منذ خمس أعوام، كان شاب مصري اسمه "عمر الزهيري" مولع بالسخرية من الواقع بشكل إبداعي، بالكاد أنهى العشرينيات، وينتظره مستقبل مجهول في عالم اﻹخراج. كان "الزهيري" تلميذًا نجيبًا للمخرجة "كاملة أبو ذكري"، عظيم الحلم في عالم قواعده ﻻ تحفز على اﻹبداع بل التقليد، وعندما حصل على قصة روائية محورها الفانتازيا وتصلح أن تكون فيلما كوميديا ناجحًا عن "رجل تحول إلى دجاجة"، تفنن في التفاصيل وكسر القواعد.

الفيلم النهائي لم يكن عن الرجل، بل عن المرأة… الزوجة هي البطل.

أعوام من البحث عن تلك التي تصلح لدور البطولة… لم يختر “نجمة شباك” بل امرأة عادية لم تحترف التمثيل يومًا إنما فقط تحبه… انتقاها ﻻ لشيئ سوى كونها منحوتة لهذا الدور وكأنما خلقت من أجله… “دميانة نصار حنا”، أو “أم ماريو” كما ينادونها في قرية “البرشا” محافظة المنيا. امرأة ﻻ تعرف القراءة والكتابة، فقيرة، ومسيحية تؤمن عقائديا بعدم الطلاق ولم تقابل يومًا من يعطيها خيارات إن فقدت زوجها كعائل للأسرة، من ذا الذي أصلح منها لدور يتطلب الإيمان بالكفاح والعمل والقيام بدور الزوج في حماية اﻷسرة مهما تكلف اﻷمر؟ ليس مطلوبًا سوى أن تكون نفسها، وأما “الصنعة” و”المهنية” فهي مسألة تعلّم، وهو ما تكفلت به “ا” التي تجيد العمل في فرقة “مسرح الشارع” بالبرشا، ملوي.

“أم ماريو”، العادية جدا، حصلت في خطوتها اﻷولى على:

  • ريش: هل يخشى الذكر من الأنثى القيام بأدواره؟ 1جائزة مهرجان “كان” السينمائي الدولي،
  • وجائزة لجنة تحكيم الاتحاد الدولي لنقاد السينما (فيبريسي)
  • والجائزة الكبرى لمهرجان “بينجياو” في الصين،
  • كما تم اختيار فيلم “ريش” ليعرض في “أيام قرطاج” السينمائية في دورتها القادمة،
  • وتم عرضه في مهرجان “الجونة” السينمائي منذ أيام..

ومن “الجونة” المصرية، انفجرت الأزمة.

 

ما قبل اﻷزمة

يمزج الفيلم بين الواقع والفانتازيا، إذ يتناول قصة أب يقرر إقامة عيد ميلاد ابنه الأكبر، فيحضر ساحرًا (حاوي) لتقديم بعض الفقرات المسلية للأطفال، وفي إحدى الفقرات يدخل الأب في صندوق خشبي ليتحول إلى دجاجة. ومع محاولة الساحر إعادته مرة أخرى تفشل الخدعة، ويبقى الأب في هيئة دجاجة.

إلى هنا والخيال الخرافي الساخر هو سيد الموقف، لكن إن ظننت أن الضحكة، هي الحبكة، هي الهدف الوحيد، فأنت واهم. إذ تلجأ الزوجة إلى كل السبل لاستعادة الأب دون جدوى، وبعدما تستنفد ما لديها من جنيهات معدودة، تبدأ في الاعتماد على نفسها لتدبير متطلبات الأسرة، وتدفع بابنها الأكبر للعمل في المصنع الذي كان يعمل فيه أبوه لسداد ديونهم. يعود الأب من جديد، لكن حالته المزرية وفقده للكلام والحركة، يجعله عبئا جديدًا على الأسرة. وتستمر مفارقات الفيلم لتلقي بظلال من النقد الساخر على مشكلات اجتماعية واقتصادية وكذلك أوضاع المرأة المعيلة التي تقوم بكل اﻷدوار.

