فُطمنا منذ الصغر على كراهية الأنانية.. أن نتخلص من الـ”إيجو” الشرير الذي بداخلنا، ونتحلي بفضائل الإيثار والعطاء.. بداية من الطفل الذي يقدم لزميله قطعة من المقرمشات قبل أن يأكل شيئا منها، مرورًا باليافع الذي يجب عليه تمرير كرة القدم لبقية فريقه، والعم والخال الذي يجود بالـ”عيدية” لاسعاد أطفال العائلة، نهاية بالأبطال الذين بذلوا أرواحهم في صورة أيقونية لهدم الذات من أجل الآخرين.

الأمر هنا يتخطى أطنان التعاليم الدينية المختلفة والتي تدور في فلك “حب لأخيك ما تحبه لنفسك”، بل لدينا تراكم ثقافي مهيب في محاربة الـ”إيجو” يمكن أن نلمسه في الأدبيات الة القائمة علي التفسير المادي وليس الميتافيزيقي. حتى الأدبيات الرأسمالية المعارضة قدمت لنا مصطلح Psychological Egoism (الأنانية النفسية) وهو مذهب فلسفي يعتبر الـ”إيجو” هو المحرك للسلوكيات الفردية بما فيها الموصوفة بالإيثار والعطاء! فعندما تتخلص من أنانيتك وتمنح شيئا لآخر فأنت في الحقيقة تفعل ذلك طمعا في تحقيق مصلحة ذاتية. ربما تكون ثوابًا دينيًا، أو تخفيضًا في الضرائب، أو حتى شعورًا بالسعادة والسلام الداخلي يرضي الـ”سوبر إيجو” بداخلك.

طبقا للسيكلوچيكال إيجويزم، فكل أفعالنا الغير أنانية هي فعليا مواربات أنانية بشكل ملتوي، لأننا نفعلها لمصلحة أنفسنا، ولن تفلتوا من سيطرة الـ”إيجو” ولو حرصتم!

عن الـ"أنا" 1“أبراهام لينكولين” قال عن نفسه أن كل دوافعه في الحياة كانت أنانية. يُقال عندما سألوه: كيف ساعدت المرأة في إنقاذ خنازيرها من الغرق في المستنقع وغامرت بحياتك ثم تصف نفسك بالأنانية؟ أجابهم بأنه لم يكن ليستطيع النوم ليلا لو تركها دون مساعدة.

بطريقة أخري، فهو أنقذ الحيوانات كي ينعم بنوم هادئ، وهو دافع ذاتي جدا وليس كما يبدو للوهلة الأولى. “لينكولين” الذي حافظ على دولته من مخاطر الحرب الأهلية، والداعي لتحرير العبيد، يرى دوافعه لكل ما فعل هو هذا الـ”إيجو” الأناني الملعون!!

عن الـ"أنا" 3الفيلسوف الفرنسي Auguste Comte (أوغست كومت) هو الذي ابتكر مذهب الـ Altruism (الإيثار)، وهو لا يعني التنازل عن الـ”أنا” من أجل الآخرين وحسب، بل يشترط ألا يعود عليك أي استفادة أو مصلحة من ذلك حتى تكون منتميا لفضيلة الإيثار.

لدى “كومت” فأي استفادة هي غير أخلاقية. وهو صاحب العبارة الفرنسية الشهيرة “الحياة من أجل الآخرين” والتي صارت حجر زاوية في الأدبيات الماركسية.

عن الـ"أنا" 5بينما الفيلسوفة النصف أمريكية نصف روسية Ayn Rand (آيان راند) في كتابها اﻷشهر: The Virtue of Selfishness (فضيلة الأنانية) هاجمت الإيثار بمفهوم “كومت”، وقالت أن من حق الإنسان أن يكون أنانيًا، وأن يفسر سلوكه الخدمي (الإيثار) بشكل صادق على أنه مدفوع بالـ”أنا”. وقالت أن مهاجمة الـ”إيجو” وطرحه علي أنه دافع غير أخلاقي، هو طرح يحض علي النفاق والادعاء. وأن زعم البشر أن دوافعهم لخدمة الآخرين تخلو من المصلحة، لن يجعلهم يفهمون أنفسهم بل فقط يخدعونها. “راند” قالت بوضوح وجرأة:

لو الاهتمام بالمصلحة الشخصية هو أنانية، إذن فأنا أدعوكم للأنانية

(Ayn Rand, The Virtue of Selfishness)

كي ننقذ البشرية والأخلاق سويا، علينا أن ننقذ فضيلة الأنانية

(Ayn Rand, The Virtue of Selfishness)

وعُرف هذا الفكر فيما بعد باسم Moral Egoism (الأنانية الأخلاقية)

سواء “الأنانية النفسية” أو “الأنانية الأخلاقية”، فكلاهما يرد سلوكياتنا الخدمية تجاه الآخرين لدافع ذاتي من الـ”إيجو”. والفارق الحقيقي بين المذهبين هو مدي رؤيتهما لأخلاقية ذلك.

فإن كنت من أنصار الفكر التقليدي، أو حتى من أنصار طوباوية الجمال الإنساني وستر قبحه، فربما تجد نفسك أكثر في المنادين بلا أخلاقية الدوافع الأنانية، وانه لا يصح وصف فعل ما بالإيثار وهو ساعٍ لمصلحة.

بينما إن كنت غير تقليدي أو من أنصار صدق الحقيقة رغم ألمها، فربما تجد نفسك أكثر مع المنادين بأن الـ”إيجو” ليس شرا، بل ربما تكون الأنانية هي الدافع الأصيل لكل سلوكياتنا الخدمية الأخلاقية.

شخصيًا، ولدت على الأولي، وانتهيت بالثانية. ليس فقط لأن الثانية تبدو لي أكثر صدقا، بل لأني أراها أيضا الأكثر شجاعة في مواجهة الـ”إيجو” ذاته. والأكثر تصالحا مع الـ”أنا” بقبولها على ما هي عليه.

ووفق هذا التصور عن الـ”أنا”، فربما لا أكتب الآن كي تستفيد، أو تزداد علما وثقافة، أو عمقا بتفاصيل ذاتك. بل أكتب لسبب ذاتي فرداني أهون بكثير من كل هذه الكلمات الكبيرة.

أنا أكتب كيلا أكون وحيدا.. وكل الباقي هو عرض جانبي..

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

باسم الجنوبي
[ + مقالات ]