يُعتبر موضوع أصل النفس مهمًا جدًا في سياق دراسة موضوع الخطية الجدية في التعليم الآبائي، وهناك آراء عديدة في هذا الموضوع. ولكن كانت النظرية السائدة في الكنيسة الجامعة حول أصل النفس هي النظرية الخلقية Creationism، أي إن الله يخلق لكل مولود نفس جديدة.حيث يرى الآباء أن الله خلق الإنسان على صورة الله، والله روح، ولا يمكن أن تكون صورة الله صورة مادية، بل صورة روحية، وهكذا يرى الآباء أن صورة الله في الإنسان هي النفس البشرية المخلوقة على صورة الله، ويرفض الآباء فكرة النفس المولودة، لأنهم يرون أن نظرية النفس المولودة تجعل من النفس شيئًا ماديًا عكس طبيعة النفس الروحية غير المادية، وأنها نفخة من الله.
ق. يوستينوس الشهيد
نبدأ من ق. يوستينوس الفيلسوف والشهيد الذي يُؤكِّد أن النفس مخلوقة، لأن الكون مخلوق، ويرفض فكرة الوجود السابق للأرواح قبل أجسادها، النظرية التي علَّم بها أفلاطون والفلاسفة الأفلاطونيون المحدثون أمثال أفلوطين وبورفيري، والغنوسيون في عصر يوستينوس الشهيد: [1]
لأنه إذَّا كان الكون مخلوقًا، فالنفس أيضًا بالضرورة تكون مخلوقةً. وقد كان وقت لم تكن الأنفس موجودةً فيه، لأنها خُلِقت لأجل الإنسان والكائنات الحية الأخرى.(يوستينوس، الحوار مع تريفون اليهودي)
ق. إيرينيؤس أسقف ليون
ويتحدَّث ق. إيرينيؤس أبو التقليد الكنسي عن أن النفس في أصلها هي نفخة من الله، في حين الجسد الماديّ مأخوذ من تراب الأرض: [2]
ولكن يرى الجميع أننا مُكوَّنون من جسد مأخوذ من الأرض، ونفس حاصلة على نفخة من الله.(إيرينيؤس، ضد الهرطقات)
ق. ميثوديوس الأوليمبي
يُؤكِّد ق. ميثوديوس الأوليمبيّ على أن النفس مخلوقة في الأصل في مقابل تعاليم أوريجينوس والأوريجانيين بالوجود السابق للأرواح قبل انحباسها في أجسادها بعد سقوطها من عالم الغبطة، حيث يقول: [3]
لأن روح الإنسان تُشبِه بدقة الله الذي أنجبها وشكَّلها، وتعكس شبه وملامح صورته الظاهرة، التي شكَّلها الله ليعطيها شكلًا خالدًا لا يفنى، فتبقى كذلك. لأن الجمال المعنويّ غير الماديّ [الله] -الذي ليس له بداية وغير فاسد، ولا يتغير، ولا تصيبه الشيخوخة، ولا يحتاج إلى شيء- يستريح في نفسه، وفي ذات النور الذي في أماكن لا يمكن التحدث عنها، أو الاقتراب منها، وتشمل كل الأشياء في محيط قوته، حيث يخلق ويرتِّب، الروح على صورته. ولذلك فهي [الروح] عاقلة وخالدة، لأنها خُلِقَت على صورة الابن الوحيد -كما قُلت- ولذا فلها جمال لا يفوقه شيء.(ميثوديوس الأوليمبي، وليمة العشر عذارى)
ويشير ق. ميثوديوس في موضع آخر إلى أن النفس مخلوقة من الله، ويدحض التعليم بالنفس المولودة، ويؤكد على أن الله وحده الذي نفخ الروح في الإنسان، الجزء الذي لا يموت ولا يضمحل: [4]
