ومذهبية، فما بالنا بالعلاقة بين سكان الدول المختلفة؟

من خبرة شخصية طوال سنوات مضت، أصبح لي أصدقاء من مختلف الدول (العربية)، ومن بقاع العالم المختلفة، التقيت بهم في مؤتمرات وورش تدريبية وغيرها، ما سمح بوجود علاقات طيبة بيننا هو أن كل إنسان منا أراد أن ينفتح على الآخر ويتعرف عليه، وعلى ثقافته، وهو يدرك أنه”آخر”، وأنه “مختلف”، وأنه يجب أن يستوعبه ويتقبله كما هو.

فالوحدة بين الشعوب لا تُفرض بـ”محقن الدواء” في حين على أرض الواقع قد توجد كراهية بين بعض من هذه الدول وشعوبها لأسباب عديدة ومختلفة، بل قد تحدث هذه الوحدة، عندما تركز هذه الدول على ترسيخ دساتير حديثة لا تميز بين مواطنيها، وتتحرر من القبلية، وتنتج مواطن ينتمي لوطنه، يعرف لأنه يحمل جنسيه أرض بعينها أن عليه وجبات وله حقوق يحصل عليها بغض النظر عن دينه أو مذهبه أو عرقه، وقتها عندما يلتقي مع مواطني الدول الأخرى، سيقبلهم ببشاشة لأنه يعي أنهم مختلفون عنه وأنه يحترم هذا الاختلاف، غير ذلك ستظل هذه المنطقة منكوبة بداء القبلية، وستظل صراعتها صفرية، ولا يوجد منتصر دائم وكل مجموعة تسعى للانتقام من الأخرى وإلغائها من الوجود.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

بيتر مجدي
[ + مقالات ]

باحث وكاتب صحفي متابع للشأن الكنسي وشؤون الأقليات.
زميل برنامج زمالة الأقليات- مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان- الأمم المتحدة، جنيف/ ستراسبرج 2023.
زميل برنامج "" () لشبونة 2022.