مع أن هذا العنوان حين نشرته جملة منفردة، بلا زيادة أو نقصان، في فضاء الـ”فيسبوك” أثار موجات عارمة من الدهشة والغضب، والرفض أحيانًا، بل وبسبب هذا، حرصت أن أُبقي عليه على رأس سطوري، فقد جاءت ردود الفعل خاصة الغاضبة من فئة عمرية تحكمها العاطفة والغيرة ـ المحمودة ـ على الكنيسة، وبالتوازي فهي تفتقر لكثير من معرفة الواقع الذي نحياه، والمخاطر المحدقة بنا وبالكنيسة، وهي أمور وحقائق عرضنا لها بامتداد ثلاث عقود ويزيد، وتحديدًا منذ العام 1992 على صفحات مجلة “” التى كان يرأس تحريرها في سنيها الأولى قداسة البابا ، (1952 ـ 1954) حين كان علمانيًا وحتى دخوله سلك الرهبنة، وشهدت عبر قلمه معارك عاتية في مواجهة سياسات الكنيسة وقتها، وتصاعد الأمر حتى إلى المصادمة مع قرارات ال الثاني، ورفضها.

وحتى لا يستغرقنا التاريخ بما تحمله أحداثه وحكاياته من تباينات بين القمم والقيعان، وهي في مجملها تحتاج إلى قراءة متأنية قادرة على القفز فوق الانبهار والقنوط، وهو أمر يتطلب التسلح بكثير من الموضوعية والتجرد، وضغط اللحظة. دعونا نبدأ بضبط المصطلح؛ وهل يمكن لكنيسة أن تنتحر؟!

من وما هي الكنيسة؟

نقطة البداية عندما كان الرب يسوع مجتمعًا مع تلاميذه بعد قيامته، في ختام ظهوراته لهم بامتداد أربعين يومًا، كان خلالها يتكلم معهم عن الأمور المختصة بملكوت الله، وفيما هو مجتمع معهم أوصاهم أن لا يبرحوا من أورشليم، بل ينتظروا “موعد الآب” الذي سمعوه منه، مشيرًا إلى حلول الروح القدس عليهم، وأوضح لهم أنهم سينالون قوة بهذا الحلول، ويكونون له شهودًا في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض.

صعد المسيح، وكانوا شهودًا على هذا الحدث، ثم رجعوا إلى أورشليم من الجبل الذي يدعى جبل الزيتون، بالقرب من أورشليم، وصعدوا إلى العلية التي كانوا يقيمون فيها، وكانوا يواظبون بنفس واحدة على الصلاة والطلبة، مع النساء، ومريم أم يسوع، ومع أخوته.

ولما حضر يوم الخمسين كان الجميع معًا بنفس واحدة، وصار بغتًة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين، وظهرت لهم ألسنة منقسمة كانها من نار واستقرت على كل واحد منهم، وامتلأ الجميع من الروح القدس، وابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا.

بقي التلاميذ والرسل في أورشليم “وكانوا لا يزالون كل يوم في الهيكل وفي البيوت معلمين ومبشرين بيسوع المسيح”، حتى واقعة استشهاد ق. استفانوس. وهي واقعة شهدت أول مرافعة تشجب اتهامات وادعاءات اليهود وكهنتهم، عرض فيها استفانوس موجز عمل المسيح الفدائي استنادًا إلى سرد العهد القديم، منذ لقاء الله مع إبراهيم، وهجرته من أرض بين النهرين إلى أرض كنعان، ويستطرد في سرد الأحداث المحورية حتى وصول يوسف ـ حفيد اسحق ابن إبراهيم ـ إلى مصر، واستقراره بها بعد معاناة، يصل استفانوس في سرده الدقيق إلى موسى وحكايته الممتدة، وكيف خرج بشعبه من مصر، ثم يختتم مرافعته التاريخية قائلًا: “يا قساة الرقاب، وغير المختونين بالقلوب والآذان! أنتم دائمًا تقاومون الروح القدس. كما كان آباؤكم كذلك أنتم، أي الأنبياء لم يضطهده آباؤكم؟ وقد قتلوا الذين سبقوا فأنبأوا بمجيء البار، الذي أنتم الآن صرتم مُسَلّميه وقاتليه، الذين أخذتم بترتيب ملائكة ولم تحفظوه”.

لم يحتمل اليهود وكهنتهم هذا الكلام “فصاحوا بصوت عظيم وسدوا آذانهم، وهجموا عليه بنفس واحدة، وأخرجوه خارج المدينة ورجموه. والشهود خلعوا ثيابهم عند رجلي شاب يقال له شاول.

فكانوا يرجمون استفانوس وهو يدعو ويقول: “«أيها الرب يسوع أقبل روحي»، ثم جثا على ركبتيه وصرخ بصوت عظيم: «يا رب، لا تقم لهم هذه الخطية». وإذ قال هذا رقد.”.

