أجساد لا تعرف الفساد

في رواية ، يروي لنا قصة الراهب القديس يما الذي يكرس حياته للخدمة والكرازة برسالة الإنجيل إلى أن ينتقل من العالم بعد سيرة عطرة دامت لأعوام عديدة، لكن للأسف، يصبح كل ذلك هباء منثورًا حين تخرج رائحة تعفن من جسد القديس، فيفقد تلاميذه من الرهبان إيمانهم بكل شيء؛ لأن جسد القديس لا يجب أن يتحلل، أو تصدر منه روائح كريهة، فالقديس شخص خارق للطبيعة بطبيعته، وليس مثل باقي البشر. يقف الراهب إليوشة (أحد تلامذة الراهب زوسيما المقربين) مصليًا من أجل حدوث معجزة كيما يرجع الرهبان إلى إيمانهم، وتخرس كل الألسنة التي تتكلم عن معلمه بسوء. لكن، لا شيء يحدث، يُدفن الجثمان وسط ضجيج، وعدم تصديق لما يحدث: أيعقل؟ يُدفن الراهب القديس، ويتحلل جسده مثل باقي البشر، دون حدوث معجزات شفاء وخوارق؟

كتب دوستويفسكي قصته في القرن التاسع عشر وكأنه يصف حال اليوم، فهي تكتظ بأجساد القديسين التي تبدو لأي ناظر عاقل في أشد تحللها، ومع ذلك، يتحدثون عن هذه الأجساد باعتبارها لم ترَ فسادًا!

 

حد السيف

خوارق العادات في قصص القديسين والقديسات 1تصور قصص الشهداء في ال القبطي المؤمن باعتباره كائن خارق للزمكان وقوانين الطبيعة، فهو يموت عدة مرات ويقوم، وتقطع السيوف جسده إربًا إربًا، لنجده يقوم مرة أخرى ويصعق الطغاة: لأنه يفضل أن يموت بحد السيف، لا شيء آخر! ولا أدري ماذا كان سيحدث إن مات الشهيد بأي ميتة أخرى كالحرق أو الشنق، أو بالسم؟ لماذا قطع الرأس بحد السيف بالتحديد؟ لكن، بغض النظر، تظل مشكلتي الكبرى مع هذه القصص هي تلك الصورة المشوهة التي تقدمها عن الإله. فالإله يشارك الرومان في تعذيبهم للشهيد، ولا يبالي حتى وإن كان هذا الشهيد طفلًا صغيرًا؛ فبعد أن يموت الشهيد ويستريح من آلامه، يقيمه الله مجددًا لكي يبهر الرومان بقدرته ويتبارى أمامهم، وبالطبع، لكي يحصل الشهيد على إكليل إضافي، وتكتمل المجموعة. فتجد الإله يقول للشهيد: أنا أعلم أنهم قطعوا جسدك، وخلعوا عينيك، وأحرقوك مرات عديدة؛ لكن، ها أنا أقيمك هذه المرة مجددًا لتشهد لي أمامهم ويخروا ساجدين. في هذه المرة، سيفعلون ما هو أسوء. (تنبيه لحرق الأحداث) لكن، اعلم إني أحبك. وبالطبع، ينهض الشهيد، وهو في منتهى السرور ويشكر الله على هذه الفرصة العظيمة، والإكليل الإضافي. ألا ترى أن الإله هنا قاسي بعض الشيء؟ فالإله لا يتوقف عن الدخول في تحديات مع الرومان الذين يزيدون حدة العذابات في كل مرة ليجربوا الإله، وهو يقبل التحدي، ويدخل معهم في هذه اللعبة، هكذا دواليك.

كسر قانون الحرية الأدبي

بالإضافة إلى القسوة، نجد الإله لا يجد أي غضاضة في خرق قانون حرية الإنسان الذي وضعه في الأساس. فهو يقحم ذاته حتى يؤمن به الجنود الرومان ببث الرعب في قلوبهم ؛ فبعد أن يقتل الوالي الشهيد تجد الشهيد يقوم مجدداً ويذهب للوالي قائلاً ها أنا حي مجدداً، ليرتعد الوالي ظنًا منه أنه يرى شبحًا. هل يتفق هذا التصرف مع روح المسيح الذي كان يتحدث بأمثال، ويحترم من ليس له أذنان ليسمع؟ فالمسيح، لم يكن يقحم المعجزة بهذه الصورة، ولم يرد أن يؤمن به الناس لأعماله بل لشخصه، ممتدحًا من آمنوا ولم يروا، ونافرا ممن آمنوا به تحت سطوة  المعجزة.

