البداية: فبراير ٢٠١٣
الجمعة ١٥ فبراير ٢٠١٣:
تجمع عشرات المسلمين من قرية سرسنا بالقرب من كنيسة مار جرجس. صعد البعض إلى منزل مجاور وألقوا الطوب وزجاجات المولوتوف الحارقة على الكنيسة. جاء ذلك بعد أن قامت الكنيسة بتوسعات في أرض فارغة تملكها، مما أدى إلى تحطيم جزء من قبة الكنيسة الخشبية والعديد من المقاعد. كما تحطمت نوافذ زجاجية واشتعلت النيران في قطع خشبية قبل إخمادها.
وفقًا لروايات متعددة، كانت العلاقة بين الجار “حسين كامل” وكاهن الكنيسة “دوماديوس حبيب”، محتقنة دينيًا. حفر الجار ثقبًا في السور الذي يفصل منزله عن أرض الكنيسة لمراقبة ما يحدث داخلها، في الخميس، ١٤ فبراير، أعترض “حسين كامل” على أعمال الخرسانة، وعلى الصلاة التي تُقام لأنها تصل لأبنائه وهو ما يرفضه. تجمع عشرات المسلمين في القرية وأعلنوا معارضتهم لوجود الكنيسة التي أقيمت في الثمانينات وجددت عام ٢٠٠٠ بعد ترخيص رقم ٣٤٧ كدار مناسبات، ويحرسها خدمات أمنية مثل باقي الكنائس. تبلغ مساحة مبنى الكنيسة ١٧٠ مترًا على دور واحد بارتفاع ٢.٨ متر من الطوب اللبن، وتزينها قبة خشبية، وبجوارها مساحة فضاء ٤٠٠ متر تمتلكها الكنيسة وتفصلها عن الجار. [1]
اتصل دوماديوس، كاهن الكنيسة، بالسلطات الأمنية التي وصلت وحاولت التفاوض مع الطرفين، وأثناء وجود مأمور قسم طامية، صعد نحو خمسين مسلمًا سطح المنزل المجاور، وألقوا الحجارة وزجاجات المولوتوف، ما أدى لاشتعال النيران بالقبة الخشبية، وعدد من المقاعد، وتحطمت نوافذ الكنيسة الزجاجية. استمرت الاعتداءات نحو الساعتين دون تدخل من قوات الأمن المتواجدة، ولم تقبض على المعتدين. وتدخلت عائلة “عبد الحميد عبد الفتاح” لحماية كاهن الكنيسة وتأمين خروجه من القرية ومنعت تعرضه للاعتداء [2].
السبت، ١٦ فبراير ٢٠١٣:
عُقدت جلسة عرفية برعاية مأمور مركز طامية في منزل “عبد الفتاح عبد الحميد”، حضرها جيران الكنيسة المسلمين، وأربعة شهود مسلمين، وسبعة أقباط. تجددت الاعتداءات على الكنيسة أثناء الجلسة حيث ألقى المعتدون قطع قماش مشتعلة مرددين هتافات تطالب بإغلاق الكنيسة (“مش عايزين كنيسة”). أجبر ذلك المشاركين في الصلح العرفي على نقله إلى مقر مركز طامية [3].
وفقًا لإفادة من أحد الحضور، نص محضر الجلسة على: • بناء الكنيسة لجدار عازل بينها وبين الجار. • عدم البناء على الأرض الفضاء المملوكة للكنيسة، وبقاءها كمخزن فقط. • عدم ضم الأرض الفضاء للمبنى الذي تقام فيه الشعائر الدينية. • بقاء مبنى الكنيسة على وضعه الحالي دون تعلية، وألا يزيد ارتفاعه عن ثلاثة أمتار (عدم وضع صليب، لأن هذا يعد تعلية). • تضع الكنيسة مادة عازلة للصوت أعلى سقفها، وأيضا طبقة من البلاط أعلى سقف منزل الجار المسلم على نفقة الكنيسة.