ولو حاول التعليم -بالرغم من ذلك- بأن الطبيعة الخالدة للروح، قد زُرِعَت مع الطبيعة الفانية للجسد، فلن يصدق أحد، لأن العلي وحده هو الذي نفخ [الروح] في الإنسان، الجزء الذي لا يموت ولا يضمحل؛ كما أنه هو وحده خالق الغير منظور والغير فاني، لأنه قال:ونفخ في أنفه نسمة حياة. فصار آدم نفسًا حيةً[5]. هذا هو الله صانع كل إنسان، ولذلك أيضًا حسب قول الرسول:الذي يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون[6].(ميثوديوس الأوليمبي، وليمة العشر عذارى)
ق. ديونيسيوس السكندري
يؤكد ق. ديونيسيوس السكندري على أن النفس مخلوقة بالأمر من الله، ويرفض التعليم بالوجود السابق للأرواح قبل أجسادها كالتالي: [7]
لأجل هذا يضيف [الجامعة]فيرجع التراب إلى الأرض كما كان[8]، هذه الأمور تخص طبيعة الجسد البشريّ، أمَّا بالنسبة للروح، فكما قال عن صُنع الخالق لخلقة الجسد، يقول [عن الروح]وترجع الروح إلى الله الذي أعطاها[9]. ويقول بعد قليل: وهكذا، لأن أنفس الإله ذاتها تمضي بالأمر وبالخلقة، فهي بذلك لم تكن موجودةً من قبل. من أجل ذلك، فنحن بالحقيقة ندين له بالشكر دائمًا وعلى كل شيء.(ديونيسيوس السكندري، تَرْجَمَة أمجد رفعت)
ق. أثناسيوس الرسولي
يُؤكِّد ق. أثناسيوس الرسوليّ على أن النفس مخلوقة على صورة الله في مقابل الغنوسيين، والمانويين، والأفلاطونيين المحدثين، والأوريجانيين، الذين كانوا يؤمنون بالوجود السابق للأرواح في عالم الطوباوية قبل أن تفتر وتُعاقَب على فتورها بانحباسها في أجسادها في العالم الماديّ: [10]
لذلك فالنفس وقد تحوّلت وتناست أنها قد خُلِقت على صورة الله الصالح، لم تعد لديها القدرة على رؤية الله الكلمة الذي خُلِقت على مثاله، ولكنها ابتعدت عن ذاتها، فصارت تتوهم وتتخيل ما ليس له وجود.(أثناسيوس، ضد الوثنيين)
ق. كيرلس الأورشليمي
ويُحارِب ق. كيرلس الأورشليميّ أيضًا التعليم بالوجود السابق للأرواح قبل أجسادها المنتشرة في عصره؛ مؤكِّدًا على أن النفس مخلوقة على صورة الله خالقها: [11]
أَعرف أيضًا أن لك نفس سيدة ذاتها؛ هي أسمى أعمال الله، خُلِقت على صورة الله خالقها. إذ وهبها الله الخلود. إنها كائن حي عاقل، غير فاسد، إذ وهبها الله هذه النعم.
ق. هيلاري أسقف بواتييه
يُؤكِّد ق. هيلاري أسقف بواتييه الملقَّب بـ “أثناسيوس الغرب” على أن النفس مخلوقة في الأصل، ويرفض رفضًا تامًا فكرة النفس المولودة التي تجعل من الروح شيئًا ماديًا، التي نادى بها العلامة ترتليان من قبله في الغرب اللاتيني، وهذا في سياق شرحه لسر التجسُّد الإلهيّ من العذراء مريم، وكيف أخذ المسيح جسده من العذراء مريم، وخلق نفسه الخاصة به في جسده: [12]
“فهم يظنون أنه كما أخذ الكثير من العذراء، قد أخذ أيضًا نفسه منها؛ مع أن الجسد يُولَد دائمًا من الجسد، لكن كل نفس هي العمل المباشر لله”.(هيلاري أسقف بواتييه، عن الثالوث)
ويوضح ق. هيلاري أيضًا في نفس السياق أن النفس مخلوقة من الله، وليست مولودة من الأبوين: [13]
لكن كما أنه اتخذ جسدًا من العذراء بعمله الخاص، هكذا أيضًا اتخذ نفسًا من ذاته؛ ومع ذلك فحتى في الولادة البشرية المعتادة، لا تنشأ النفس أبدًا من الأبوين.(هيلاري أسقف بواتييه، عن الثالوث)
ق. باسيليوس الكبير
