نختتم بسطورنا هنا سلسلة “كنيسة تنتحر”، واستدعى من الذاكرة البعيدة حكاية سمعتها وأنا بعد صبي يجلس في صفوف مدارس الأحد؛ عن شيوخ التَّرْجَمَةً السبعينية المجتمعين في الإسكندرية في ضيافة ورعاية الملك بطليموس فيلادلفوس في ثمانينيات القرن الثالث قبل الميلاد، لترجمة الكتاب المقدس -العهد القديم- من اللغة الآرامية إلى اليونانية التي كانت سائدة آنئذ في أرجاء الإمبراطورية الرومانية، وبطلب من الملك نفسه، فاستجاب رئيس الكهنة في أورشليم وأرسل له ستة علماء من كل سبط للقيام بمهمة التَّرْجَمَةً (6×12) ليكون مجموعهم 72 لذا سميت التَّرْجَمَةً السبعينية، التي تمت في جزيرة فاروس بالإسكندرية.
تقول الحكاية إنه كلما قابل المترجم في النص اسم الله (يهوه) يقوم ليغسل ريشته ويغتسل ويبدل ثيابه، تعبيرًا عن إجلاله وتقديسه لهذا الاسم، وقد انتابني ذات الشعور وأنا اقترب من كنيسة الله المقدسة والمفدية والمغسولة بدمه الطاهر المسكوب على الصليب، وترددت كثيرًا في اقترابي هذا.
كان لترددي أسبابه؛ فأمامي كائن مهيب مثخن بالجراح، وهي في بعضها -وهو غير قليل- نيران صديقة، تتنازعه وتتصارع حوله، وكل يظن أنه يدافع عنها متحصنًا بنصوص مقدسة وأخرى تراثية، في حين تتصدر ذوات الفرقاء المشهد، وأرصد تراجع التعليم الأرثوذكسي العميق ليفسح مكانه لتعاليم تُغيب العقل وتدغدغ المشاعر وتقيم الأنصبة والسواري، وتحول أنظارنا عن شخص الرب ولاهوت تجسده وحدث الفداء العظيم القائم والدائم.
كنت أتساءل هل يمكن لكنيسة أن تنتحر؟ كيف وهي جسد “الحي الذي لا يموت”؟! ويصدمني توصيف ملاك الرؤيا وَاكْتُبْ إِلَى مَلاَكِ الْكَنِيسَةِ الَّتِي فِي سَارْدِسَ… أَنَّ لَكَ اسْمًا أَنَّكَ حَيٌّ وَأَنْتَ مَيْتٌ
، وكنت أتعلق ببقية ما قاله كقارب نجاة كُنْ سَاهِرًا وَشَدِّدْ مَا بَقِيَ، الَّذِي هُوَ عَتِيدٌ أَنْ يَمُوتَ، لأَنِّي لَمْ أَجِدْ أَعْمَالَكَ كَامِلَةً أَمَامَ اللهِ. فَاذْكُرْ كَيْفَ أَخَذْتَ وَسَمِعْتَ، وَاحْفَظْ وَتُبْ
. [1]
ولكن ما سر “حياة” الكنيسة؟ حسب ما وقر في ذهني التصاقها بمصدر النور فتستنير وتحيا، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ يَسُوعُ أَيْضًا قَائِلًا: «أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ». حسب تأكيده “إِنِّي أَنَا حَيٌّ فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ.
[2]
ولست بحاجة إلى التأكيد على أن الكنيسة جسد المسيح بامتداد التاريخ واتساع الجغرافيا أبدًا لا ولن تموت، بل ستبقى حية حتى يأتي عريسها ويأخذها إلى حياة أبدية معلنًا مجده، وحسب سفر أعمال الرسل يعلن لنا إِنَّ يَسُوعَ هذَا الَّذِي ارْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى السَّمَاءِ سَيَأْتِي هكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقًا إِلَى السَّمَاءِ». فيمَا يحدثنا الرب يسوع المسيح نفسه حسب إنجيل يوحنا “أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَانًا، وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَانًا آتِي أَيْضًا وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ، حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا، وَتَعْلَمُونَ حَيْثُ أَنَا أَذْهَبُ وَتَعْلَمُونَ الطَّرِيقَ
[3]
كلامي وتحليلي عن كنيسة محددة في زمن محدد، وإيماني أن الكنيسة هنا على الأرض هي كيان إلهي بشري، وعندما ينحرف المكون البشري -في زمن محدد من الأزمنة وفي رقعة محددة من الأرض- فهي تذهب إلى إعلان انفصالها عن مصدر حياتها، فيضربها الفتور ويلاحقها الموت.