أفاد مدير نيابة طامية بأنه حتى مساء السبت لم تتمكن النيابة العامة من معاينة الكنيسة بناءً على توصيات الشرطة لدواعٍ أمنية، وأضاف أن النيابة تنتظر تحريات المباحث والاستماع إلى كاهن الكنيسة باعتباره شاهدًا. علاوة على ذلك، منعت قوات الأمن الصحفيين ومراسلي القنوات الفضائية من دخول الكنيسة وتصوير الخسائر، وطالبتهم بالحصول على إذن مسبق من مطران الفيوم أو المحافظ.
في نفس اليوم، السبت، ١٦ فبراير ٢٠١٣، ونحو الساعة التاسعة مساءّ، ظهر كاهن كنيسة مار جرجس سرسنا، الأب "دوماديوس حبيب إبراهيم إبراهيم الراهب"، على قناة CTV الفضائية شارحًا الاعتداء الذي حدث.
في اليوم نفسه، أصدر موقع الهيئة الوطنية للإعلام [ماسبيرو]، بيانًا لشباب الثورة، يدين الاعتداء على كنيسة “سرسنا”ويحمل الرئيس [محمد مرسي] المسؤولية، كما أعلنت تنسيقية شباب الثورة انضمامها لمسيرة ينظمها نشطاء أقباط يوم الأحد، ١٧ فبراير ٢٠١٣، تنطلق من شبرا وتتوقف للاحتجاج أمام دار القضاء العالي. دعا التحالف كل القوى الثورية والسياسية للتضامن مع “شركاء الثورة والدم”، “أخوتنا في الوطن” [4].
الأحد، ١٧ فبراير ٢٠١٣:
أصدرت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية بيانًا صحفيًا: على خلفية الاعتداء على كنيسة مار جرجس بقرية سرسنا في الفيوم، ومنه عرفنا كل ما سبق دفعة واحدة. [5]
أجهزة الأمن والنيابة العامة تساعدان دون تقديم المسؤولين للمحاكمة العادلة، فقد امتنعت الشرطة عن القيام بدورها في حماية المنشأة الدينية وعدم تعرضها للاعتداء، كما أنها لم تقبض على المحرضين والمنفذين للاعتداءات أثناء قيامهم بها، على الرغم من تواجد مأمور مركز طامية وأعداد من قوات الأمن بموقع الأحداث قبل تفاقمها، كما أن أجهزة التحقيق لم تتحرك لمعاينة الكنيسة والتحقيق مع الأطراف المختلقة وانتظرت فقط تحريات المباحث.(إسحق إبراهيم، مسؤول ملف حرية الدين والمعتقد، المبادرة المصرية للحقوق الشخصية)
جلسات الصلح العرفي التي ترعاها الشرطة هي بديل عن تنفيذ القانون، وتسهيل لإفلات المعتدين من العقاب القانوني، وعدم جبر الضرر للمضارين. رعاية الدولة للصلح العرفي صارت أشبه بإذن بالسماح بتكرار الاعتداءات الطائفية.(إسحق إبراهيم، مسؤول ملف حرية الدين والمعتقد، المبادرة المصرية للحقوق الشخصية)
مساء يوم الأحد، تسابق نشطاء الدولة المدنية والمعارضين لحكم الإخوان، على التوافد لمحيط دار القضاء العالي، شارك في الاحتجاج ممثلين من الأحزاب المدنية مثل التحالف الشعبي الاشتراكي، حزب الدستور، المصري الديمقراطي الاجتماعي، والمصريين الأحرار [6]، منددين بأخونة الشرطة، ورعاية الجلسات العرفية، ومطالبين بدولة ذات قانون. الهتافات استهدفت الممول خيرت الشاطر، والمرشد محمد بديع، بالإضافة للرئيس محمد مرسي [7]، [8].
