المقال رقم 10 من 11 في سلسلة هؤلاء علموني

سبق لي أن أوضحت بعض الأسباب التي تجعلني أحب أحد المؤلفين دون الآخرين، ولكن هناك حالات من الحب تتعمق قلبي وتتغلغل في خلايا مخي بحيث أعجز عن التحليل، فلا أصل إلى الجذور التي تربطني بأحد المؤلفين، وقصارى ما أقول عندئذٍ إني أحبه كما أحب اللحن الموسيقي العظيم، أو أعجب به كما أعجب بالتمثال الرائع، وأتعلق به برباط من الحنان كما لو كان هذا المؤلف أبًا أو أمًّا.

فإني أعجب ب مثلًا؛ لأنه ألَّف قصة خالدة رائعة تدعي «» هي في الذروة من الفن، ولكن حبي له لا ينبني على هذه القصة وحدها، بل أحرى أن تبعث هذه القصة في نفسي إعجابًا بقدرته، ولكني لا أحبه لأنه قادر فقط، وإنما لأنه ضعيف عاجز أيضًا، قد ارتكب أخطاء وتورط في مشاكل لم يعرف كيف يتخلص منها، فإحساسي نحوه هو الحنان والرقة، هو عندي: بابا تولستوي، لهذه الأخطاء والتورطات نفسها.

عاش تولستوي عيشة الفسق وهو شاب، ثم حاول أن يكون شيخًا طاهرًا وأسرف في معنى الطهارة حتى قال، وحاول أن يمارس ما كان يقول به: إن الزوج يجب ألا يتصل بزوجته إلا بغية التناسل. ولكن أخفق؛ إذ كان يصارع جسده وهو فوق السبعين، ويعود من هذا الصراع خائبًا.

وقضى شبابه وهو لا يكاد يدري أن في هذه الدنيا أديانًا يؤمن بها الناس ويجعلون منها دستور حياتهم، حتى إذا اكتهل شرع يشتغل بالدين ويحاول الإيمان، فإذا به يتورط في ارتباكات ذهنية وعادات سلوكية انتهت به آخر حياته إلى اثني عشر يومًا من الضلال والدمار، ثم الموت. وكان شريفًا له لقب كونت، وعنده آلاف الأفدنة، يستغل عشرات الفلاحين في زراعتها، ثم انبلج له نور جديد، فإذا به يجمع هؤلاء الفلاحين ثم يعرض عليهم أن يوزع الأرض بينهم؛ إذ لا حق له في استغلالهم، ويغادر الفلاحون منزله، وفي نفس كل منهم شك أو شبهة في سلامة عقله. ثم تدري عائلته بما جرى في هذا الاجتماع فتكفه عن التصرف وتمنعه من التنازل عن أرضه، وتستمر على الرغم منه في استغلال الفلاحين.

وألَّف عشرات القصص الخالدة، وكلها فن ومجد وحب، ملأت الدنيا موسيقى وأدخلت السعادة إلى قلوب الملايين من البشر، ثم يختمر في نفسه الإيمان الجديد بأن الناس لا يحتاجون إلى الفن، وإنما يحتاجون إلى الحنان والخير والقناعة وسذاجة العيش، فيكفُّ عن التأليف ويرفض أن يتناول قرشًا من أرباحه من هذه القصص، ثم لا يكتفي بهذا بل يعمد إلى شراء الجلود ويصنع بيديه أحذية للفلاحين؛ لأن صنع حذاء يدفئ قدم الفلاح خير من إخراج كتاب يجد فيه القارئ لذة فنية، وتثور العائلة في وجهه، وتضرب عليه حصارًا حتى لا يتورط في عمل أرعن جديد. وكان له صديق طبيب من أولئك الرجال الذين يحابي القدر بهم بعض الناس، فهم حب وإخلاص وتضحية، وهم سعادة لأصدقائهم ونور للعقل والقلب.

وكان تولستوي إذا جاءه هذا الصديق شهق شهقة الخلاص، فهو يستقبله ويدخله غرفته ويقفل الباب، ويبقى الاثنان يتناجيان. ولكن زوجة تولستوي لا تطيق كل هذا الحب ينحرف عنها من زوجها إلى هذا الطبيب، فهي تغار وهي تحقد، ثم تنفجر، فتكتب في مذكراتها بأنها نظرت من صير القفل، ولا تشك في أن بين تولستوي وبين هذا الطبيب حبًّا جنسيًّا شاذًّا، وكلا الرجلين قد أوشك على الثمانين. وهذا حقد الغيرة، وعمى الغيرة، وكفر الغيرة.