وَلَمَا كَانَ فِي أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ الْفِصْحِ آمَنَ كَثِيرُونَ بِاسْمِهِ إِذْ رَأَوُا الآيَاتِ الَتِي صَنَعَ. لكِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ لأَنَهُ كَانَ يَعْرِفُ الْجَمِيعَ.

(الإنجيل بحسب يوحنا ٢)

فالإله الذي يحترم الحرية يترك للإنسان مساحة للشك والرفض. يقول الفيلسوف باسكال إن تحقيق الحرية يتطلب وجود “نور كاف لكل من يرغب أن يرى الحقيقة، وأيضًا غموض كاف لكل من قرر العكس”.

الله بالطبع قادر أن يظهر في ملئ قوته بنور يراه الجميع لكنه لا يفعل هذا حتى لا يكون الجميع مجبرين على الإيمان به دون إعمال عقولهم. هذا هو قانون الحرية الأدبي. الله لا يريد أن يرعب غير المؤمنين به ليؤمنوا، ولا يدخل في تحديات سخيفة مع غير المؤمن أو المجرب، كما توضح لنا قصة تجربة المسيح على الجبل. ثم، لماذا لا تحدث هذه الخوارق في العصر الحاضر؟ لماذا لا نجد أجساد المؤمنين المبتورة جراء التفجيرات الإرهابية تعود وتلتئم من جديد؟

الفلكلور القصصي

هل يعني هذا أننا نلقي بتلك القصص عرض الحائط، ونلغي السنكسار؟ بالطبع لا، فتلك القصص هي نوع من التراث الشعبي أو الفلكلور، وهو نوع من الآداب والفنون له احترامه ومكانته. ودارس الأدبيات والإنسانيات يعلم هذا. لكن، اللوم على من يتعاملون مع هذه القصص على أنها حقائق تاريخية مؤكدة. فنحن لا نعيب على من كتبوا هذه القصص وتداولوها. فالفلكلور حاضر في كل الثقافات والديانات، أبرزها اليهودية. وليست القصص خيالية بالكامل؛ وبالطبع فيها جزء من الحقيقة. فمثلًا، كتب الأساطير اليونانية الشهيرة مثل الإلياذة والأوديسا تستند إلى بعض الحقائق التاريخية التي يمكن أن نستشفها.

قراءة السنكسار من منظور أدبي كنوع من التراث يجعلك تفهم الهدف المقصود منه؛ أما القراءة التاريخية تضع أمامنا نبعًا لا ينضب من المغالطات التاريخية والمنطقية.

على سبيل المثال، دوماً ما تصور القصص الإمبراطور الروماني على أنه غبي للغاية أو معتوه بشكل لا يصدق. على سبيل المثال، نعلم أن قد قتل وعذب عدد هائل من شهداء الكنيسة القبطية. لكن، في كل قصة، يبدو فيها وكأن هذا أول شهيد يعذبه. فهو يدهش في كل مرة يقوم الشهيد من الموت ويسأل محتارًا كيف يقتله. ألم يعذب شهداء من قبل؟ ألم يدرك أن طريقة القتل الفعالة هي قطع الرأس بحد السيف؟ هل يفقد الرجل ذاكرته في كل مرة يعذب فيها شهيدًا أو شهيدة؟ كما تجد الوالي يسأل عن الصليب وماهيته، مع أن الصليب أداة تعذيب رومانية يعرفها كل الرومان! فلو اعتبرنا أن القصص تاريخية، لوقعنا أمام إشكاليات عدة. لكن، من درسوا الأدب يعلمون أن القصص تصور الوالي بهذه الصورة شديدة السذاجة بهدف السخرية (Satire) وهي أسلوب أدبي متعارف عليه حتى يومنا هذا لكسر شوكة الزعماء المتجبرين عن طريق الاستهزاء بهم، كما يفعل رسامو الكاريكاتير، ولعلك شاهدت الفيلم الشهير ل الذي جسد فيه دور ، مصوراً إياه في صورة كاريكاتيرية هزلية بهدف إسقاط هذا الديكتاتور الغاشم. بالطبع، لم يكن هتلر غبيًا، بل كان داهية سياسية وحربية.