الإثنين، ١٨ فبراير ٢٠١٣:
تناقلت وكالات الأنباء العالمية مسيرة اليوم السابق، ونجح بعضهم في التواصل مع أهالي سرسنا، الذين أضافوا أن ناشطًا سلفيًا حرض عقائديًا على مهاجمة الكنيسة، وأنه قال أن الشريعة تُحرم أن تُوجد كنيسة بجوار بيت مسلم.
[9].
في الوقت الذي تضامنت فيه صحف القاهرة [10] والعالم العربي [11] مع أقباط سرسنا. فاجأنا نيافة الأنبا إبرآم، مطران الفيوم، بأنه لا يوجد حريق، ولا اعتداء على الكنيسة، ولا مولوتوف أو أقمشة مشتعلة، ولا إصابات! وأن كل القصة أن راعي كنيسة مار جرجس سرسنا، الأب دوماديوس حبيب، تشاجر مع جيرانه المسلمين، وأنه المُحرض على افتعال أزمة مع الإخوان لم تحدث. وصل الأمر بمطران الفيوم أن عبّر عن استياءه من قناة CTV المسيحية عبر إعلان مدفوع الأجر في جريدة “الأهرام”، وطالب القناة والمذيع تحري الدقة [12].
تزامن مع قنبلة الثلج الباردة التي نشرها مطران الفيوم؛ عشرات التصريحات الإلكترونية للقمص ميخائيل استراس، وكيل المطرانية، تهمّش مما حدث [13] وقامت بسببه أول انتفاضة للأقباط بعد ماسبيرو منادية بسقوط نظام الإخوان [14]. الأمر إذن لا يعدو عن كونه مشاجرة مواطن مع أخيه المواطن (على حد تعبير السادات في وصف أحداث الخانكة والزاوية الحمراء)، والعالم كله لديه معلومات خاطئة مصدرها دوماديوس. ومؤسسات المجتمع المدني تهيّج الجماهير، وماسبيرو والهيئة الوطنية للإعلام لا تفهم سماحة الإخوان المسلمين كما تفهمها مطرانية الفيوم، أما شباب الثورة والأحزاب المدنية فهم يتصيدون في الماء العكر لتحريض الأقباط على الخروج عن سلطة السلطان محمد مرسي، حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة
[15].
هذا التدخل من مطرانية الأقباط الأرثوذكس ليس غريبًا إذا ما كنت من قرّاء تاريخ الكنيسة القبطية، فهو نفس ما حدث من البابا يوساب الأول إبان الثورات البشمورية [16]، وهي ثورات اجتماعية دارت في مستنقعات الدلتا قرب الفيوم، وانتهت بإبادة جماعية عام ٨٣١م في زمن الخليفة العباسي المأمون. يصف المقريزي تلك النهاية المأساوية في سطر واحد: انتفض القبط فحكم فيهم المأمون بقتل الرجال وبيع النساء، فبيعوا وسُبي أكثرهم. حينئذ ذُلْت القبط في جميع أرض مصر
[17].
المذنب: مارس ٢٠١٣
اندلعت احتجاجات في سرسنا. فالناس لا تستطيع الصلاة بأمان والمطران يقول لم يحدث شيئ والإخوان يحكمون مصر وسنموت جميعًا! فخرج إليهم الأب دوماديوس لتهدئتهم وقال: لو عايزيني أمشي قولوا وأنا أمشي.
فهتفوا بأنهم يريدونه ولا يريدون المطران. [18] أثار هذا غضب المطران، وأصّر على أن دوماديوس تعمّد استرضاء الشعب كي يثيرهم عليه. أدين الأب دوماديوس، وتم إيقافه عن الخدمة في الفيوم، وأُرسل مكانه إثنين من الكهنة الجدد على كنيسة مار جرجس سرسنا.
حاول أهالي سرسنا التواصل مع الأنبا إبرآم في قصره بدير العزب، إلا أن محاولاتهم قوبلت بالرفض. يقول أهالي سرسنا إن أحد الحرس رفع مسدسه في وجوههم مهددًا بإطلاق النار إن عادوا [19].
