المقال رقم 3 من 3 في سلسلة تعاليم آباء الكنيسة ضد التهود

سوف نبحث في هذا الجزء صراع الآباء اليونانيين مع بدع التهود والمتهودين التي ظلَّت تلاحق الكنيسة على مر عصورها وإلى يومنا هذا.

العلامة أوريجينوس

التهود وإتباع ناموس اليهود
يشير العلامة إلى جماعة الأبيونيين المتهودين الذين كانوا يتظاهرون بالمسيحية، حيث كانوا يقبلون بيسوع ويفتخرون بأنهم مسيحيون، ولكنهم مازالوا يريدون العيش وفق ناموس اليهود كجموع اليهود، ولكن يُقرَّ العلامة السكندريّ بأنهم يُقدِّمون أفكارًا غريبةً لا تنسجم مع العقائد التقليدية التي تسلَّمناها من الرب يسوع لنكون مسيحيين: [1]

ولنعترف بأن البعض يقبلون يسوع أيضًا، ولهذا السبب يفتخرون بأنهم مسيحيون مع أنهم لا يزالون يريدون العيش وفق ناموس اليهود كجموع اليهود. هذه هي طائفتا الأبيونيين، الأولى تعترف كما نفعل بأن يسوع وُلِدَ من عذراء، والثانية تؤمن بأنه لم يُولَد فيها بهذه الطريقة، ولكن مثل الرجال الآخرين.

(أوريجينوس، ضد كلسس ج2)

ق. أثناسيوس الرسولي

التهود والتظاهر بالمسيحية
يُشبِّه ق. الين بأنهم مثل اليهود، لا يؤمنون بألوهية المسيح، ويطالبهم بأن يُختتنوا مثل اليهود، ولا يتظاهرون بالمسيحية، ويحاربونها في الخفاء، وهذه هي صورة التهود التي تتسلل دائمًا إلى الكنيسة، حيث يتظاهر البعض بالمسيحية والدفاع عن العقائد المسيحية، بل ويلبسون ثياب المسيحية، ولكن للأسف عقولهم وقلوبهم وأفكارهم مملوءة ومتشبعة بأفكار التهود وعقائده غير المسيحية: [2]

لماذا، إذًا، وهم يعتقدون مثل اليهود، لا يختتنون مثلهم، بل يتظاهرون بالمسيحية، بينما هم يحاربونها، لأنه لو كان غير موجود، أو لو كان موجودًا ثم رُقِيَ فيما بعد، فكيف خُلِقَت كل الأشياء بواسطته، وكيف يفرح به الآب لو لم يكن كاملاً؟

(أثناسيوس، المقالات الثلاثة )

التهود ورفض التبني لله الآب
ويصف ق. أثناسيوس بدعة الآريوسيين مُنكري ألوهية اللوغوس، بأنها بدعة المتهودين المعاصرين، حيث يشرح المتهودون الثالوث بصورة تتطابق مع الشرح الآريوسيّ، بحيث أن السامع لا يمكنه إدراك الفرق بين الأرثوذكسية والتهود أثناء الحديث، ويتعجب ق. أثناسيوس من كلام المتهودين الجدد الذين يرفضون بنوة الله الآب، وإعلان الابن المتجسِّد عنه كأب حقيقيّ للبشر: [3]

وهؤلاء المشارِكون الأولون كيف لا يُشارِكون اللوغوس؟ وهذا التعليم ليس حقيقيًا، بل هو بدعة المتهودين المعاصرين. فكيف، إذًا، في هذه الحالة –يمكن لأيّ أحد على الإطلاق، أن يتعرَّف على الله كأب؟ لأن من غير المستطاع أن يحدث بغير الابن الحقيقيّ، وهو نفسه القائل: ولا أحد يعرف الآب إلا الابن ومَن أراد الابن أن يُعلِن له [4].