يُفرِّق ق. باسيليوس الكبير بين الجسد المجبول والنفس المخلوقة، مُفرقًا بين فعلي ‘جبل' و‘خلق' في نص سفر التكوين، في سياق شرحه لخلق الإنسان، مُؤكِّدًاعلى أن النفس مخلوقة: [14]
قال البعض إن الفعل ‘جبل' قيل عن الجسم والفعل ‘خلق' عن النفس. ربما لا تكون هذه الفكرة بعيدة عن الحقيقة. لأنه عندما قال الكتاب: ‘فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه'، استخدم الفعل ‘خلق'، وعندما تحدَّث الكتاب عن وجود الجسم استعمل الفعل ‘جبل'. فيُعلِّمنا داود المرتِّل الفرق بين خلق وجبل، عندما يقول:يداك خلقتاني وجبلتاني[15]. لقد خلق الإنسان الداخلي [أي النفس] وشكَّل أو جبل الخارجي [أي الجسد]. فالتشكيل يتناسب مع التراب، والخلق يتناسب مع ما هو على حسب صورة الله، ومثلما شكَّل الجسد، خلق النفس.(باسيليوس الكبير، خلقة الإنسان)
ق. يوحنا ذهبي الفم
يُفرِّق ق. يوحنا ذهبي الفم الفرق بين خلقة النفس الجزء غير الجسديّ في تركيب الإنسان، وبين خلقة الجسد من تراب الأرض مثل النباتات والكائنات غير العاقلة، وهكذا يؤكد ق. يوحنا ذهبي الفم على أن النفس مخلوقة من الله مباشرةً، وليست مولودة مثل الجسد الترابيّ من الجسد الترابيّ للوالدين: [16]
لذلك، عندما يعود مرةً أخرى، يعلمنا أيضًا طريقة بنياننا وبداية خلقتنا، ومن ثم خلقة الإنسان الأول وكيفية خلقته. رغم أن هذه التعاليم ورغم المعرفة بأن الإنسان أخذ بداية خلقته من الأرض، مثل النباتات والكائنات غير العاقلة، وأن خلقة النفس الجزء غير الجسديّ قد أعطاها سموًا بارزًا، بفضل الله المحِب البشر، عن طريق منحه العقل ونوال السلطان على كل المخلوقات […] كان هذا بهدف إحضار أكبر قدر ممكن من التعلم حسب التعاليم الفلسفية. أمَّا من أين نستمد جوهر تكويننا فتقول الآية: ‘وجبل الرب الإله آدم ترابًا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة. فصار آدم نفسًا حيةً'. بما أنه تم توضيح للإنسان ما لم يمكن إدراكه بأي طريقة أخرى غير التي وضَّحنا بها، لقد أضاف هذا النوع من الكلمات المادية، وقد أراد أيضًا أن يُعلِّمنا عن إرادة الرب المحِب للبشر من خلال تشكيل هذا المخلوق من الأرض وحصوله أيضًا على الوجود العقليّ عن طريق جوهر النفس، لكي تصبح هذه الكائنات الحية مثالية وكاملة. ‘ونفخ في أنفه نسمة حياة. فصار آدم نفسًا حيةً'، المخلوق من الأرض، وُهِبَ هذه النفخة كقوة محيية، وأصبحت بنية خلق جوهر النفس، على أية حال، أضاف النص: ‘فصار آدم نفسًا حيةً'، هذا المخلوق من تراب، استقبل النفخة من نسمة الحياة، فصار نفسًا حيةً، متمتعًا بالقوة المحيية، حاصلًا لجسده على العضو المسؤول عن هذه القوة المحيية والخاضعة لإرادته.(يوحنا ذهبي الفم، التفسير الكبير لسفر التكوين)