في السياق نفسه، نظم أهالي قرية سرسنا وقفتين احتجاجيتين أمام المقر البابوي قبيل عظة البابا الأسبوعية، احتجاجًا على تصريحات الأنبا إبرآم وللمطالبة بعودة الأب دوماديوس بعد استبعاده على خلفية أحداث الاعتداء، قوبل الاحتجاج الأول بوعد من سكرتير البابا، الأب أمونيوس، أن يعود دوماديوس لكنيسته يوم الأحد القادم [20]، وعندما لم يعد في الموعد المحدد، تكررت الوقفة الاحتجاجية في الأسبوع الذي يليه [21].
مطران الفيوم يقدّم استقالته
في يوم ٢٤ مارس ٢٠١٣، فجّر الأنبا إبرآم، مطران الفيوم، قنبلة ثلج جديدة بتقديم استقالته. أكد الأنبا إبرآم أنّه اعتذر عن أي منصب كنسي. وأضاف في تصريحات خاصة للأهرام أنه قدم مذكرة للبابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، يطلب فيها إعفاءه من أي منصب كنسي، وقبلها البابا منه وتم إعفاؤه بالفعل. واضعًا البابا تواضروس الثاني في حرج التفسير [22].
لاحقًا، في ١٥ أغسطس ٢٠١٧، التقيت مع ٩ آخرين بقداسة البابا في جلسة مغلقة [23]، نفى خلالها قداسته أيّ صلة بمسألة الاستقالة وأنه قرأ الخبر مثلنا. مؤكدًا أنّه حاول إثناء مطران الفيوم عن موقفه دون جدوي، ما دفعه لتحويل الأمر إلى اللجنة المجمعية لشؤون الإيبارشيات [24].
يتبقى أن نؤكد أن الربط بين استقالة المطران بعد أيام من وعد سكرتارية البابا بإلغاء قرار الإيقاف، هو ليس استنتاجًا شخصيًا، بل صياغة الخبر في صحيفة “الأهرام” التي يفضّلها المطران وينشر فيها إعلانات مدفوعة، حيث ذُكر على خلفية الاستقالة:
يأتي هذا بعد تكذيب الأنبا إبرام لما قالته قناة ctv القناة الرسمية للكنيسة الأرثوذكسية بخصوص كنيسة مارجرجس بطامية الفيوم في إعلان مدفوع الأجر بجريدة الأهرام، يقول فيه: إن الكنيسة لم تصب بأي آذي، في حين أن وسائل الإعلام نقلت تعرض الكنيسة لأعمال عنف وإلقاء المولوتوف عليها، وقيام الأنبا إبرام باستبعاد القس دوماديوس حبيب كاهن كنيسة مارجرجس بطامية على خلفية أحداث هذا الاعتداء.(أميرة هشام، بوابة الأهرام، نُشر بتاريخ ٢٤ مارس ٢٠١٣)
لاحقًا، سيعدل الأنبا إبرآم، مطران الفيوم، عن استقالتة في مارس ٢٠١٨ [25]، أي بعد خمس سنوات من استبعاد دوماديوس، الذي قد نساه الجميع، ومن وقتها والكاهن دوماديوس حبيب إبراهيم إبراهيم الراهب، موقوفًا عن خدمة الكهنوت.