(أثناسيوس، المقالات الثلاثة ضد الآريوسيين)

التهود وتحريف تفسير نصوص الكتاب المقدس
يُشبِّه ق. أثناسيوس الآريوسيين، بأنهم مثل اليهود يتبنون أسلوب قيافا في تحريف معاني أقوال الكتاب المقدَّس، حيث أنهم بذلك يريدون أن يتهودوا، وهكذا يُحرِّفون معاني الكتاب المقدَّس لخدمة أغراضهم غير الأرثوذكسية، بل ولا يستخدمون الأقوال الرسولية في العهد الجديد: [5]

ولكنهم بدلا من المعنى الحقيقيّ، فإنهم يلقون بذور سم هرطقتهم الخاصة، لأنهم لو عرفوا لما صلبوا رب المجد [6]، ولما كانوا يُحرِّفون معاني أقوال الكتاب الحسنة. إذًا، فإنْ كانوا يتبنون أسلوب قيافا صراحًة، فإنهم يكونون تبعًا لذلك قد قرَّروا أن يتهودوا، حتى أنهم يجهلون المكتوب بأنه حقًا سيسكن الله على الأرض [7]، دعهم لا يفحصون الأقوال الرسولية، لأن هذا ليس من سمة اليهود.

(أثناسيوس، المقالات الثلاثة ضد الآريوسيين)

التهود وإلباس اليهودية اسم المسيحية
ويُحارِب ق. أثناسيوس تهود الآريوسيين، الذين يتظاهرون بالمسيحية، ولكنهم في حقيقتهم ينكرون حقيقة التجسُّد الإلهيّ، وينكرون ألوهية وأزلية المخلِّص، مثل اليهود، فيدعوهم أن يُختتنوا ويتهودوا علانيةً. نفس الأسلوب الذي يتبعه المتهودون في كل عصر، يتظاهرون بالمسيحية، وهم ينكرون في داخلهم العقائد المسيحية الأرثوذكسية، ويحاولون إلباس اليهودية اسم المسيحية: [8]

إذًا، طالما أن هذا الضلال هو يهوديّ، ويُوصَف هكذا نسبةً إلى يهوذا الخائن، فدعهم إذًا يعترفون صراحةً بأنهم تلاميذ قيافا وهيرودس، بدلًا من أن يُلبِسوا اليهودية اسم المسيحية، ولينكروا تمامًا كما سبق أن قُلنا حضور المخلِّص في الجسد، لأن هذا الإنكار أقرب إلى بدعتهم. أو إنْ كانوا يخافون أن يُختتنوا ويتهودوا علنًا بسبب خضوعهم للملك قسطنطيوس، ولأجل أولئك الذين خُدِعوا منهم، إذًا، فدعهم لا يقولون ما يقوله اليهود، لأنهم إنْ تخلوا عن الاسم فيلزمهم عن حق أن يرفضوا العقيدة المرتبطة بالاسم، لأننا نحن مسيحيون. أيها الآريوسيون –نعم نحن مسيحيون ونحن نتميَّز بأننا نعرف جيدًا ما تقوله الأناجيل عن المخلِّص، ونحن لا نرجمه مع اليهود عندما نسمع عن ألوهيته وأزليته، كما أننا لا نعثر معكم، في الكلمات المتواضعة التي قالها من أجلنا كإنسان.

(أثناسيوس، المقالات الثلاثة ضد الآريوسيين)

يوسابيوس القيصري

التهود والخلاص بالناموس والمسيح
يتحدَّث ّ عن جماعة المتهودين التي تُدعَى بـ ”الأبيونية“، التي نادت بأن المسيح مُجرَّد إنسانًا عاديًا، وأنه تبرَّر فقط بسبب فضيلته السامية، وإنه كان ثمرة لاجتماع رجل مُعيَّن مع القديسة مريم، ويعتقدون بأنه مِن الضروريّ الاحتفاظ ب الطقسيّ، لأنهم لا يستطيعون الخلاص بالإيمان بالمسيح فقط: [9]

وقد كان الأقدمون مُحقين إذ دعوا هؤلاء القوم 'أبيونيين‘ لأنهم أعتقدوا في المسيح اعتقادات فقيرة ووضيعة. فهم اَعتبروه إنسانًا بسيطًا عاديًا، قد تبرَّر فقط بسبب فضيلته السامية، وكان ثمرة لاجتماع رجل مُعيَّن مع مريم. وفي اعتقادهم أن الاحتفاظ بالناموس الطقسيّ ضروريّ جدًا، على أساس أنهم لا يستطيعون أن يخلُصوا بالإيمان بالمسيح فقط وبحياة مماثلة. […] وقد حافظوا مثلهم على السبت وسائر نظم اليهود، ولكنهم في نفس الوقت حافظوا على أيام الرب مثلنا كتذكار قيامة المخلِّص. ولهذا أُطلِقَ عليهم اسم 'أبيونيون‘ الذي يُعبِّر عن فقرهم في التفكير. لأن هذا هو الاسم الذي يُطلَق على رجلٍ فقير بين العبرانيين.

