في الأسبوع الماضي كتبت عن أزمة التقسيم الطبقي لمرتادي بعض كنائس حي مصر الجديدة بقلب القاهرة، وغلق الباب في وجه من هم ليسوا سكان المربع السكني للكنيسة ومنعهم من حضور القداسات، وقصر الأمر على سكان الحي فقط، بالرغم من فتح الباب لمن هم خارج الحي السكني لإقامة “الإكليل” طقس الفرح في تلك الكنائس لأنها تفتح أبوابها لهم نظير مقابل مادي، ولم أكن أتوقع رد الفعل الواسع على المقال ومشاركة كثيرين معي في مناقشة ما طرحه المقال، والبعض أمدني بشهادات عما حدث لهم في بعض من هذه الكنائس، في حين أشار البعض الآخر لعدة مشكلات واجهت تلك الكنائس وحاولوا البحث عن حلول لها، فكان نظام تسجيل العضوية والحجز المسبق وسيلتهم.
وصلتني شهادات من بعض الأصدقاء عن مواقف تعرضوا لها في تلك الكنائس، واحدة منهم بعد 15 سنة حضور للقداسات، أجبرت من بعد كورونا على عدم الحضور لأنها ليست من المربع السكني، وتحكي أنها “تذللت حرفيًا” لبعض كهنة واحدة من تلك الكنائس، ولم يستجب لها أحد، بل وجدت معاملة سيئة من سكرتارية كهنة تلك الكنيسة، وشهادة أخرى حول أمينة خدمة بإحدى تلك الكنائس لم تستطع حضور صلوات أسبوع الآلام لأنه لا تسكن في نطاق الكنيسة.
الهدف من مناقشة هذا الموضوع ليس الاستمرار في انتقاد تلك الكنائس بل محاولة فهم لماذا اتجهوا لهذا القرار، ومما جمعته من معلومات يمكن حصر الموضوع في عدة نِقَاط:
– المستوى المادي المرتفع لتلك الكنائس يجعلها تلفت نظر كثيرين ممن يريدون الترقي الاجتماعي خاصة أن الكنيسة لم تعد مكانًا للصلاة بل صارت مجتمع صغير للأقباط يجدون فيه كل ما يهمهم، فرصة للزواج والعلاقات الاجتماعية، فرصة للتحقق والشعور بالنجاح خاصة في مجال الخدمة، مع أنه مجال تطوعي لكن انعزال غالبية الأقباط عن الاحتكاك بالمجتمع الأكبر أدى لذلك. ولهذا حديث آخر.
– هذه الكنائس لأنها “غنية” فهي تقدم مساعدات لمن هم من خارج المربع السكني أو لكنائس فقيرة في إيبارشيات أخرى، وهذا يجذب من يريدون الحصول على تلك المساعدات، وأيضا من يريدون المساهمة في خدمة “إخوة الرب” من ميسوري الحال.
– قبل عدة سنوات فتحت هذه الكنائس أبوابها لتنظيم اجتماعات لفئات معينة يقبل عليها شباب لا يقطنون المربع السكني القريب، ونظرا لذيوع صيت تلك الاجتماعات وتحقيقها لنجاحات ملموسة زاد الضغط عليهم، فمثلا هناك اجتماع في واحدة من تلك الكنائس يهتم بمساعدة المدمنين وحقق نجاحات معقولة، وأصبح من يخدمون فيه من عانوا مع الإدمان سابقًا، ونجوا منه، وصار لديهم الخبرة في مساعدة من لازالوا تحت تأثيره، وهذا نموذج جيد.
- لكن كل تجرِبة تبدأ بمنحنى تصاعدي وتصل لقمة النجاح ثم يبدأ المنحنى في الهبوط، مثل دورة حياة الإنسان، فمع الوقت زاد الضغط على تلك الكنائس ولم تعد قادرة على استيعاب أعداد أكبر من الحضور، ثم جاءت فترة الحظر بسبب فيروس كورونا وعند العودة بدأت الكنائس في تفعيل نظام الحجز حتى يمكن العودة لممارسة الصلوات والأنشطة المختلفة والسيطرة على عدد الحضور حتى لا يتفشى الفيروس من جديد، ومن بعدها تم تفعيل نظام الحضور لمن هم أعضاء الكنيسة في المربع السكني.
- – أود أن أشير إلى أن الضغط على هذه الكنائس تسبب فيه أيضًا، تلميع بعض كهنتها على حساب غيرهم، فصاروا نجوم شباك يطلب منهم أن يذهبوا للوعظ في المناسبات بالكنائس الأخرى، بالتالي من يريد أن يستمع إليهم عليه أن يذهب إلى اجتماعاتهم، وصارت هذه الكنائس كأنها نبراس أو نموذج غير موجود بالكنائس في الأحياء السكنية الأخرى داخل القاهرة الكبرى، وأصبح البعض يشعرون أن كنائسهم ينقصها شيئا ما وعليهم اللجوء لتلك الكنائس حتى يجدوه، وهذه الأزمة مسؤول عنها الجميع، قيادات الكنيسة بداية من مجمع الأساقفة، وكهنة ومسؤولي كنائس حي مصر الجديدة، وكهنة ومسؤولي كنائس الأحياء الأخرى، الذين جعلوا المؤمنين يشعرون بأن هناك فرقا بين كنيسة وكنيسة.