يدحض ق. يوحنا ذهبي الفم التعليم المانويّ بأن النفس تأتي من جوهر الله، كما يدحض التعليم بالنفس المولودة عن طريق التناسل الجنسيّ، لكي تتحول إلى جوهر ماديّ أسوأ من الوحوش البرية، ويصف هذه التعاليم بأنها حماقة، وتجعل من الله شيئًا ماديًا مركبًا، مشيرًا إلى هرطقة تجسيم أو أنسنة اللاهوت، التي كانت سائدة في عصره آنذاك، وهكذا يفرق ذهبي الفم مرةً أخرى بين كيان الجسد الترابيّ وكيان النفس غير الماديّ والخالد، الذي يتفوق كثيرًا على الجسد: [17]
يا له من جنون! يا لها من حماقة! ويا لها من طرق خاطئة أعدَّها إبليس لمن عزم على إتباعه! لإدراك ذلك، ضعوا في اعتباركم كيف تؤدي هذه المسارات إلى اتجاهاتٍ مختلفةٍ تمامًا. يستغل البعض [أي المانويين] قراءة النص: ‘نفخ'، ليقولوا أن الأنفس تأتي من جوهر الله، بينما يقول آخرون على العكس من ذلك، إنها تتحوّل إلى جوهر أسوأ من الوحوش البرية. ماذا يمكن أن يكون أسوأ من هذه الحماقة؟ نظرًا لأن تفكيرهم بليد، وفقدوا المعنى الحقيقيّ للكتاب المقدَّس، فهم مثل رجال عميان البصيرة، يتعثرون في اتجاهات مختلفة أسفل المنحدرات، يمنح البعض النفس كرامةً ساميةً، والبعض الآخر يخفضها دون داعٍ. لأنهم إذَا أرادوا نسبها إلى فم الله حسب قول الكتاب المقدَّس: ‘ونفخ في'، فسيتعين عليهم تجهيزه بأيدي أيضًا، لأنه يقول:وجبل آدم[…] تأملوا إذًا ضعفنا، وما يُقال بخصوص الله، فلنقبل الكلمات على أنها مماثلة للتحدّث عن الله؛ دعونا لا نقلِّل الألوهية في شكل الأجساد وتركيب الأعضاء، لكن نفهمها بأكملها بطريقةٍ تناسب الله. نوضح أن الله غير مركَّب وبلا شكل؛ إذَا أردنا أن نشكِّل انطباعًا في أنفسنا ونريد أن ننسب نظامًا للأعضاء إلى الله، فسنكون في خطر السقوط في جهل اليونانيين عديمي التقوى. […] لاحظوا أيضًا في هذه الرواية الفرق بين هذا الكائن العاقل الرائع، وخلقة البهائم. فيما يتعلق بهم، تذكروا أنه يقول:لتفض المياه زحافاتٍ ذات نفسٍ حيةٍ، وفي الحال خرجت الكائنات الحية من المياه، وبالمثل في حالة الأرض بكلماتٍ متشابهةٍ:لتُخرِج الأرض ذوات أنفس حية. لكن ليس الأمر كذلك في حالة الإنسان، أولًا: يتكوَّن جسده من التراب، وبعد ذلك يُعطَى له قوة الحياة، وهذه هي طبيعة النفس. وفقًا لذلك قال موسى عن البهائم: ‘لأن نفس الجسد هي في الدَّم'، ولكن في طبيعة الإنسان كيانها غير ماديّ وخالد، ولها تفوق كبير على الجسد، بنفس المدى الذي يتفوق فيه الشكل غير الماديّ على الماديّ.(يوحنا ذهبي الفم، التفسير الكبير لسفر التكوين)
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: عظات القديس غريغوريوس النيسي على سفر الجامعة
ترجمة كتاب: "الثالوث"، للقديس أوغسطينوس أسقف هيبو
ترجمة كتاب: "ضد أبوليناريوس"، للقديس غريغوريوس النيسي
نحاول تخمين اهتماماتك… ربما يهمك أن تقرأ أيضا:
- هل يميت الله البشر؟ [١] سوف نحاول في هذا البحث الموجز، عزيزي القارئ، الإجابة عن تساؤلات في غاية الأهمية تمس قضية الموت، وهي: – هل الله يميت البشر؟ – هل الله يعاقب البشر بالموت؟ – هل الله يهلك البشر؟ – هل الله هو علة موت البشر؟ تساؤلات جد خطيرة تمس واقعنا المسيحي المعاصر. لقد خرج علينا البعض يدعون زورًا وبهتانًا......