ويستقر في ذهن تولستوي أنه قد فشل في حياته، فلا هو استطاع أن يوزع الأرض على فلاحيه، ولا هو استطاع أن يؤمن بالإيمان الساذج الذي كان ينشده بإحساسه، ولا هو قادر على أن يعيش العيش الساذج الذي قال به ودعا إليه، بل إن نفسه لتهفو حتى وهو في هذا النسك إلى أن يؤلف قصة غرامية، وأنه مع دعواه بأن التناسل هو الغاية المفردة من التعارف الجنسي ليتقدم في ذل إلى زوجته.

والدنيا حوله في آلام، فقر وجوع ودنس وظلم، أجل، ليس له الحق في أن ينعم بطعام طيب أو فراش دافئ، وهو يحس أنه قد اقترب من الليل الطويل والنوم الأخير، وأنه يجب أن يتنكر الإنكار العظيم لحياته الماضية، وأن يفر من الدنيا إلى… إلى الله، وكيف يفر إلى الله هذا الشيخ الذي بلغ الثانية والثمانين؟

في الساعة السادسة من صباح يوم ٢٨ أكتوبر من عام ١٩١٠ تأتي إليه عربته التي ينتظرها بميعاد، ويحرص الحوذي على الصمت والسكون حتى لا يستيقظ أحد آخر، ثم تسير به العربة إلى محطة السكة الحديدة، فينزل ويجد صديقه الطبيب في انتظاره، ويأتي القطار فيركبان في إحدى عربات الدرجة الثالثة، وينزل كلاهما في إحدى المحطات، ويسيران إلى دير حيث تستقبلهما الراهبات، ولكن لا تمضي أيام حتى تعرف ابنة تولستوي -وهي فتاة في السادسة والعشرين- مكانه، فتذهب إليه وتدخل الدير وتقف إلى جنب والدها، ولكنه هو يحس من هذه الزيارة أن الدنيا قد شرعت تجره إليها بعد أن تركها، فهو يستيقظ في الرابعة من الصباح، والثلوج تكسو روسيا بأجمعها، فيفر مرة أخرى مع ابنته والطبيب.

ويحس قشعريرة تلجئه إلى أن يرتاح في غرفة بإحدى محطات السكك الحديدية، وبعد أيام بين يدي ابنته، يموت… يموت موتًا عظيمًا بعد أن عاش حياة عظيمة، لقد ألَّف تولستوي عشرات القصص الجميلة، ولكن قصة حياته أجمل بل أخلد، إنها كانت جهادًا شاقًّا وأخطاءً متوالية في سبيل الحق والشرف، ونحن أعجز من أن ننهج هذا النهج في الحياة، ولكن هذا العجز يزيدنا حبًّا له. وحياته هي رؤيا دائمة، هي دعوة إلى أن نتحرى الحق ونجرب التجارب في العيش، فننفض العادات، والتقاليد، والعرف، إذا لم نجد أنها تلائم العيش المثمر البار.

وتجارب العيش هي في النهاية أثمن ما يطلبه من المؤلف أو المفكر، ونحن ننتفع ونسترشد بحياة المؤلف كما ننتفع بمؤلفاته، بل ربما أكثر؛ لأن حياة المؤلف هي نهج جديد للبشر.

وكثيرًا ما أقارن بين حياة ومؤلفاته، فأجد أن كفاحه الشخصي للتعصب الديني قد ربَّى أوروبا وعلمها معاني جديدة لشرف الفكر، رباها وعلمها بأكثر مما ربتها وعلمتها مؤلفاته، وكذلك الشأن في حياة أو ؛ ذلك لأننا لسنا واثقين بأننا نعيش في حضارتنا الراهنة الحياة الفضلى على المستوى الأرحب، ومن الحسن أن نصدم من وقت لآخر بمن يوضحون لنا الخطأ والخطل في عيشنا الحاضر، أو على الأقل يغرسون الشك في نفوسنا حتى لا نسرف في عاداتنا الاجتماعية المورثة ونتقيد بها كما لو كانت شعائر دينية، فمجتمعنا الذي نعيش فيه مثلًا هو مجتمع اقتنائي يعلمنا كيف نقتني، ويغرس في نفوسنا عواطف الكسب والجمع والغيرة والحسد، وكثيرًا ما نسير إلى أقصى حد مع هذه العواطف فنقع في هموم هي سموم تأكل في نفوسنا وأجسامنا معًا، ونشقى بما نقتني.