المُطارد: سبتمبر ٢٠١٤
تاريخ طويل من التطرف التصق بمحافظة الفيوم، حيث أصبحت منذ تسعينيات القرن الماضي بؤرة حاضنة للجماعات التكفيرية وتوابعها، بدأ الأمر مع تولي الشيخ “عمر عبد الرحمن”، مفتي تنظيم “الجهاد”، منصب الإمام لأحد المساجد بالمحافظة، ومنذ ذلك الحين، ظهرت العديد من الأسماء البارزة لقادة الجماعات التكفيرية، بما في ذلك “شوقي الشيخ” مؤسس تنظيم “الشوقيين”، وجماعة “المسلمون” التي عُرفت إعلاميُا باسم “التكفير والهجرة”، ومنها خرجت تنظيمات “التوقف والتبين”، “الناجون من النار”، “أنصار محمد”، وغيرها من الجماعات التي لا اسم معروف لها، والتي حرمت التعليم، والاختلاط، والتقاضي في محاكم الدولة، ورفض كل مظاهر الدولة بما فيها حمل البطاقات الشخصية، كما كانت الفيوم من المحافظات التي استقبلت عشرات الشعب الإخوانية التي سيطرت على شوارع الفيوم وقراها خلال فترة وصول الإخوان المسلمين للسلطة، ومنها خرج الانتحاري الذي فجّر الكنيسة البطرسية في ديسمبر ٢٠١٦، عقب الإفراج عنه من الاعتقال الذي تم في عهد مبارك [26].
إن أردت معرفة أين تقع قرية سرسنا، مركز طامية، على خريطة التطرف بالفيوم، يمكنك أخذ فكرة من هذا التسجيل الفيديوي، الملتقط في سبتمبر ٢٠١٤:
لماذا هذا الانعطاف السياسي والأيديولوجي الحاد؟ ولماذا هذا الفيديو الآن وقد مضى عليه عشر سنوات؟
لأن هؤلاء المتدينون من قرية سرسنا، هم بعينهم من اعتدوا على كنيستها لأسباب دينية وعقائدية. وعلى هذا، ليس بالضرورة أن يكون قرار الأنبا إبرآم، مطران الفيوم، تحديًا لأقباط سرسنا كما يبدو لنا المشهد من القاهرة، بل ربما الإيقاف غير المُبرر لدوماديوس، هو إجراء ضروري لحماية أرواح الأقباط في سرسنا. ولسنا هنا بصدد شعارات حقوقية نحفظها ونكتبها، فالسيف أصدق أنباءً من الكُتبِ.
المنتهي الصلاحية: سبتمبر ٢٠١٨
الخاطئ: أغسطس ٢٠٢٣
المثير للجدل: يونيو ٢٠٢٤
يتمتع الأب دوماديوس بالبساطة المفرطة إلى حدود قصر النظر. نحتته المهنة ككاهن، والبيئة في سرسنا، والتجربة والخبرات الشخصية، بطريقة لا تخيب أبدًا مع العلاقات السطحية والكثيفة والعابرة في العاصمة. فهو يترجم الأمور المعقدة إلى مفاهيم بسيطة، ويثق في أن المساعي المدعومة بالحب ستؤتي ثمارها، متجاهلاً العواقب التي قد تتجاوز نواياه المتواضعة. هذه الثقة المفرطة تجعله غافلٌ عن التداعيات المحتملة التي لم يقصدها أو لم يفكر فيها، مما يؤدي إلى عواقب غير مقصودة قد تكون أكبر بكثير من أفعاله الأولية.
لنأخذ على سبيل المثال لا الحصر كيف ينظر شيخ أزهري مثل الشيخ “سلامة عبد القوي” لمسألة تصدّق القس المسيحي على المسلمين [27]، الذي يبدو لنا انتماؤه الأيديولوجي، كمحب لجماعة الإخوان المسلمين، دافعًا على أنّ يكون أكثر صدقًا وجرأة عن نظرائه من الأزاهرة الذين تربطهم تعاملات أكثر حميمية مع الكنيسة:
هل تبدو لك نظرته التحليلية مبالِغة في سوء الظن والفكر التآمري؟ حسنًا، تجدر الإشارة إلى أن جميع الأعمال الخيرية كانت دائمًا محل إنتقاد المتخصصين في العمل التنموي منذ ستينيات القرن الماضي، حتى خصوم الإخوان يتهمونهم باستخدام الخدمات في شراء ولاء الناس ومحبتهم ومعها تأييدهم غير المشروط في صندوق الانتخاب. وبالمثل، يوجّه الإخوان نفس الانتقادات للمرشحين المنافسين، بما في ذلك رئيس الجمهورية، وأيضًا طال التراشق السياسي توزيع “كرتونة رمضان” على إنها شراء للدعم بالمال السياسي.