 

“إيزيس”، التي لملمت أشلاء زوجها “أوزيريس”

للفن حضوره القوي، وللفانتازيا توظيفها الجاد. كثير من اﻷعمال ربما تعرض لمشكلات المرأة، لكن من منهم أبدع لدرجة اختلاق ظروف حياتية معاصرة تجبر “الزوجة” على العمل في “مصمت فراخ” من أجل لقمة العيش، بينما زوجها “دجاجة” مضطرة لإطعامها وإخفائها من اﻷعين والحيوانات الضالة، بل حتى أصحاب العمل حتى ﻻ يتهمونها بسرقة إحدى دجاجتهم. مع فيلم “ريش” ستجلس مرغمًا في مقعد المرأة المعيلة وترى بأعينها وتتحدث بحديثها وتعاني معاناتها عبر لوحات فنية إبداعية لن تنل منك إﻻ بحسب وعيك، وقدرتك كمشاهد على مجاراة طاقم العمل في الاستيعاب.

 

تطورات اﻷزمة

أثار فيلم “ريش” جدﻻ بدأ بفعاليات الدورة الخامسة لمهرجان الجونة السينمائي، بعد انسحاب عدد من الفنانين من العرض، معتبرين أنه “يسيء إلى سمعة مصر”، بسبب حالة الفقر المدقع والبؤس الذي تعيشه العائلة. وغادر العديد من الممثلين المصريين قاعة العرض بعد مرور أقل من ساعة على عرض العمل، وهم “شريف منير” و “أشرف عبد الباقي” و “أحمد رزق”، إضافة إلى المخرج “عمر عبد العزيز”، وَفْقاً لـِما ذكرت الصحافة المصرية. إﻻ أن “أشرف عبد الباقي” علل موقفه بعد ذلك بأنه ليس انسحابًا بل انصرف لارتباطه بموعد هام وأنه لو قابل طاقم العمل لكان حياهم قبل الانصراف.

تحول اﻷمر لحديث الساعة على مواقع التواصل الاجتماعي.

بعدها بيوم، تحول إلى ساحات التقاضي. إذ تقدم المحامي “سمير صبري”، ببلاغ للنائب العام ونيابة أمن الدولة العليا في مصر، ضد مخرج وسيناريست ومنتج العمل، معتبرًا أنه “أساء للدولة المصرية والمصريين”.

سبق التحرك القضائي تحرك برلماني قام به النائب “أحمد مهني”، عضو مجلس النواب، الذي أعلن أنه سيتقدم بطلب إحاطة لرئيس البرلمان المستشار “حنفي جبالي”، ورئيس الوزراء “”، ووزيرة الثقافة، بشأن عرض فيلم “ريش” المسيء لمصر، حيث أنه لا يقدم الصورة الحقيقة لمصر، ويساعد على تشويه الصورة الداخلية لمصر عالميًا”. (المصدر: سكاي نيوز العربية)

من ناحية أخرى، قال المحامي “طارق العوضي” عبر تويتر، إنه في حالة جدية الشكوى، سيتطوع بالدفاع طالبا شهادة رئيس الجمهورية:

 

لغة النخبة لا تصلح ﻷنصاف المشاهدين

أعلم أن مصطلح “النخبة” هو مصطلح سيئ السمعة في مصر، لكني أسفًا مضطر لاستخدامه لحين ابتكار مصطلح بديل. وفيلم “ريش” فيلم نخبوي بوضوح من قبل أن نشاهده.