وفي تحديد أكثر أتناول حال الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في زمن القرن العشرين وما بعده حتى لحظة كتابة هذه السطور، الذي بدأ بصحوة انطلقت لأسباب عديدة داخلها وخارجها، في العقود الأولى من القرن العشرين، لكنها كانت صحوة تحتاج إلى دعم وتأصيل فكري ولاهوتي لم يكن متوفر لروادها وقتها، لكنه توفر بشكل تراكمي مع ظهور حركة التَّرْجَمَةً والتعريب التي أشرنا إليها في سياق طرحنا هذا، وقفز قفزات واسعة مع بداية حركة التكريس التي انطلقت مع سنوات النصف الثاني من ذاك القرن، 1958، بتأسيس بيت التكريس بحلوان، وتبنيه التَّرْجَمَةً والتعريب عن المصادر الآبائية اليونانية.
وشهدت حركة التكريس وبيت التكريس مع انطلاقهما مقاومة عاتية من جناح آخر كان يسعى هو أيضًا للخروج بالكنيسة من عزلتها، لكن برؤى محكومة باسترداد مجد غابر، والبحث عن مكان في خريطة السياسة والوجود على الأرض، وغير بعيد كانت تتشكل جماعة تتبنى العنف وسيلة وتعلن شعارها وميثاقها الذي يحاكى -قبطيًا- شعار وتوجهات جماعة الإخوان المسلمين. حتى في محاكاة المسمى “جماعة الأمة القبطية”. ووجدت تجاوبًا لافتًا وقتها -11 سبتمبر 1952- إلى درجة أن تقفز عضويتها في سنتها الأولى إلى نحو تسعين ألف عضو!!. لكنها كانت ضحية توجهها المفارق للحس المسيحي وضحية صراعات أجنحة ضباط يوليو، التي أصدرت قرارًا بحلها في أبريل 1954. نحن إذن أمام ثلاث توجهات كانت لهم تأثيراتهم المهمة في رسم الصورة الآنية للكنيسة إيجابًا وسلبًا.
أرصد هنا مؤشرات أخشى أن تتفاقم لتنتهى بنا إلى انفصال واقعي عن مصدر الحياة بعيدًا عن الشخصنة أو اتهام أحد بعينه أو توجه ما بمسؤوليهما عما جرى، حتى لا يختطف الطرح إلى “حوار جدلي مفرغ من مضمونه”، تستدعي ثلاثية التكفير (الهرطقة) والتخوين والمؤامرة.
* فيمَا تسلمنا من كنيسة الرسل أن الكنيسة تسير على قدمين متوازنين (الإكليروس والأراخنة) إذا بالإكليروس ينفردون بإدارة الكنيسة، على ألا يبارح الأراخنة مقاعد المستشارين في أحسن الأحوال، ويمد الإكليروس ذراعهم للنزاعات المادية الأسرية والتجارية وحلها، وخلافات الأزواج لوصف العلاج، وغيرها من الأزمات التي ليس لهم خبرة فيها، حتى استشارات العلاقات الحميمية؛ وتزداد الطينة بلة بتصدي رهبان لحل هذا النوع من الأزمات، فكانت النتيجة أنين وانهيار عديد من الأسر خاصة في أوساط الشباب، وانهيار جداران رهبانية عديدة، بعضها وجد طريقه للنشر، وتظل راحيل تبكي على أولادها ولا تريد أن تتعزى لأنهم ليسوا بموجودين.