هل الصورة قاتمة إلى هذا الحد أم أن هناك من يفعل نظام آخر عكس نظام الطبقية المتبع في بعض كنائس حي مصر الجديدة؟
- أشهد أن هناك كنائس اتبعت نظام الحجز حتى فترة قريبة من بعد عودة الحياة إلى ما قبل كورونا، لكنها لم تقسم الناس بنظام طبقي أو تشترط أن يكونوا من سكان المربع السكني، بل تسمح لكل من يريد الحضور أن يحضر شريطة أن يسجل حضوره في يوم غير مزدحم، وهذا جيد، كما أنهم منظمين في كافة الأمور ومواعيد القداسات فلا يطيلوا زيادة عن اللازم في المناسبات والأعياد أو حتى في أيام الجمعة والأحد.
أود أن أشير إلى نموذج لأحد الآباء الأساقفة المتواجد في نطاق القاهرة، ويختلف البعض معه فكريًا، لكن لا يمكن الاختلاف معه على طريقته في الرعاية والتدبير الكنسي، فهو يزور بشكل دوري جميع كنائس الإيبارشية في مواعيد ومناسبات محددة، يصلي يوم محدد في الأسبوع وبعدها، يجلس في مكتبه وبابه مفتوح للجميع، سواء من هم في نطاق الإيبارشية أو من خارجها، لديه فريق سكرتارية من الكهنة، يقابل كل شخص ليفهم منه لماذا يريد مقابلة الأب الأسقف، يقابل الجميع من يريدون السلام فقط أو من لديهم مشاكل يستمع إليهم ويوجههم لأحد الكهنة أو أحد مساعديه المسؤول عن معالجة ملف بعينه، ويتابع هل تمت تلبية طلباتهم أم لا؟
والموقف الذي أقدره أن أحد الأصدقاء ذهب إليه وليس بينهم سابق معرفة وطلب منه أن يعمد طفله، فقبل على الفور ووضح المواعيد التي يصلي فيها في مختلف كنائس الإيبارشية ليختار صديقي منها ما يناسبه وقد كان.
ما أشيد به هنا باعتباره أمرا رائعًا من المفترض أنه الطبيعي الذي يجب أن يقدمه كل راعٍ سواء كان أسقف أو كاهن، ولكن لأننا نفتقد هذه الطريقة في أغلب كنائسنا صرنا نتغنى بها عندما نراها من أحد الرعاة.
النموذج الثاني الذي أود الإشارة إليه هو أحد الآباء الكهنة الذي كان ملء السمع والبصر قبل رسامته، لكنه رسم كاهنًا ليكون مسؤولًا عن كنيسة جديدة تبنى من الصفر في واحدة من المدن الجديدة، وهناك لا توجد أضواء ما قبل الرسامة لكنه قرر الابتعاد عنها، ويحاول جاهدًا أن يبني مع سكان تلك المدينة حديثة النشأة كنيسة جديدة، وهنا لا أقصد معماريًا بل يسعى معهم لأن يكونوا جميعًا أعضاء جسد المسيح، يخدمهم ويفتقدهم، ويكلمهم عن الوحدانية في جسد المسيح، وأنه لا يمارس سيادة عليهم بل يقدم نفسه بمثابة أخ لهم، وأنهم جميعًا أخوة في جسد رأسه هو المسيح، وهذا خطاب لم نعتده من أغلب الكهنة، إضافة إلى أن عظاته تكون لاهوتية بطريقة سلسلة يفهمها الجميع ولا يلجأ للاستسهال بعظات مرسلة بلا دراسة، باعتبار أن الناس بسطاء ولا يجب أن نشغلهم بالأمور اللاهوتية والمعقدة كما يروج كثيرين.
أخيرًا لم يكن هدفي منذ كتابة المقال الأول التشهير أو الإساءة لأشخاص بعينهم، ولم أذكر أسماء الكنائس، وأيضًا حين ضربت أمثلة جيدة لم أرد الإشارة للأشخاص، حتى لا يهتم الناس باسم الشخص وصفته، بل يهتموا بعمله الذي يقدم من خلاله المسيح، فالمشكلة ليست في أشخاص فقط بل في النهج والنظام نفسه، فكما تسبب نهج طبقي في عثرة البعض من الكنائس، كذلك يقدم رعاة وخدام نهجًا آخر يحتوي ويقدم المسيح لمخدوميهم، وأتمنى أن تزداد النماذج الإيجابية.
اقرأ أيضا:
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
باحث وكاتب صحفي متابع للشأن الكنسي وشؤون الأقليات.
زميل برنامج زمالة الأقليات- مكتب المفوض السامي لحقوق لإنسان- الأمم المتحدة، جنيف/ ستراسبرج 2023.
زميل برنامج "الصحافة للحوار" مركز الحوار العالمي (كايسيد) لشبونة 2022.