وقد رفض غاندي أن يعيش وفق المبادئ التي يدعو إليها هذا المجتمع، فقنع من الدنيا بشملة وعنزة، وعاش سعيدًا إلى سن الثمانين تقريبًا، ولعله كان يعيش أكثر لو لم يقتل، وكانت له مبادئ في الخير والبر والإخاء والحب هي ثمرة هذا العيش الساذج، أو على الأقل كانت بعض ثمرته؛ لأننا يجب ألا ننسى أن أسلوب عيشنا «يكيِّف» أفكارنا ويعين أخلاقنا إلى حدٍّ بعيد، وأسلوب الاقتناء في العيش يبعث الطمع والحسد، وأسلوب القناعة في العيش يبعث الطمأنينة.

•••

وإني أذكر هنا رجلًا جرَّب تجربة في العيش كانت إلهامًا لغاندي هو هنري ثورو الكاتب الأمريكي، الذي كسب غاندي عنه أسلوب العيش، كما أخذ عنه شعار الثورة الهندية على الإمبراطورية البريطانية، وهو «العصيان المدني». وقد كان هنري ثورو يقصد من هذه العبارة إلى أننا نكون أحرارًا بحيث لا يربطنا المجتمع بعاداته وأهدافه وأساليبه وقيمه؛ لأن لكل منا حق الاستقلال في تنظيم عيشه وفق مبادئه الشخصية، حتى حين يخالف العرف المألوف، وقد خرَّج غاندي هذه العبارة تخريجًا آخر هو أن الهنود يجب ألا يتعاونوا مع الإنجليز.

ولد ثورو في عام ١٨١٧ ومات في سنة ١٨٦٢، وقد ألَّف كثيرًا، ولكن ميزته أنه أدخل الطبيعة في الأدب الأمريكي، وأثار الوجدان لجمال الريف والغابة والطير والوحش، وكان الروح التجاري والاقتنائي في أيامه على أشده في الولايات المتحدة، فعمد هو إلى صده، وترك المدينة وأقام في الغابة، وكتابه «والدين» هو أثره العظيم الذي يذكر لنا فيه تجاربه وإحساساته عن هذه الحياة الفطرية التي عاشها. وهو يقول عن تجربته هذه:

لقد أردت أن أعيش عن قصد، وأن أجابه حقًّا عمق الحياة الأصلية فقط؛ كي أعرف ما يمكن أن تعلمني هذه الحياة، حتى إذا قاربت الموت أكون واثقًا بأني قد عشت، ولم أكن أرغب في أن أحيا بما لم يكن أصيلًا في الحياة؛ لأن الحياة غالية، كما أني لم أكن أقصد إلى الاعتكاف ما لم يكن هذا ضروريًّا، إنما أردت أن أعيش في عمق وأن أمتص مخ الحياة، وأن أحيا في قوة حياة إسبرطية تُبعد عني ما ليس من الحياة، وأن أدفع الحياة إلى مأزق، وأن أصل منها إلى أن أدوِّن ما فيها، فإذا كانت خسيسة فإني سوف أعلن خستها للعالم، وإذا كانت سامية فإني أريد أن أعرف هذا السمو وأجربه وأقدم عنه حسابًا.

(هنري ديڤيد ثورو)

هذا كلام جِد وعمل جِد، فإننا لم نقف قط هذا الموقف من الحياة، وإنما الأنبياء وحدهم الذين وقفوه وجربوه؛ إذ لست تجد نبيًّا إلا وله فترة من الاعتزال والاعتكاف يترك فيها المجتمع، ويبحث فيها عن مراسيه في الدنيا، وهو في هذا الاعتكاف «عاصٍ مدني» يحاول أن يتخلص من القيم والأوزان الاجتماعية كي يصل إلى ما يقابلها من القيم والأوزان البشرية التي تعلو على العادات والعرف. والأديب المخلص في حاجة إلى مثل هذا الاعتزال والاعتكاف من وقت لآخر، ولكن ثورو لم يكن يريد من فراره إلى الغابة أن يعتكف للتأمل فقط، وإنما كان يريد أن يجد ويجرب طريقة أخرى للعيش لعلها تكون أفضل من عيش المتمدنين.