طالما تسألت وأنا أسمع هذه القصص، هل ليس هناك أي شيء يفعله هذا الوالي في يومه غير التفرغ لهذا الشهيد أو ذاك؟ فعلى سبيل المثال، تجد دقلديانوس لا يفعل شيء في حياته سوى الحديث عن جرجس وتبخيره للأوثان، يستيقظ وينام على اسم جرجس، هل بخر جرجس؟ هل قام جرجس من الموت؟ كيف أقتل جرجس؟ هل نجحت سوسنا جميلة الجميلات في إقناع جرجس بالسجود للأوثان؟ وحين تسأله زوجته لماذا لا يأكل ولا يشرب الخمر مثل عادته، يقول: جرجس لم يبخر بعد يا ألكسندرا. اتركيني، فأنا الآن حزين. وفي القصص الأخرى يفعل الشيء نفسه مع مارمينا، وأبانوب، وغيرهم.

لم يكن الأمر شخصيًا لهذه الدرجة بالنسبة للرومان، فإعلانهم الحرب على المسيحيين كانت بسبب أن المسيح يدعى ابن الله، وهو نفس لقب الإمبراطور. فالرومان لم يكن لديهم مشكلة في أن يعتنق المرء أي ديانة، مثل الشمس، أو القمر، أو أبولون، أو المسيح طالما أنه لا يسلب الوالي هذا اللقب. لكن، القصص تصور الوالي وكأنه يهتم بخلاص كل فرد يعذبه. تجده ينزل إلى السجن وينصح الشهيد قائلًا: يا بني بخر لأبولون، أنا خائف عليك، وأريد مصلحتك، فقد كنت أحد جنودي المخلصين. هل تعتقد أن والي روما كان يفعل هذا؟

كما تصور القصص على أنه أيضًا شديد السذاجة، ففي قصة الشهيدة مارينا، يرسل الشيطان إليها ثعبانًا وهي في السجن، فتنهض الشهيدة وترشم عليه علامة الصليب ليموت في الحال. ثم، يرسل إليها تنينًا ضخمًا، لتفعل الشيء نفسه وتطرح التنين أرضًا. ثم، يأتي الشيطان إليها بنفسه لترشم الصليب، ويحترق الشيطان في الحال. هل الشيطان الذي يمكنه أن يظهر في صورة ملاك نور، ويقرأ أفكارنا، غبي لهذه الدرجة؟ هل الشيطان لا يعلم أن مارينا ستتذكر علامة الصليب وترشمها؟!

وبالمناسبة، التنين حيوان أسطوري، مثل طائر العنقاء، ولم يوجد في الواقع. لم يجد العلماء له أي حفريات، مع أنهم وجدوا حفريات الديناصورات، وحفريات طيور وحيوانات صغيرة عاشت وانقرضت منذ ملايين السنين، قبل عصر الشهداء بكثير. نعم، عزيزي القارئ، إن كنت لا تعلم: وجود التنين ليس له أساس علمي، والأرض تدور حول الشمس، والأسبوع به سبعة أيام!

البحث التاريخي

يعد البحث عن تاريخية القصص أمرًا محبطًا في كثير من الأحيان، فالباحث سيصدم بكثير من الحقائق حين يعرف أن كثيرًا من قصص الشهداء والقديسين مشكوك في صحتها التاريخية. على سبيل المثال، وفقا لدونالد أتواتر:

لم يبقَ أي تفاصيل تاريخية عن حياة الشهيد مارجرجس الروماني. كان جورج يحظى بتبجيل واسع كقديس جندي منذ العصور الأولى في ديوسبوليس. ويبدو أن القديس جورج استشهد هناك، في نهاية القرن الثالث. أو بداية القرن الرابع؛ هذا كل ما يمكن التكهن به بشكل معقول

(Dictionary of Saints (Third ed.). London: Penguin Reference. p. 152)

كما يعتبر الكثيرون مارجرجس رمزًا لكل شهداء الكنيسة، وترمز سنوات تعذيبه السبع إلى الكمال، وإلى الاضطهاد الدائم الواقع على الكنيسة المجاهدة.

وهناك شهداء مشكوك في وجودهم التاريخي من الأساس، مثل الشهيدة بربارة. لذلك، أزيلت قصتها من التقويم الروماني العام عام 1969، لكنها مازلت مدرجة في قائمة للقديسين.

وختامًا، إن كنت ترى أن التشكيك في قصص الشهداء يرقى إلى التشكيك في العقيدة، لا أعتقد أنك عالم بمن آمنت.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

خوارق العادات في قصص القديسين والقديسات 3
[ + مقالات ]