بالطبع انتقادات الأقباط لدوماديوس مختلفة، فهي لا تتعلق بفعل الخير ذاته وإنما تتعلق بنصوص دينية صريحة تحظر الظهور قدام الناس وإلا ستعد عند الله مستوفيًا أجرك. ودوماديوس كاهن، أي أنه يحفظ تعاليم المسيح جيّدًا. ومن ثم هو في عيون الأقباط يحابي الوجوه مع الناس وليس لوجه الله. لكن هذا لا يعدو عن كونه استهجانًا داخليًا وليس جريمة، وبدقة أكبر، أغلب إفادات المسيحيين تقول عنه: باع التعاليم “علشان اللقطة”، و”بيستكرد” المسلمين.
أما مسألة المشاركة في شعائر غير مسيحية، أو الصلاة المشتركة حتى ولو مع طوائف مسيحية مغايرة لكنيسة الأقباط الأرثوذكس التي هو كاهن عليها، فكل هذه تعد أفعال تستوجب المراجعة والتنسيق والإذن من رئاستة الدينية، على الأقل لضمان تطبيق السياسات العامة للمؤسسة الدينية وتماشيها مع السياسة العامة للدولة أيضًا. ودعونا هنا نضرب مثالًا خفيفًا بأن كنيسة الأقباط هي كنيسة شقيقة لكلٍ من الكنيسة السريانية والكنيسة الإثيوبية على المستوى العقائدي. لكن هل يمكن مقارنة حركة العلاقات الدولية نتيجة ما تمر به سوريا حاليًا من أزمات إقتصادية؟ ألن يؤثر بناء سد النهضة على توتر العلاقة مع أثيوبيا كما أثر النزاع حول “دير السلطان”؟
الجدل حول الصلاة المشتركة
دعني أذكرك بإن قداسة البابا تواضروس الثاني كان قد تعرض لحملات عزل من مسيحيين أصوليين، وأحد أبرز اتهاماتهم له هو إنه شارك في الصلاة مع طوائف مسيحية مغايرة لا تجمعهم شركة رسمية مع كرسي مار مرقس. ربما يكون الاتهام بالصلاة سخيفًا بالنسبة لك (هو كذلك بالنسبة لي) لكن مآخذ حماة الإيمان -الجادة- لها أصل كهنوتي، فالمسيحي العلماني حر لكن الكاهن ليس حرًا، وﻻ شيخ الأزهر حر في أن يصلي خلف ملالي إيران، أو دخول مسجد في طهران، لأنه بالصلاة المشتركة في طقوس متشابهة (قداس مثلًا) وكأنه يضفي شرعية كهنوتية على طقوس مختلف عليها أو غير مُعترف بشرطونية مؤديها. فما بالك كأديان؟
اعتدنا أن الصلاة هي علاقة بين الفرد وربه، هذا صحيح على مستوى الفرد، أما الصلاة المشتركة بين المؤسسات الدينية فهي ليست كذلك، ليست علاقة فردية على الأقل، ولا تعبّر الصلاة المشتركة إلا عن مدى تقارب الجماعات الراعية للصلاة المشتركة بين بعضهما البعض. ودعنا هنا نضرب مثالًا خفيفًا أيضًا حول الحرب الروسية الأوكرانية، إذ سبقها إنفصال إداري وهيكلي لكنيسة أوكرانيا عن كنيسة روسيا، أوكرانيا ترى هذا “إستقلالًا” بينما روسيا تشيطن نفس الفعلة وتراها “إنشقاقًا”. وعلى الرغم أنهما كنيستين أرثوذكسيتين متطابقتين عقائديًا، إلا أنه بالتأكيد غير مسموح لأحدهما بالصلاة المشتركة مع الآخر لدواعي الحرب. ومن الوارد أن يكفّر ويشيطن كلاهما الآخر بأداوتٍ دينية وعقائدية، ومن الطبيعي أن يتغيّر هذا لشكل أكثر تقاربًا إذا ما تغيرت ظروف الحرب.