(يوسابيوس القيصري، تاريخ الكنيسة)

ق. باسيليوس القيصري الكبير

الناموس هرم وشاخ
يُشدِّد ق. الكبير على أننا ينبغي أن نعبد الله لا بالمعنى القديم للحرف، بل بالمعنى الجديد للروح. لأنه مَن لا يلتزم بحرف الناموس، بل بفهم روح الناموس، هذا يغني للرب أغنية جديدة: [10]

غنوا له أغنية جديدة [11] بمعنى، أن تعبدوا الله، ليس بالمعنى القديم للحرف، بل بالمعنى الجديد للروح. فهذا الذي لا يلتزم بحرف الناموس، بل بفهم روح الناموس، هذا يُغنِي للرب أغنية جديدة. لأن ذلك الذي هرم وشاخ، قد مضى وانقضى من الوعد. أمَّا نحن فقد تَبِعنا الترنيمة الجديدة والمتجدِّدة التي لتعليم الرب، والذي يُجدِّد مثل النسر شبابنا [12]، عندما يفنى إنسان الخارج، ونتجدَّد يوما فيوم.

(باسيليوس الكبير، تفسير سفر ج 1)

ق. غريغوريوس النيسي

الناموس ظل وصورة
يرى ق. ّ أن الناموس الذي أُعطِيَ منذ البَدْء هو ظل وصورة لمَّا سيأتي، لذا فإنه يظل غير صالح للمعارك الحقيقية، ولكن المسيح هو مُتمِّم الناموس: [13]

والناموس الذي أُعطِيَ منذ البدء كظلٍ وصورةٍ لمَّا سيأتي، يظلُّ غير صالحٍ للمعارك الحقيقية [14]. وقائد الجيش هو الذي 'يُتمِّم الناموس‘؛ وهو الذي بُشِّر به مِن قبل وكان مُشترِكًا في الاسم مع خليفة موسى [يشوع] الذي كان على رأس جيش إسرائيل.

(غريغوريوس النيسي، حياة موسى أو الكمال في مجال الفضيلة)

ق. يوحنا ذهبي الفم

الناموس القديم جزئي وناقص
يشير ق. يوحنا ذهبيّ الفم إلى أن المعرفة بناموس العهد القديم كانت جزئية وناقصة إذَا ما قُورنت بمعرفة العهد الجديد الآتية، وهكذا يُبطل الجزئيّ والناقص بالمعرفة الأخرى الكاملة، لأنه متى جاء الكامل فحينئذٍ يبطل ما هو بعض، فهل يجرؤ أحد المتهودين الجدد على الادعاء بأن ذهبيّ الفم كان يًا أو يتبع فكر الهرطقة الماركيونية؟ [15]

مِن كل هذه الاعتبارات يتضح أنه ليس مِن أيّ سوء في ناموس العهد القديم فشل في أن يأتي بنا، وإنما لأنَّ الوقت الآن هو وقت الوصايا الأسمى. وإنْ كان أنقص من الجديد فلا يعني هذا أنه شرير: وإلا بناءً على هذا المبدأ سيكون الناموس الجديد ذاته في الحالة نفسها شريرًا. فإن معرفتنا، في الحقيقة، إنْ قُورنت بالمعرفة الآتية، فهي نوع من الأمر الجزئيّ والناقص الذي يبطل بمجيء المعرفة الأخرى [الكاملة]. يقول: لكن متى جاء الكامل فحينئذٍ يبطل ما هو بعض () رسالة بولس الأولى إلى كورنثوس 13: 10)، كما حدث للناموس القديم من خلال الجديد. ومع ذلك فنحن لا نلوم الناموس الجديد على هذا، لأنه يُفسِح المجال لحصولنا على الملكوت، لكنا ندعوه عظيمًا بسبب هذا كله.