* وفى سياق استبعاد الأراخنة تنحصر مهمة الوعظ في القداسات على الإكليروس، الذي بطبيعة مهامه الممتدة والمتشابكة، لا يجد وقتًا لإعداد العظة فيقف على باب الهيكل ليستمع لقراءة الإنجيل ويرتب على عجل ما سيقوله في العظة وكثيرًا ما يحشوها قصص من التراث غير الموثق، ويغيب المسيح عما يقول فيمَا القطمارس بتكامل قراءاته يقدم وجبة لاهوتية للكنيسة، ويبرز بشكل واضح شخص المسيح كمحور للقراءات، خاصة في قراءات السبوت والآحاد، فيعمق لاهوت التجسد ولاهوت الفداء. مع أن الكنيسة رتبت إمكانية إسناد الوعظ للدياكون والأرشيداكون، سواء المتفرغين أو غيرهم، ممن أعطاهم الروح القدس موهبتي الوعظ والتعليم.
* وعلى ذكر الرهبان نتوقف مع حال الأديرة موطن الرهبنة، كاختيار إرادي حر ومنهج حياتي خاص من المفترض أنه يفضي بصاحبه إلى طريق الأبدية مع نذوره؛ البتولية والعزلة والنسك والفقر الاختياري، في ضوء أنهما -الأديرة والرهبنة- المصدر الأوحد للاختيار لرتبة الأسقفية الجليلة.
* تعيش الأديرة على التلمذة وإنكار الذات وعدم القنية (الاقتناء)، عندما نقترب منها ماذا نجد؟
ـ اختفاء أو في أفضل الأحوال انزواء الشيوخ وندرتهم، بعد أن استقر الأمر هناك على أن رئيس الدير، الأسقف‘ هو أب اعتراف كل رهبان ديره، فيتم تنميط الدير بما يتفق ورؤية أسقفه.
ـ بعد أن كان للأسقيط “قس” يجول بين أديرته ليتمم سر الإفخارستيا، طَرق الكهنوت أبواب كل الأديرة، وصار حقًا لكل راهب وفق قائمة انتظار معروفة ترتبهم حسب أسبقية الرهبنة، وصار تجاوز أحدًا ممن جاء على دفعته دور الرسامة بمثابة عقوبة وإعلان عدم رضاء أسقفه عنه.
ـ وبما أن الراهب صار كاهنا فمن حقه، وفقًا لطقس الرسامة، أن يتلقى اعترافات زائري الدير، ولنا أن نتصور تداعيات هذا على كليهما؛ الراهب القس والشخص المعترف، ويمتد الأثر إلى آباء الكنيسة في الكنائس خارج الدير. والأكثر دراية بحال أبنائهم وما ينفعهم وما يحتاجونه من توجيه أو إرشاد روحي.
ـ أضف إلى ذلك أن كل الأديرة صارت تشرع أبوابها للزيارات اليومية، بلا ضوابط، ليجد الدير وقاطنوه أنفسهم أمام مفارقة، رهبان تركوا العالم، واعتزلوا الكل ليرتبطوا بالواحد، فإذا بالعالم يقتحمهم وبرضا وترتيب قيادة الدير.!! وترتبك نذور الرهبنة. وتقفز أمامي قولنا في الصلاة الربانية “ولا تدخلنا في تجرِبة”.
ـ وعبر رصد انساق اختيار الرهبان لرسامتهم أساقفة نجد أن كثيرهم لم يمكثوا في الدير ما يكفى لاختبار الحياة الديرية، وترسيخ نذورهم، والتلمذة على شيوخ البرية، بافتراض وجودهم والسماح لهم بتلمذة حديثي الرهبنة، بل أن بعضهم يتم ترتيب إلحاقهم بالدير ثم رسامتهم أساقفة في غضون سنة أو اكثر قليلًا، لتعاني منهم الكنيسة حتى يتوفاهم الله، فلا تلمذة ولا خبرة روحية ولا ارتباط بتراث الآباء.