مسألة "الصلاة المشتركة" يمكن فهمها بشكل أعمق من خلال الأحوال الشخصية وعلاقة الزواج الرسمي، فالصلاة المشتركة بين جماعتين تعني إمكانية الزواج المختلط بين هاتين الجماعتين.
الجدل حول الذبح كفداء
الذبح ليس مجرد طعام للمقتدرين، بل شعيرة دينية ذات قدسية وهناك طقس ديني لنحر الأضحية يستوجب صلاة العيد قبل النحر. لكن كل هذا طبقًا لشعائر الإسلام والمشكلة الأعقد هنا هي لاهوتية. يرى المسلمون أن قضية ذبح الأضاحي تعود إلى أبي الأنبياء إبراهيم، والمشار إليها في القرآن بقوله وفديناه بذبح عظيم
، أما في المسيحية، فموضوع “الذبيحة” أقدم من موقف إبراهيم، ويعود إلى الله نفسه في قصة آدم وحواء عندما أكلا من الشجرة وعرفا إنهما عريانين. التفاصيل في التوراة تقول إنهما غطّيا جسديهما بورق التين (التوت في القرآن) فصنع الله لهما أقمصة من جلد [28]. والجلد يعني ذبح حيوان حتى يؤخذ جلده. تحول كل هذا إلى مبدأ فلسفي في اليهودية بأنّ الله هو أوّل من ذبح، وذبح حيوانًا بريئًا لستر خطية (عورة) الإنسان الأول. يُختصر هذا المبدأ في التعبير بدون سفك دم لا تحصل مغفرة
[29].
والمعنى من هذا المبدأ أنه -في الشريعة اليهودية- فالتوبة ليست كافية للمغفرة، بل لابد من أن تُقرن التوبة بتقديم ذبيحة. هذا هو عصب ومحور كهانة اليهود، والذين هم أصل الكهنة. عملهم تقديم الذبائح. ﻻ ذبيحة تُقبل دون كاهن، وليس أي كاهن، بل له مواصفات خاصة، ومنحدر من سبط (نسل) معين. والمسيحية لم تلغ المبدأ العام، لكنها تؤمن إن المسيح قدم نفسه ذبيحة على الصليب، ومن ثمّ لم يعد الإنسان مرغمًا على تقديم ذبيحة عندما يخطئ.
من الشروحات السابقة، يمكنك أن تفهم الاعتقاد المسيحي بشكل أكثر عمقًا عندما يرى أن دوماديوس قد داس على فداء المسيح، أو أبطله، واستعاد شعيرة يهودية مُلغاة (أنت قد تراها إسلامية، لكنها في معتقداته هو شعائر يهودية) وهو أمر أشبه بالإرتداد لليهودية [تهوّد] ويتطلب مراجعة أفكاره الاعتقادية.
الجدل حول تمجيد الحسين
مسألة “تمجيد الحسين” لا بأس بها، المشكلة ربما تكون حول الصلوات المشتركة مع الشيعة. كان دوماديوس قد تعامل مع جهات أجنبية مثل مؤسسة أصيل الإيرانية، وأنتجا معًا إصدارة من “مناجاة المحبين”، وهي المناجاة التاسعة من المناجاة الخمسة عشر للإمام علي بن الحسين زين العابدين. هو يقول أنها صلاة، أي إنه يعلم أنها صلاة، وفعل ذلك دون إخطار ودون تنسيق ودون إذن مستغلًا عدم وجود رئيس ديني مباشر عليه. وبقية الجدل في هذا المبحث يمكن إحالته إلى ما ذكرناه حول الصلاة المشتركة في كونها ليست مُعبّرة عن السلوك الفردي المعتاد في الصلاة، بل يجب أن تضبط بضوابط الجماعة الدينية التي يعتنقها الفرد لكونها معبّرة عن سياسة جماعية وليس إرادة فردية.