(يوحنا ، شرح إنجيل متى ج 1 )

العهد الجديد أكثر أهمية من القديم
يناقش ق. يوحنا ذهبي الفم معضلة صعوبة تفسير نبوات العهد القديم وسهولة تفسير العهد الجديد، مع أن العهد الجديد يتحدَّث في أمور أكثر أهمية من العهد القديم، مثل: ملكوت السموات، وقيامة الأموات، والخيرات التي لا تُوصَف: [16]

فدعونا نفتح آذاننا، طالما سوف نستمع إلى ألغاز نبوية لأن أقوال الأنبياء تُشبِه الألغاز، وتوجد صعوبة شديدة لفهمها في العهد القديم كما أن أسفاره عسرة الفهم، بينما العهد الجديد أكثر وضوحًا وأكثر سهولةً. ويمكن لأيّ أحد أن يتساءل ولماذا قد دُوِّن العهد القديم بهذه الطريقة، مع أن العهد الجديد يتحدَّث في أمور أكثر أهمية مثل ملكوت السماوات، وعن قيامة الأموات، وعن الخيرات التي لا تُوصَف وتتجاوز حدود العقل البشريّ؟

(يوحنا ذهبي الفم، القصد من غموض النبوات)

ق. كيرلس السكندري

كلمات الناموس مجرد رموز وظلال
يدحض ق. كيرلس السكندريّ بدع المتهودين بضرورة إتباع الناموس، حيث يُؤكِّد على أن كلمات هي مُجرَّد ظلال ورموز لكلمات المخلِّص الرب يسوع المسيح، لأن كلمات المسيح أسمى وهي الحق، فهل يمكن أن يتجرأ المتهودون الجدد في عصرنا على الادعاء بأن ق. ّ كان ماركيونيًا في جعله لكلمات المسيح أسمى وأحق من كلمات أسفار موسى؟! [17]

قد يظن وبشكلٍ خاطئ أن أسفار موسى تفوق كلمات المخلِّص. لأن هذا ما تبدو عليه الآية بحسب الظاهر، وبقدر ما يقول قائل، معتبرًا الآية دون تدقيق، تسبغ على أسفار موسى شهرة أكثر من كلمات المخلِّص. لأنه بقوله: فإن كُنتم لستم تصدقون كُتب ذاك، فكيف تصدقون كلامي [18]. فإنه بطريقة ما يعطينا أن نفهم أن كتب موسى في موضع أسمى من كلماته هو. لكن طبيعة الأمر إذَا ما تفحصناه بعمقٍ سوف يكشف لنا عن مدى حماقة تلك الفكرة البعيدة عن التصديق والقبول، لأنه كيف يمكن أن تُعرَف كتب موسى بأنها تفوق كلمات المخلِّص، بينما كلماته كانت رموزًا وظلالاً وكلمات المسيح هي الحق؟

(كيرلس الإسكندري، شرح إنجيل يوحنا مج1)

معرفة الناموس ناقصة
يرى ق. كيرلس أن تعليم الناموس لم يكن كافيًا لتتميم حياة التقوى في خدمة الله، ولم يُكمِّل شيئًا. ويرى أن المعرفة التي أُعطِيت عن الله في الناموس هي معرفة ناقصة، ولكن يُعلِّم ربنا يسوع المسيح بأمورٍ أفضل مما كانت تحت الناموس. فهل يجرؤ أحد المتهودين الجدد في عصرنا على اتهام ق. كيرلس الإسكندريّ، الملقَّب بـ”عمود الدين“، وبـ”ختم الآباء“، بأنه كان ماركيونيًا؟ [19]

لأنه كما أن الناموس حينما أتى بهذا التعليم، الذي لم يكن كافيًا لتتميم حياة التقوى في خدمة الله، لم يُكمِّل شيئًا. هكذا أيضًا المعرفة التي أُعطِيت عن الله تحت الناموس كانت ناقصة، وكانت فقط تستطيع أن تمنع الناس من عبادة الآلهة الكاذبة، وتُقنِعهم أن يعبدوا الإله الحقيقيّ الواحد، لأنه يقول: لا يكن لك آلهة أخرى أمامي [20]، وللرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد [21]. ولكن يُعلِّم ربنا يسوع المسيح بأمور أفضل من التي كانت تحت الناموس، ويُعلِّم تعليمًا أوضح من وصية الناموس، ويُقدِّم للجميع معرفةً أفضل وأوضح من معرفة العهد القديم. لأنه أوضَّح لنا بأن وضع نفسه أمامنا على أنه صورة الآب قائلاً: مَن رآني فقد رأى الآب [22]. وأيضًا أنا والآب واحد [23].