كان استشهاد استفانوس نقطة تحول وانطلاق في مسيرة الآباء الأوائل “وحدث في ذلك اليوم اضطهاد عظيم على الكنيسة التي في أورشليم، فتشتت الجميع في كور اليهودية والسامرة، ما عدا الرسل…. فالذين تشتتوا جالوا مبشرين بالكلمة”. ليحققوا ما قاله لهم الرب يسوع “ويكونون له شهودًا في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض.” وكانت الدوائر تتسع، أورشليم، كل اليهودية، السامرة في أول انطلاقة خارج حدود اليهودية، ثم إلى أقصى الأرض.

كانت المهمة محددة من فم الرب يسوع “فتقدم يسوع وكلمهم قائلًا: «دُفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض؛ فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر».”.

اذهبوا،
تلمذوا،
عمدوا،
علموا،

لم يمض وقت طويل حتى تشكلت تجمعات بارزة من المؤمنين، يرصد بداياتها سفر أعمال الرسل، أما الذين تشتتوا من جراء الضيق الذي حصل بسبب إستفانوس فاجتازوا إلى فينيقية وقبرس وأنطاكية، وهم لا يكلمون أحدًا بالكلمة إلا اليهود. ولكن كان منهم قوم، وهم رجال قبرسيون وقيروانيون، الذين لما دخلوا أنطاكية كانوا يخاطبون اليونانيين مبشرين بالرب يسوع.

وكانت يد الرب معهم، فأمن عدد كثير ورجعوا إلى الرب، فسمع الخبر عنهم في آذان الكنيسة التي في أورشليم، فارسلوا لكي يجتاز إلى أنطاكيَة.. ثم خرج برنابا إلى طرسوس ليطلب شاول. ولما وجده جاء به إلى أنطاكيَة، فحدث أنهما اجتمعا في الكنيسة سنة كاملة وعلما جمعا غفيرًا، ودعي التلاميذ «مسيحيين» في أنطاكيَة أولًا.

كانت البداية كنيسة أورشليم، ثم تظهر كنيسة أنطاكيَة في المشهد، ويجول التلاميذ والرسل الدوائر القريبة على ضفاف المتوسط، فتتأسس كنيسة روما، و، فيمَا تضم آسيا الصغرى العديد من الكنائس التي أسسها القديس في رحلاته التبشيرية، وتمتد البشارة إلى شمال إفريقيَا وإسبانيا.

تعتمد المسيحية ضمن الديانات المعترف بها، ونحن نقف على مشارف القرن الرابع، وفق منشور التسامح الديني، ثم يأتي قسطنطين، وقد أدرك كقائد سياسي وحربي جسارة المسيحيين، وتصديهم للموت ببسالة، يعلن إيمانه بالمسيحية، ويفرد مظلة حمايته على الكنائس، ثم يؤسس كنيسة عاصمته “القسطنطينية” ويضمها إلى الكنائس الرسولية، لتلي فى الترتيب وتسبق كرسي الإسكندرية وتتوزع خريطة المسيحية ـ أنئد ـ بين خمسة كراسي رسولية:

• كرسي أورشليم.
• كرسي روما.
.
• كرسي الإسكندرية.
• كرسي أنطاكيَة.

ومع قسطنطين اقتحمت السياسة مدارات الكنيسة، لتشهد سلسلة من الخلافات بين قادتها، وتشهد معها سلسلة من دعوات الوفاق التي كان يوجهها الأباطرة، بخلفيات سياسية تدرك أن عروشهم لن تستقر مع تصاعد صراعات الكنائس، وكانوا محقين. ليبدأ بعد انتهاء عصر الاستشهاد.

كان الأباطرة أحكم من القادة الدينيين وأبعد نظرًا، ولكن الأخيرين كانوا أكثر سطوة على الشارع المسيحي وقدرة على توجيهه، فلم تمض سنوات، عقب عصر المجامع الممتد من القرن الرابع وحتى القرن السابع، حتى تفككت الإمبراطورية الرومانية وبدأ نجم الفُرس يزهو، وإن خبأ مع بزوغ نجم العرب، الذين اجتاحوا قطاعات واسعة من العالم القديم خاصة في الشرق.

وتتراجع كراسي الشرق عن مواقع الصدارة وتتحول بالتتابع إلى كنائس أقلية، فيمَا تندثر كنائس آسيا الصغرى وشمال إفريقيَا، بالرغم مما قدمته للكنيسة الجامعة من قديسين وعلماء لاهوتيين أفذاذ.

وهو ما سنعرض له في الجزء الثاني من طرحنا هذا ونحن نتناول سؤال “هل يمكن لكنيسة أن تنتحر؟”.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