كثيرًا ما نسمع في الكنيسة القبطية عن المباحثات التي دعانا القديس بولس الرسول أن نتجنبها؛ المباحثات الغبية والسخيفة اجتنبها، عالما أنها تولد خصومات
[1]، ففي الحقيقة أنا لست هنا لكي أتباحث عن سيرة شخص من الإكليروس، أو حدثًا يشغل الرأي العام، فالكثير منها موجود ومثار بشدة، يكفي أن تفتح أي وسيلة من وسائل التواصل وتري بعينك ما هو الترند اليوم وتري التحليلات، التي من وجهة نظري مهمة إن كانت تسعي لتحقيق فكرة وليست تنفيسًا عن كبت، أو كما نقول؛ تركز على الخطية وليس الخاطئ، وأن تطرح حلولًا وﻻ تكتفي بطرح المشكلات، بل أنا اليوم أحاول إلقاء نظرة عامة على المواضيع المطروحة في الكنيسة القبطية، وهل هي بنّاءة؟ وإن كانت لا، فأين تكمن المشكلة؟
ربما تكمن في أننا نتكلم كثيرًا عن الظلمة ونتفنن في وصفها وكأننا قد نسينا النور، ونسينا كيف أن خيطًا واحدًا خافتًا يمكنه أن يبدد تلك العتمة. نهتم بالتكلم عن الهرطقات والمهرطقين ونسينا أن نتكلم عن الإيمان، أو أن نعيش الإيمان، فبقيت أفكارنا مجرد مفردات نظرية نتداولها لنجادل بعضنا البعض دون أن نعيش تلك المفردات بطريقة عملية، وبقيت القداسة عبارة عن نصوص جامدة، نثبت من خلالها أننا قديسين دون أن نعيش بالإيمان تلك القداسة، فانتشر الوهم والجهل وغيرهما من أمور الظلمة بكثرة حديثنا عن الظلمة.
أتذكر في إحدى فصول التربية الكنيسة، كان أول درس في المنهج الصيفي عن الخطية، وما تفعله الخطية، وتأثير الخطية، حتى أتذكر تمامًا في ذلك اليوم أني خرجت مثقلًا أكثر مما دخلت بسبب الكلام عن الخطية، فنحن نعلم ذلك، وعشنا مرارة الخطية، ونعلم ما هي الخطية، وعشنا في الخطية، ولكننا لم نعش النعمة، لم نختبرها، ولم نستوعب أين كانت طيلة تلك الساعات؟ هل مازلنا مقتنعين بكل ما نعلّم به في العظات والكنائس والاجتماعات بالحديث عن الخطية وعن الظلمة دون وجود للنعمة؟ ولماذا لا نعيش الإيمان بل نتكلم عنه فقط؟ العظات كثيرة، دون أن نرى ثمار هذه العظات في داخل المتكلم، فحتى وإن كان التعليم صحيحًا يصبح تعليم أجوف، ليس له أصل في القلب.
وربما تكمن المُشكلة أيضا بأننا لا نقبل الأخر إن كان مختلفًا معنًا، وكأننا نحن النور نفسة لا شهود للنور، وكأننا الكنيسة الناجية، أو الطريق الوحيد للخلاص، بل وصل الأمر ببعضنا أننا صرنا مقياس الاستقامة لغيرنا وكأننا الله ذاته، فصرنا كالشياطين نعادي من يحيد عن طريقنا وفكرنا ورأينا.