(كيرلس الإسكندري، شرح إنجيل يوحنا مج 2)

عدم كمال الناموس
يشير ق. كيرلس إلى أن المسيح أنقص من قوانين الناموس، وأضاف إليها مُحوِّلاً الرمز إلى الحقيقة، فالمسيح لم يكن مثل الكتبة الذين كانوا يُطبِّقون تعليم الناموس في كل مرة في أحاديثهم معه، بل لم يكن المسيح يتبع الرموز التي كانت في كتب الناموس كأنه مُستعبَد لها، بل كانت كلمته مُميَّزةً بالقوة الإلهية: [24]

لأن الكتبة كانوا يُطبِّقون تعليم الناموس في كل مرة في أحاديثهم معهم [أي اليهود]، أمَّا ربنا يسوع المسيح فلم يكن يتبع الرموز التي في كتب الناموس كأنه مُستعبَد لها، بل إذ هو يجعل كلمته مميَّزةً بالقوة الإلهية، فإنه يُنادِي: سمعتم إنه قيل في القديم لا تزن. أمَّا أنا فأقول لكم […] لا تشتهي [25]. رغم أن الناموس يقول صراحةً إنه لا ينبغي لأيّ واحد أن يضيف على قوانين الله أو يُنقِص منها. ولكن المسيح أنقص منها وأيضًا أضاف إليها، مُحوِّلاً الرمز إلى الحقيقة. لذلك، فلا يمكن أن يُحسَب أنه مِن بين الذين هم تحت الناموس، أيّ مِن بين المخلوقات، لأن مَن وُضِعت على طبيعته وصية العبودية، يكون بالضرورة تحت الناموس.

(كيرلس الإسكندري، شرح إنجيل يوحنا مج 2)

الخلاصة:
نخرج من هذا البحث ببعض النتائج الهامة والضرورية، وهي أن مجال الدراسات اليهودية هو مجال بحثيّ وأكاديميّ مهم في فهم الخلفية الحضارية، والتاريخية، والاجتماعية، والدينية لنصوص العهد الجديد، ولكن تفسير عقائد وتعاليم العهد الجديد ينبغي أن يكون في ضوء عمل المسيح وتدبيره للخلاص، وليس في ضوء تعاليم العهد القديم العتيق. حيث يُؤكِّد آباء على أن قد تحرَّرنا من أحكام ووصايا الناموس اليهوديّ، وحارب آباء الكنيسة بدع التهود والمتهودين في القرون الأولى منذ نشأة المسيحية، متمثلة في جماعة الأبيونيين وغيرهم من المسيحيين المتهودين، الذين كانوا يتظاهرون بقبول المسيحية، ولكنهم ما زالوا يتبعون ناموس اليهود وتفاسيرهم وتأويلاتهم، ويطبقونها في تفسير نصوص العهد الجديد، وهو ما نراه الآن يحدث في عصرنا الحديث تحت دعوى دراسة الخلفية اليهودية للأناجيل والرسائل على اعتبار أن المسيح والرسل كانوا يهودًا في الأصل، ولكن هذه في الحقيقة دعوات للارتداد إلى التهود بصورةٍ مُقنَّعةٍ وغير واضحة.

لقد أكَّد جميع الآباء والمعلمين الكنسيين بلا استثناء في القرون الأولى للمسيحية على أن العهد الجديد قد أبطل وصايا وشرائع العهد القديم، لأن العهد القديم كان مُجرَّد ظل وصورة ورمز للعهد الجديد. كما واجه آباء الكنيسة خطر التهود والارتداد إلى اليهودية، الذي بدا واضحًا في دخول التفاسير والتأويلات اليهودية للعقائد المسيحية الأساسية، فحذَّر آباء الكنيسة المؤمنين الحقيقيين من الانسياق وراء هذه المعتقدات والتفاسير والتأويلات اليهودية. وناشد آباء الكنيسة المؤمنين المسيحيين الحقيقيين عدم التعاطي مع هذه المعتقدات والأفكار اليهودية الدخيلة على إيمان الكنيسة المسلَّم من المسيح إلى الرسل. وأشار آباء الكنيسة أيضًا إلى أن تعاليم وناموس العهد القديم هي تعاليم رمزية ومؤقتة بطُلت بمُجرَّد مجيء المرموز إليه وهو شخص الرب يسوع نفسه، مُتمِّم الناموس ومُكمِّله، وحجر الزاوية لكنيسة العهد الجديد. كما أكَّد آباء الكنيسة على أن تعاليم الناموس والعهد القديم هي تعاليم جزئية وناقصة كمُلت بمجيء تعاليم العهد الجديد الأسمى والأكمل، وأنه حينما يأتي الكامل فحينئذٍ يبطُل كل ما هو جزئيّ وناقص. وعندما كان آباء الكنيسة يصفون تعاليم العهد الجديدة بتلك الأوصاف، لم يخشوا من الاتهامات بالهرطقة الماركيونية، التي يُطلِقها البعض في أيامنا هذه عن جهل وعدم وعي، على كل مؤمن حقيقيّ يريد التمسُّك بتعاليم الأرثوذكسية كما هي في الكتاب المقدَّس، وكما شرحها آباء الكنيسة بكل أمانة وتقوى. فهل يجرؤ هؤلاء المتهودون الجدد على إطلاق هذه الاتهامات الباطلة على آباء الكنيسة الأرثوذكسيين في سياق وصفهم لتعاليم العهد القديم، بأنها تعاليم ناقصة وجزئية عند مقارنتها بتعاليم العهد الجديد الكاملة والسامية؟!

