وتعرفون الحق، والحق يحرركم(إنجيل يوحنا ٣٢:٨)
الآية ”وتعرفون الحق، والحق يحرركم“ تكشف/ تَستعلِن لنا أن الطريق الوحيد لكي” تعرفون الحق“ هو الحق ذاته، لأن ”الحق يحرركم“ من كل زَيف، حينئذ تستطيعون أن تعرفوا الحق.
لذلك ”ليس أحد يقدر أن يقول: «يسوع رب» إلا بالروح القد“ [1]. لأن الروح القدس هو ”روح الحق“.
فالحق يستعلن ذاته بذاته مباشرة دون وسيط لأي إنسان يطلبه صادقًا. وشرط الصدق هو أن يكون لك الفكر الإنساني الحر والمجرَّد من كل فكر أيديولوجية أو تأثير مُسبَق.
وليس أحد قادر أن يحررك من زَيف معرفة مصدرها الشيطان الكاذب إلا الحق ذاته ”الحق يحرركم“، لأن الشيطان مكتوب عنه أنه يظهر في صورة ملاك من نور مثل نبي. وهكذا خدع وسيطر على فكر البشر.
لذلك حرص الرب أن تكون العلاقة بينه والإنسان مباشِرة منذ خلق آدم. وكانا يتكلمان فمًا لأذن بدون حجاب أو وسيط. فلا مجال للبس أو شِبه ظن في أن ما يحدث هو الحق.
لم يكن هناك حاجزًا بين طبيعة الله والإنسان مع أن كلاهما كائن آخر بالنسبة للآخر. كان العامل المشترك الضامن لسلامة التواصل دون تحريف هو روح الله القدس الذي نفخه الله في أنف آدم عند الخلق ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار آدم نفسًا حية
[2]. فكان التماثل هو ضمان وضوح التواصل بين المِثل والمثيل.
وبمجرد حدوث تغيُّر في طبيعة الإنسان بتغربه عن القداسة، حدث التنافر الذي استلزم اختباء آدم وحواء من وجه الله خلف أوراق شجر الجنة [3] وانتهى الأمر بخروجهما من حضرة الله لعدم تجانس طبيعة القداسة وطبيعة الشر ”لا شركة للنور مع الظلمة.. لا يدوم روحي في الإنسان بَعد.. ففارقه روح الله“. فإن طَرد آدم من الجنة ليس عقوبة بل نتيجة.
ولكي يعود الإنسان إلى الحالة الأولى وانفتاح المعرفة المباشرة مع الله التي كانت موجودة قبلًا، كان لابد أن يزول الحاجز المتوسط الحاجب للتماثل في القداسة فترجع حياة الشركة. وقد حقق الله هذا التدبير عبر مراحل متتالية مع الإنسان منذ السقوط.
ونجد تلخيص هذا التاريخ في عبرانيين ١ ”الله بعد ما كلم الآباء بالأنبياء قديمًا بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه، الذي جعله وارثًا لكل شيء، الذي به أيضًا عمل العالمين“. فاختار الله له أناسًا في كل جيل -أي الأنبياء- وخصصهم له بتقديس روح الله فيكون لهم -في أثناء التنبؤ – شبه تلك الحالة الأولى للإنسان في معرفة الله وإرادته الصالحة.
وأخيرًا ظهر الله نفسه في الجسد ليكون بشخصه، هو المجال والعلاقة والتواصل والاتحاد مع الإنسان دون وسيط. وهذا يعكسه اللقب اللاهوتي للمسيح أنه ”كلمة الله … ابن الله“ وأنه أيضًا ”ابن الإنسان“.
فلأن القداسة والتقديس شرط وضمان وضوح الصلة والاتصال والاتحاد مع الله، لذلك تجسد المسيح وحقق قداسة الإنسان في ذات ناسوته ثم نقلها للمؤمنين به من أجلهم أقدس أنا ذاتي لكي يكونوا مقدسين في الحق
[4]، من خلال مراحل خلاص المسيح للبشر الذي تضمن:
التكفير (إلغاء خطية الإنسان).
التبرير (منح الإنسان بر مجاني من الله، هو بر المسيح يسوع ”ابن الإنسان“).
التقديس (الوصول بكيان الإنسان للقداسة التي تليق بمعيَّة الله).
التمجيد (اتحاد الإنسان بالله والدخول إلى مجال مجده وأبديته وخلوده).
إن التجسد الإلهي بميلاد المسيح ابن الله، الله ظهر في الجسد
[5] هو الحدث -المُطلَق- لتواصل الله مع الإنسان، بأن كلمنا ”في ابنه“ بدون وسيط من أنبياء، بحيث أن الله ذاته هو الوحي المقدس متجسدًا، أي كلمة الله ذاته منطوقًا ومسموعًا وملموسًا ومرئيًا وحيًا بشخصه في وسطنا الذي كان من البَدْء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه، ولمسته أيدينا، من جهة كلمة الحياة
[6]. ونلاحظ ختام الآية بعبارة ”من جهة كلمة الحياة“ لتأكيد أن تواصل الله بكلامه -كلام الحياة- إلى الإنسان صار محسوسًا ملموسًا حيًا في شخص المسيح يسوع ربنا.