فكرة التعرض لمعاناة المرأة المعيلة التي تشكل 70% من أسر العشوائيات وفقا لتقارير المنظمات غير الحكومية، أو 57% وفقا لجريدة اﻷهرام الحكومية، هي فكرة غير جذابة للذكور الذين هم باﻷغلب من يدفع ثمن تذاكر السينما. بل تستهويهم أفلام تجارية تتحدث عن الشهامة والمجدعة والحماية للنساء خارج إطار القانون والتي تجسدها بوفرة أفلام “محمد رمضان” في الفترة الحالية. ومن غير المنطقي أن تطرح على مثل هؤﻻء “الفتوات في الخيال” فيلما يشعر الذكر أنه يمكن أن يصير فجأة “دجاجة” منزلية.

إذ بطبيعة الحال فالذكور قد يشعرون بالغبن الشديد وبالتهديد الوجودي لدورهم الاجتماعي إن تحول لهذه الدجاجة. أتصور الفنان الجميل “شريف منير” رأى نفسه في زوج الست “دميانة” الذي يجتهد في إسعاد أطفاله بكل ما يتاح له من قروش قليلة، أتصوره ابتسم وتفاعل مع فقرة الساحر حتى وجد “العطاء اﻷبوي” يتحول من أجنحة الملائكة إلى مجرد كابوس ذو ريش، فترك العرض بعد ساعة واحدة. أسوأ كوابيس الذكور هو الفشل فما بالك بالتحول لطائر داجن لا حول له وﻻ قوة وﻻ فائدة منه. وهل تتوقع حينئذ أن تتمسك بك زوجتك كما فعلت “دميانة”؟

أعترف بأني قابلت في حياتي أكثر من “دميانة” واحدة، قابلت نساء لم يتزوجن عن قصة حب شاعري، معنّفات، أزواجهن من أسوأ ما يكون… وما أن يسقط الزوج طريحًا كالدجاجة بعجز ما، حتى تخرج شخصية “دميانة” التي بداخلهن قوية كعنقاء تنهض من رمادها، وتقود اﻷسرة… لم أفهم يومًا ما المبرر وﻻ الدافع وﻻ من أين استمددن القدرة على الحياة من أجل اﻵخرين. لكن ما أدركه إن لم نقم بتقديس مثل هؤلاء وصناعة اﻷيقونات لهن، فنحن إذن أكثر وضاعة مما نعتقد.

المشكلة اﻷعمق تتولد عندما ترى “مصر” فيك أنت كـ”ذكر” تحول لدجاجة، ثم “مريض” ﻻ يقوى على الكلام والحركة. أنت لست مصر، بل هي الست “دميانة” التي تقوم بكل اﻷدوار. عزمها ﻻ يلين مهما كانت فقيرة، وجاهلة، وفي أشد أحوال العوز أبدا ﻻ تستكين… ما المسيء لمصر في الشخصية التي جسدتها “دميانة” والتي خلبت لب العالم شرقا وغربا؟ ﻻ يوجد. أنه الخوف الذكوري من أن تصير بحالة الدجاجة إذن.

الفقر ليس عيبًا أو حرامًا، وليس في برنامج الدولة المصرية التظاهر بالثراء والرفاهية كما يظن أنصاف الواهمين. أسباب ذلك قديمة ومعروفة، ويضاف عليها أن خطاب رئاسة الجمهورية يعلن ذلك في أكثر من موضع، بل واﻷهم أنه لم يخجل يومًا من فقره هو شخصيًا وأن ثلاجة بيته ظلت فارغة إﻻ من الماء لعدة أعوام.

الفنانون ﻻ يمثلون الدولة أو حتى معبرين عن اﻹرادة السياسية، وليسوا هم من يعلمنا الوطنية كيف تكون، كل هذه المزايدات يجب أن تتوقف فورًا.

بالنهاية، ﻻ أشعر بالقلق على صنّاع هذا العمل الرائع، فقط نقول لكم :مبروك.. شرفتونا وشرفتوا مصر في الوقت اللي خصومكم فضحونا وفضحوا البلد.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

باسم الجنوبي
[ + مقالات ]