* وقبل أن نغادر دائرة الأديرة، هل من تفسير لإقامة مزارات لآباء معاصرين فيها، وامتداد هذا الأمر لعديد من الإيبارشيات، بشكل لافت حتى أن البعض يقيم مزاره في حياته وقبل رحيله، والأفدح أن المزار يشبه المذبح المقدس، فنجد الزائرون يسجدون له ويضعون فوقه طلباتهم ومشاكلهم في طلب أن تجد عند “صاحب المقام” استجابة وحل لها، فيما يذكر سفر الرؤيا وبشكل رمزي الذين ماتوا لأجل إيمانهم [4]
ولما فتح الختم الخامس، رأيت تحت المذبح نفوس الذين قتلوا من أجل كلمة الله، ومن أجل الشهادة التي كانت عندهم، وصرخوا بصوت عظيم قائلين: «حتى متى أيها السيد القدوس والحق، لا تقضي وتنتقم لدمائنا من الساكنين على الأرض؟» فأعطوا كل واحد ثيابا بيضا، وقيل لهم أن يستريحوا زمانا يسيرا أيضا حتى يكمل العبيد رفقاؤهم، وإخوتهم أيضا، العتيدون أن يقتلوا مثلهم.(رؤيا يوحنا اللاهوتي 6: 9-11)
* اللافت في غالبية الأساقفة المغالاة في فخامة الزي الأسقفي سواء في أوقات الخدمة الليتورجية أو خارجها، ويرد البعض هذا الأمر الى قيام الملك قسطنطين -القرن الرابع- بإهداء الأساقفة المجتمعين في نيقية أردية وتيجان وكراسي شبيهة بردائه وتاجه وكرسيه، وتوارث الأساقفة هذا، بل امتد الأمر إلى الكهنة بشكل لافت، وقد تناول توثيق ونقد هذا الأمر أحد الكهنة المعاصرين في كتاب بعنوان “مثل ولغز الأنبا بولا”.
* ثمة أمر يحتاج إلى تفسير هو قَبُول غالبية الأساقفة لسجود الناس لهم ـ علمانيون وكهنة ـ فيمَا يسمى زورًا الميطانية، بل ذهب أحدهم في مؤتمر حاشد للخدام في إجابته عن أداء الميطانية في أيام الخمسين وهي أيام فرح بقيامة الرب يسوع المسيح، بأن الميطانية باعتبارها تعبير عن الانسحاق والتوبة، لا تجوز في أيام الخمسين المقدسة، باستثناء أداء الميطانية أمام الأساقفة باعتبارها تعبيرًا عن التقدير والاحترام لهم (هكذا!!).
(الميطانية هي التوبة، وحسب معناها الحرفي في اليونانية هي “تغيير الفكر” أي “تجديد الذهن”حسب قول الرسول بولس “تغيروا عن شكلكم بتغيير أذهانكم ـ رومية 2:12″ ولها معنى أخر هو ندم وتأسف على الخطية كعمل ضد محبة الله” “كتاب : مُعجم المصطلحات الكنسية”).
* وفي تطور آخر تتسابق الكنائس لاقتناء رفات قديسين وتضعها في أنابيب خشبية تتصدر مكانًا بارزًا في الكنيسة بجوار أو أمام خورس الشمامسة، وصار من المشاهد المتكررة أن يتجه المصلي لتلك الأنابيب ليتبرك بها ولا يلتفت للمذبح بالرغم إعلان الشماس في الليتورجيا “هوذا عمانوئيل إلهنا كائن معنا على المذبح”، وفيما كانت الكنائس قديمًا تضعهم في الجهة الغربية للكنيسة، فلا تشغل المصلين بهم وكأنها تقول لهم “إن القديسين يشتركون معكم في الصلاة في تأكيد ـ بشكل رمزي إيماني ـ على أن الموت لم يمنع حضورهم”.
* ثمة ظاهرة أشير إليها في ختام طرحي وهي انتشار اللجان الإلكترونية الموجهة لمهاجمة كل محاولات التقارب أو حتى مجرد الحوار مع الكنائس الأخرى، رغم مشاركة موجهيها فى اجتماعات مجلس كنائس مصر والشرق الأوسط ومجلس الكنائس العالمي. في ازدواجية لافتة.
أضع سطوري هذه أمام سنودس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، على أمل أن يجد الآباء الأساقفة لديهم وقت لرأب الصدع قبل أن يباغتنا الانهيار، لعلنا نصل معًا إلى تحقيق حلم الأجيال بكنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: العلمانيون والكنيسة: صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