لقد نشأ ثورو في مدينة صغيرة ولكنها مع صغرها كانت تحوي جميع التأنقات التي تمتاز بها المدن، هي مدينة كونكورد في الولايات المتحدة، وعاش ثورو فيها واحترف التعليم، ولكنه تركه للأدب، ولم يوفق كثيرًا، بل الحق أن شهرته في أيامنا تزيد عشرات المرات على شهرته حين كان حيًّا يدعو دعوته الحارة إلى الطبيعة. وإحساس ثورو للطبيعة عميق، يدهشنا أحيانًا بعمقه، انظر إليه حين يقول:

إن الطبقة العليا من التربة التي تحتوي جذور الأعشاب تحوي من الأدوات الميكانيكية ما هو أدق من أدوات الساعة، ومع ذلك نحن ندوسها بأقدامنا، وهذه الحركة التي تجري في التربة في الظلام، وهذه الكيمياء التي تتخلل ألياف العشب قبل أن تظهر ورقة واحدة منه فوق الفتات البالي لجديرتان، لو أننا فهمناهما، بأعظم كشف في الطبيعة.

(هنري ديڤيد ثورو)

ولم يكن ثورو يدعونا إلى التخصص في دراسة الطبيعة، وإنما كان يطالبنا بأن نعيش في الطبيعة، وهو يوضح لنا أن ارتباطنا بالمجتمع أو الحرفة أو السياسة أو الحكومة أو غير ذلك من المؤسسات الاجتماعية إنما هو شيء ثانوي إلى جانب ارتباطنا بالطبيعة؛ بالأرض والجبل والنهر والشجر والحيوان والطائر، فيجب أن نعيش مع هذه الأشياء أو فيها. ثم يجب على الإنسان أن يكون قادرًا على أن يعيش منفردًا متوحدًا يأنس إلى الطبيعة دون الحاجة إلى مجتمع. كما يجب أن يَنشد سعادته واختباراته من الطبيعة وليس من النجاح المالي أو الاجتماعي، وهو هنا لا ينكر قيمة الصداقة بل يكبر من شأنها، ولكنها صداقة الزمالة في الطبيعة.

إن الإنسان الاجتماعي كائن صغير إزاء الإنسان الطبيعي؛ الأول يعيش في المدينة، وهو محدود الاختبارات والآفاق، له هموم صغيرة تستوعب نهاره بل بعض ليله، وهو يعمل جادًّا متعبًا كي يجمع ثروة أو يحقق غاية اجتماعية طول عمره، ولكن الإنسان الطبيعي لا يحتاج إلى أن يكد ويتعب إلا للحصول على طعامه وكسائه، أما سائر وقته فينقضي في الالتصاق بالطبيعة. وهنا يصدمنا ثورو بقوله: لماذا يفرض علينا العمل ستة أيام في الأسبوع ثم يومًا من الراحة؟ أليس العكس هو الأولى؟

وهو يعني أننا إذا عمدنا إلى ترك التكاليف الاجتماعية الباهظة، وارتضينا بساطة العيش بين أحضان الطبيعة، فإن يومًا واحدًا من العمل في الأسبوع يكفل لنا جميع حاجاتنا، أما الأيام الباقية فهي للاستمتاعات والاختبارات.

ترك ثورو مدينة كونكورد إلى بقعة نائية في عام ١٨٤٣، وكانت سِنُّه وقتئذٍ لا تزيد على ستٍّ وعشرين سنة، وهناك بنى بنفسه كوخًا من الخشب، وكان قريبًا منه غابة يحصل منها على خشب الوقود، وكذلك بالقرب منه بركة تحوي القليل من السمك. وكان عندما يحتاج إلى أكثر مما يحصل عليه من البِركة والغابة، يؤجر نفسه للمزارعين المجاورين ويشتري بعض حاجاته بما يكسبه من أجر عمله. وقد كلفه بناء الكوخ ثمانية وعشرين دولارًا، وكان طوله ١٥ قدمًا وعرضه ١٠ أقدام، وهو يصفه بأنه يحوي من المرافق أكثر مما يحتوي المسكن العادي في المدينة: «ولم يكن له قفل على الباب أو ستار على النافذة، وكان جزءًا من الطبيعة بقدر ما كان جزءًا من العمل البشري.»

وهو حين يصف الطبيعة تحس كأنه قد انتشى بها كما ينتشي أحدنا بالخمر، بل كأنه قد تزوجها ويحس فيها طربًا جنسيًّا قد بلغ الذروة. وهو يستخرج منها لهذا السبب الإحساسات والمعاني التي تخطر على بال من يعيشون في المدن حيث معظم اللذات مصنوع، انظر إلى قوله:

الإنسان الحيوان ابن عم أشجار الصنوبر وأحجار الصخر. ليست الأرض التي أدوسها هامدة ميتة؛ إذ هي جسم وروح، وليس لأمعائها الدقيقة نهاية، هنا كيمان من الأنوار، من الأكباد، من الأمعاء، أليس لك أمعاء؟ إن للطبيعة أمعاءً، ثم هي أم البشرية، وعندما نضع البذور فيها تتجرد ثم تنمو.