بخلق آدم صار الإنسان موجودًا في حضرة الله، و بالتجسد الإلهي حلَّ الله في كيان الإنسان. بل وضمن الله دوام حلوله في كيان محبوبه الإنسان بأن سكن الروح القدس قلبه منذ يوم الخمسين وصار روح الله حاميًا للمصير الأبدي للإنسان ضد كل رِدَّة كسقوط آدم الأول.
لقد كان أنبياء العهد القديم ”مسوقين بالروح القدس“، أما الآن فالذين في المسيح -إن صدق إيمانهم وانتبه وعيهم- فهم أعظم من أنبياء بسبب روح الله الساكن فينا: وأما متى جاء ذاك روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق
[7]. واضح أن روح الله القدوس في اتصاله المباشر بالإنسان هو الضامن لأن نعرف جميع الحق الذي هو بالضرورة ليس خارج الله سبحانه الذي هو جميع الحق: ذاك (الروح القدس) يمجدني، لأنه يأخذ مما لي ويخبركم. وكل ما للآب هو لي. لهذا قلت إنه يأخذ مما لي ويخبركم
[8].
فكل مَن كان صادقًا وطائعًا لترتيب الله وتدبير خلاصه في المسيح يسوع، يصير أعظم من نبي. ليس فقط يتكلم بكلام الله مثل نبي بوحي من روح الله، بل الروح نفسه يملأه ويفيض منه شهادةً لله في العالم، مَن آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه، لأن الروح القدس لم يكن قد أُعطِي بَعد لأن يسوع لم يكن قد مُجِد بعد [9].
قال الرب يسوع المسيح: بعد قليل لا تبصرونني ثم بعد قليل أيضًا ترونني لأني ذاهب إلى أبي
[10]. هذا الكلام للرب ليس فقط عن غياب زمني مؤقت للمسيح بسبب القبر ثم ظهورات الرب بعد القيامة، ولكني أقرأ فيه بالروح عن نعمة العهد الجديد في التغييرات الكيانية في التلاميذ (والمسيحيين) بفعل قيامة الرب المجيدة. فما كان قبلًا محصورًا في نظرة إنسانية قاصرة ”تبصرونني“، صار الآن رؤية“ تتجاوز العين المادية إلى ما وراء حجاب الجسديات.
ويكمل الرب قائلًا:
قد كلمتكم بهذا بأمثال، ولكن تأتي ساعة حين لا أكلمكم أيضا بأمثال، بل أخبركم عن الآب علانية. في ذلك اليوم تطلبون باسمي. ولست أقول لكم إني أنا اسأل الآب من أجلكم، لأن الآب نفسه يحبكم، لأنكم قد أحببتموني، وآمنتم أني من عند الله خرجت. خرجت من عند الآب، وقد أتيت إلى العالم، وأيضا أترك العالم وأذهب إلى الآب». قال له تلاميذه: «هوذا الآن تتكلم علانية ولست تقول مثلا واحدًا. الآن نعلم أنك عالم بكل شيء، ولست تحتاج أن يسألك أحد. لهذا نؤمن أنك من الله خرجت».(إنجيل يوحنا 16: 25- 30 ))
نفهم من حديث الرب لتلاميذه أن هناك تحول حدث في العلاقة بين الإنسان والله بسبب قيامة المسيح وإتمام الخلاص. وهو زوال الحجاب الذي وُجِد بين الله والإنسان بعد سقوط الإنسان وأدى إلى اختباء آدم وحواء بين شجر الجنة عند سماعهما صوت الرب يقترب منهما فلم يعد التواصل المباشر مع الله كما كان قبلًا. أما الآن وبعد القيامة يقول المسيح عن الذين صار لهم نعمة التبني لله في المسيح، إنه لا يسأل الآب من أجلهم، لأنهم ليسوا منفصلين عنه. والدليل أنه علَّمنا أن نصلي ونقول لله ”أبانا الذي في السموات“.
أيها الأخوات والأخوة في العالم كله… اعلموا هذا: بعد قيامة المسيح لم يعد الحق الإلهي في حاجة إلى دليل خارجي لتأكيده، لأن دليله فيه… ”وتعرفون الحق والحق يحرركم“…
إن الإنجيل ليس حروف وكلمات بل شخص الرب ذاته . ومثلما ”الكلمة (المسيح ابن الله) صار جسدًا وحلَّ بيننا“ [11] بالتجسد، صار شخص المسيح كلمة حية مقروءة في الإنجيل المقدس: الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة
[12]. ولهذا قال له المجد: أنتم الآن أنقياء بسبب الكلام الذي كلمتكم به
[13]. وهذا هو معنى “الحق يحرركم”، وفإن حرركم الابن فبالحقيقة تصيرون أحرارًا
[14].
وفي كل كلمات الرب -لا يذكر سبحانه- أي طرف آخر غيره يضمن إثبات صدقه أنه الحق لأن : كلمة الله قوية وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين، وخارقة إلى مفرق النفس والجسد والروح ومميزة أفكار القلب، ونياته
. [15]. وفي كل زمان ومكان فإن كل مَن يشتاق أن يتلاقى بشخص الحق سبحانه عليه أن يلجأ إلى الصدق الإنساني والوعي الإنساني المخلوق فيه كنعمة ربانية لأن المسيح يسوع ربنا لن يتركه بلا شاهد للحق، لأنه هو الذي وعد قائلًا: “أنا هو الطريق والحق والحياة…ومن يُقبِل إليَّ لا أُخرِجه خارجًا “.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