هل لنا أن نسترجع بعض من ذكريات كنيستنا -المتواضعة قديمًا المنحدرة حديثًا- ونذكر بعض من تراث آبائنا؟ مثل أوغسطينوس التائب فهو قديس في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بالرغم من كونه من معلمين عقيدة انبثاق الروح القدس من الآب والابن الذي تؤمن به الكنيسة الكاثوليكية الآن، وهو ما ترفضه الكنيسة الأرثوذكسية، فلماذا هو أب وقديس في الكنيسة القبطية؟ أليست تعاليمه للعقيدة مختلفة عنا ونرفضها؟ كيف قبلناه قديسًا ونذكره في السنكسار؟
أليس أيضًا باسيليوس وغريغوريوس الثيؤلوغوس، واضعين القداس الباسيلي والغريغوري، كانوا تلاميذ لأوريجينوس في مدرسة قيصرية فلسطين؟ أوريجينوس الذي وصفه إبيفانيوس أسقف سلاميس بالهرطوقي؟ لماذا إذن نصلي بقداسات اتباع الهراطقة؟ لماذا نصلي بقداسات فلاسفة ليسوا أقباط حتي؟ وكيف قبلتهم الكنيسة الأرثوذكسية في الأساس؟
لقد كانت التعددية وقبول الآخر أفضل كثيرًا في العصور الأولى عن عصرنا الحالي، والفرق الواضح هو في النظرة الاستعلائية تجاه الذات حد الغرور، ففي تلك الأيام يعلموننا أن نكره كل شيء، نكره الخطاة والزناة ولا نقترب منهم لئلا يصيبنا الدنس، لا أن نفعل مثلما فعل يسوع، أن ندخل بيوتهم ونتعشى عندهم. إذن الفرق في الاتضاع والمحبة وحسن الفهم والتماس الأعذار، ولو لم نعد لتلك القيم المسيحية الأساسية فلربما نرى في اختلاف الآخرين خطايا لا تُغتفر، حتى وإن كانوا قديسين.
نحن نتعلم أن نحب أعدائنا، ولكن نكره أعداء الله! لأنه قال في الكتاب المقدس أحبوا أعدائكم لا أعداء الله
[2]
ما هذا الكم من العفن الذي انصبّ علينا؟ فهذا ليس مسيحنا بالمرة وهو بريء من كل ذلك.
ها كيرلس الكبير عندما أرسل إلي نسطور قائلًا له عزيزي نسطور أنا احبك، ولكني احب المسيح اكثر
.
لكن أن نحرمهم من ترياق الحياة؟ نحرمهم من الخلاص من الموت ونحرمهم من الإفخارستيا؟!
تخيل معي أب يمنع عن ابنه العلاج، فليس له محبة، ليس له قبول، ليس له المسيح داخله، هذا هو حالنا الآن!
المسيح هو الدواء لكل مرض، والكنيسة هي المشفى [3]، المسيح هو مسيح العالم كله وليس مسيح طائفة فقط [4]، المسيح يحب الكل، ويقبل الكل، وليس له نظرة استعلائية أو ذات منتفخة، المسيح يقبلني، ويحبني، وأنا في عمق الخطية. يدعونا بأننا أحباب لا عبيد، المسيح يحب فقط؛ فهلا صرنا مثله؟
نحتاج أن نتكلم عن الذي أبصرنا من خلاله نورًا عظيمًا [5]، نحتاج إلى النور لكي يدوم لنا النور فنأمن بالنور لنصير أبناء النور [6]، نحتاج إلى الحكمة أيها الأحباء، لا أن نهملها، لان الذين أهملوا الحكمة، لم ينحصر ظلمهم لأنفسهم بجهلهم الصلاح، ولكنهم خلفوا للناس ذكر حماقتهم، بحيث لم يستطيعوا كتمان ما زلوا فيه.
[7]
بما أن الرب طويل الأناة، فلنندم على هذا ونلتمس غفرانه بالدموع المسكوبة، إنه ليس وعيد الله كوعيد الإنسان، ولا هو يستشيط حنقا كابن البشر. لذلك، فلنذلل له أنفسنا، ونعبده بروح متواضع، ولنسأل الرب باكين أن يؤتينا رحمته بحسب مشيئته، لنفتخر بتواضعنا مثلما اضطربت قلوبنا بتكبرهم. فإنا لم نجر على خطايا آبائنا الذين تركوا إلههم وعبدوا آلهة غريبة، فأسلموا من أجل ذلك الإثم إلى السيف والنهب والخزي بين أعدائهم، لكنا نحن لا نعرف إلها غيره، فنترجى بالتواضع تعزيته.(سفر يهوديت ٨ : ١٤-٢٠ )
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