هوامش ومصادر:
  1. أوريجينوس، ضد كلسس ج2، ترجمة: القس ، 2022، 5: 61، ص 269. [🡁]
  2. أثناسيوس، المقالات الثلاثة ضد الآريوسيين، ترجمة: مجموعة من المترجمين، ، 2017، 1: 11: 38، ص 104. [🡁]
  3. أثناسيوس، المقالات الثلاثة ضد الآريوسيين، ترجمة: مجموعة من المترجمين، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2017، 1: 11: 39، ص 106. [🡁]
  4. إنجيل متى 11: 27 [🡁]
  5. أثناسيوس، المقالات الثلاثة ضد الآريوسيين، ترجمة: مجموعة من المترجمين، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2017، 1: 13: 53، ص 130، 131. [🡁]
  6. رسالة بولس الأولى إلى كورنثوس 2: 8 [🡁]
  7. سفر زكريا 2: 10 [🡁]
  8. أثناسيوس، المقالات الثلاثة ضد الآريوسيين، ترجمة: مجموعة من المترجمين، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2017، 3: 26: 28، ص 329. [🡁]
  9. يوسابيوس القيصري، تاريخ الكنيسة، ترجمة: القمص ، ، 1999، 3: 27، ص 130.[🡁]
  10. باسيليوس الكبير، تفسير سفر المزامير ج 1، ترجمة: د. ، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2020، عظة 6: 2، ص 186، 187. [🡁]
  11. مزمور 33: 3 [🡁]
  12. مزمور 3: 1-5 [🡁]
  13. غريغوريوس النيسي، حياة موسى أو الكمال في مجال الفضيلة، ترجمة: الأب ، منشورات ، 1996، القسم الثاني، ص 85. [🡁]
  14. رسالة بولس إلى العبرانيين 8: 5 [🡁]
  15. يوحنا ذهبي الفم، شرح إنجيل متى ج 1، ترجمة: د. ، 1996، عظة 16: 6، ص 182. [🡁]
  16. يوحنا ذهبي الفم، القصد من غموض النبوات، ترجمة: د. ، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2017، عظة 1: 3، ص 53، 54. [🡁]
  17. كيرلس الإسكندري، شرح إنجيل يوحنا مج1، ترجمة: د. وآخرون، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2015، 3: 1، ص 313. [🡁]
  18. إنجيل يوحنا 5: 47 [🡁]
  19. كيرلس الإسكندري، شرح إنجيل يوحنا مج 2، ترجمة: د. نصحي عبد الشهيد وآخرون، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2015، ص 369. [🡁]
  20. سفر الخروج 20: 3 [🡁]
  21. إنجيل متى 4: 10 من تث 6: 13 [🡁]
  22. إنجيل يوحنا 14: 9 [🡁]
  23. إنجيل يوحنا 10: 30 [🡁]
  24. (كيرلس الإسكندري، شرح إنجيل يوحنا مج 2، ترجمة: د. نصحي عبد الشهيد وآخرون، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2015، ص 390. [🡁]
  25. إنجيل متى 5: 27، 28 [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: تعاليم آباء الكنيسة ضد التهود[الجزء السابق] 🠼 ضد التهود: الآباء المدافعون
أنطون جرجس
بكالوريوس اللاهوت اﻷرثوذكسي في   [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: عظات القديس غريغوريوس النيسي على سفر الجامعة
ترجمة كتاب: "الثالوث"، للقديس أوغسطينوس
ترجمة كتاب: "ضد "، للقديس غريغوريوس النيسي