(هنري ديڤيد ثورو)

هذا هو الانتشاء بالطبيعة، وهو مثل كل انتشاء يحوي شيئًا من الهذيان، ولكنه هذيان ملهم يدل على حقائق. وهو يقول أيضًا:

يجب أن تصعد فوق الجبل كي تعرف العلاقة بينك وبين المادة؛ أي بين جسمك وبين المادة، لأن جسمك يجد بيته هناك.

انظر إلى أصابعي، وكيف أتناول وأعبث بها! أجل، إنها هذه الأصابع، قد تكون جزءًا من قمة هذا الجبل الذي أصعد إلى قمته، كي أرى أبناء عمومتي، إنه يحوي أصابع الأيدي والأقدام كما يحوي الأمعاء، ومن هنا اهتمامي.

عِش في كل فصل من فصول السنة، تنفَّس الهواء، واشرب الشراب، وتذوق الفاكهة، واستسلم لها جميعًا، ولتدفعك جميع الرياح، وافتح مسامَّك جميعًا، واستحمَّ في مدِّ الطبيعة وفي أنهارها ومحيطاتها في جميع الفصول.

وإذا كنت تحس أنك تستقبل النهار والليل في طرب وفرح، وإذا كانت الحياة تنقل إليك أنفاس الزهر والعشب في أرج جميل، فأنت موفَّق، والطبيعة تهنِّئك، ولك الحق عندئذٍ في أن تحس أنه قد بورك عليك.

(هنري ديڤيد ثورو)

•••

لم يقضِ هنري ثورو عمره كله في كوخه؛ إذ هو رجع بعد سنة وشهور إلى المدينة، وهو بهذا يحملنا على أن نفهم أن عودة البشر إلى حياة الفطرة في الغابة لم تعد ممكنة، وإنما قصارى ما نفهمه من تجربته أنه أومأ إيماءة لنا بأن التكاليف الاجتماعية الباهظة نستطيع أن نستغني عنها، وأن في «الفقر الإداري» كما سماه قيمة يجب ألا نستهين بها، فإن حياة المدينة وما فيها من هرولة وعصبية وهموم، كل هذا يمكن النجاة منه بأن نجعل شعارنا: كيف نستغني؟ بدلًا من كيف نقتني؟

والولايات المتحدة بعد مائة سنة من تجربة ثورو أحوج إلى عِبرته مما كانت في عام ١٨٥١؛ لأن المباراة التي يعيش فيها الأمريكيون في هذه الأيام هي أقتل للنفس، وأبعث للقلق والخوف، مما كانت في أيامه. والأمريكي الذي ينبعث في عام ١٩٥٠ إلى مثل تجربة ثورو هو رجل سعيد بالمقارنة إلى المهرولين العصبيين الذين يملئون أَسِرَّةَ المستشفيات للأمراض العقلية، وإنه لمن الحسن أن ينبهنا كاتب، بإسرافه في الحب للطبيعة، إلى أنه، إلى جنب الشارع والنادي وسهرات الكئول، وعد النقود، وشراء الأرض، واقتناء الضياع أو الأسهم في الشركات، إلى جنب هذا توجد أرض وسماء وأشجار وزهور وأنهار وجبال، وأن القمر يضيء في الليل ويكسو الحقول بأشعته، وأن النجوم تنادينا في الظلام كي نتأملها ونتحدث إليها، وأننا من وقت لآخر يجب أن نختلي ونستوحد، كي نعيد النظر في حياتنا، ونسأل هل نحن نعيش مسوقين بضغط العادات الاجتماعية التي لم نفكر من قبل في قيمتها؟ وألا يجدر بنا أن نغير هذه العادات أو ننقحها بإلهام الطبيعة التي تردنا إلى الأصول التي تردنا على الأصول والجذور؟

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: هؤلاء علموني[الجزء السابق] 🠼 ڤيودور ميخائيلوڤتش دوستويڤسكي[الجزء التالي] 🠼 ليڤ نيكولاياڤيتش تولستوي
سلامة موسى
[ + مقالات ]

المعرفة عقل وتجربة واختبار، ولكن العقيدة تلقين وإيحاء وتكرار.