قد يكتسب الأشخاص والمجموعات الضعيفة ثقافة الخنوع والمداهنة لمسايرة أمورهم مع الأقوياء أو الأغلبية، وهو ما شاهدته في منشور لأحد المسيحيين “اتنحرر” كما نقولها في لغتنا الدارجة، أي انتفض رافضًا الهجوم على أحد المتطرفين الذي لا يترك أحدًا سواء من دينه أو من خارج دينه إلا ووصمه بـ”التكفير”، مختلقًا عداوات مع “طوب الأرض”، مدعيًا أنهم خطرًا على دينه وأنه يقف لهم مثل “دون كيخوته” محارب طواحين الهواء للتصدي لهم.
هذا المسيحي أدعى في منشوره أنه يرفض الإسارة لهذا المتطرف باعتبار أنها تعاليم السيد المسيح، فما كان من المتطرف بدلًا من شكره، يطالبه بدفع الجزية قبل الدفاع عنه، وهنا لابد من وقفة على أكثر من مستوى.
لم يدع المسيح أبدًا للدفاع عن المتطرفين والمتنطعين من أمثال هذا المتطرف، بل تصدى المسيح بنفسه للمتطرفين في عصره، ووقف في ووجههم وهال عليهم الويلات، المسيح كان يناصر الضعفاء والمستضعفين، والمكروهين والمرذولين في مجتمعه. لم يكن المسيح خانع أو مهزوم ويمارس التقية والمداهنة، بالعكس كان ينطق ويشهد بالحق، وأي كاهن أو أسقف أو كنيسة يعلمون بغير ذلك فهم يحيدون عن طريق المسيح.
لقد خلقت الكنيسة من المسيحيين جبناء يهابون الآخرين ويخافون بل ويصل الأمر لأن ينكرون إيمانهم بدعوى أنه من الحكمة فعل هذا، وتروج خطأ لقول المسيح “من لطمك على خدك الأيمن حول له الآخر أيضًا”.
بديهيًا، لم تكن دعوة المسيح ألا نقاوم الشر في المطلق، كما يعتقد ويروج كثير من مرتادي منابر الكنائس على الأقل في أخر 7 عقود، عشنا وعاصرنا نتائج خطابهم، بل طلب أن لا نقاوم الشر بنفس أسلوبه وهو الشر، بل يجب أن نقاومه بطريقة أخرى، وهنا في حالة هذا المتطرف لا يجب أن ندافع عنه أو نرفض الإساءة إليه عما يفعله من أفعال شريرة تجاه الآخرين، بل يجب مواجهته ووقفه عن ممارسة خطاب الكراهيَة والعنصرية تجاه الآخرين، وهنا يمكن أن نلجأ للقانون، فلن يمنحك أحد حقك إلا إذا سعيت وبحثت عنه.
هذا المتطرف ومن على شاكلته من المتطرفين حينما يقولون لي أنا المصري المسيحي (القبطي) -صاحب الجذور الممتدة للمصريين القدماء- أن أدفع الجزية يكون ردي عليهم “وأنتم غزاة محتلون يجب طردكم من مصر”، فالرد على النطاعة هو الحزم والحسم، وقتها سيعرف أنه لا ينتمي إلى هذه الأرض الطيبة، التي يجب أن يكون انتماء شعبها لها قبل أي انتماءات أخرى فرعية.
وهنا للدولة دور في مواجهة خطاب الكراهيَة والعنصرية، بتطبيق القانون على من يدعو لمثل هذا خطاب، وأن تكون دولة بحق تطبق دستورها الذي يرفض مثل هذا خطاب، وعلى الدولة والمجتمع معا ترسيخ مبدأ المواطنة، وهو يعني ببساطة أن تمنح الدولة جميع مواطنيها أيًا كان لونهم أو دينهم أو عرقهم أو جنسهم نفس الحقوق، وأن يكونوا سواء أمام القانون والقضاء، وألا تميز بينهم، ويؤدون جميعًا نفس الواجبات تجاه الدولة والمجتمع، فكل من يتمتع بجنسية الدولة هو مواطن، وأن نتخطى مرحلة القبلية التي تسيطر على مجتمعنا الذي من المفترض أنه عبر من العصور الوسطى إلى الحداثة على الورق.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
باحث وكاتب صحفي متابع للشأن الكنسي وشؤون الأقليات.
زميل برنامج زمالة الأقليات- مكتب المفوض السامي لحقوق لإنسان- الأمم المتحدة، جنيف/ ستراسبرج 2023.
زميل برنامج "الصحافة للحوار" مركز الحوار العالمي (كايسيد) لشبونة 2022.