الجدل حول علاقته بطهران
تلك هي المشكلة الأخطر حسبما أعلم، إذ من الثابت زيارة دوماديوس لطهران في سبتمبر ٢٠٢٣، دون تنسيق أو إذن أو تفويض من قداسة البابا تواضروس الثاني، كما ثبت استقباله هناك بشكل يوحي بالرسمية، وكأنه منتدب من الكنيسة القبطية المرقسية إلى طهران، وهو ما لم يحدث، ويضع الكنيسة المصرية في حرج شديد. الأمر الذي دعى البابا تواضروس إلى التحقيق معه فور عودته للقاهرة في أغسطس الماضي، وإيقافه عن الخدمة الكهنوتية في ١٢ أغسطس ٢٠٢٣. لم يتسم هذا الإيقاف بالعلانية لتفادي التشهير بالكاهن، لكنه حوسب وروجع إداريًا في أغسطس الماضي، وبناء عليه تم إيقافه (للمرة الثالثة).
الجدل حول علاقته بالكنيسة
هذه الصورة ملتقطة “سكرينشوت” من حساب منصة إكس (تويتر) الخاص بالسيد “عبد الحميد قطب”، الذي هو دائم النشاط في مجال الإسلام السياسي، وتسجّل أحد التغريدات بتاريخ ١٩ مارس ٢٠٢٤، وهي تغريده أبلغ من كل بيان.
ونكرر ما قد بدأنا به؛ يتعامل الأب دوماديوس في بساطة مفرطة تلامس حد قصر النظر. فهو يترجم الأمور المعقدة إلى مفاهيم بسيطة، ويثق في أن مساعي الحب ستؤتي ثمارها، متجاهلاً العواقب التي قد تتجاوز نواياه المتواضعة. هذا الثقة المفرطة تجعله غافل عن التداعيات التي لم يفكر فيها، مما يؤدي إلى عواقب غير مقصودة قد تكون أكبر بكثير من أفعاله الأولية.
الجدل حول علاقته بالمسلمين
في ١٩ سبتمبر ٢٠٢٣، ظهر تصريح للأب دوماديوس على وكالة الجمهورية الإسلامية للأنباء (ارنا) [30]، وبثّ صوتيًا على إذاعة طهران، وقال نصًا:
تغيرت وجهة نظري تجاه المسلمين بعد زيارتي إلى إيران والتعرف على الإسلام الحقيقي هناك.
كانت فكرتي عن المسلمين هي إنهم تكفيريون يضرمون النار في الكنائس.
تأثرت بالشائعات التي كنت قد سمعتها عن المسلمين بما أدى إلى تخوفي من زيارة إيران.(دوماديوس حبيب، تسجيل صوتي لإذاعة طهران، ومفرّغ على وكالة الجمهورية الإسلامية للأنباء (ارنا) )
بالأخذ في الاعتبار أن هذه هي الوكالة الرسمية للأنباء الإيرانية، وقد عنونت التصريح قس مصري
، فهذا هو المهم. هذا يعني أن الانطباع المُتلقى هنا يعبر عن الكهنة المصريين أكثر من كونه انطباعًا شخصيًا. نتفهم بالتأكيد الحاجة الإيرانية للفوز في المقارنات التي قدمها دوماديوس ببساطة الحملان. وإن لم يكن الأمر واضحًا فسنشرح بعجالة التوابع الكارثية.
• يوحي مفهوم الإسلام الحقيقي
المزعوم في إيران ضمنًا بأن الإسلام الموجود في مصر هو غير حقيقي (مزيف، مُحرف، ملعوب فيه، ضع ما شئت من تعبيرات)
• يقع القول فكرتي عن المسلمين هي أنهم تكفيريون
في فخ التعميمات المسيئة، لو قال “بعضهم” أو حتى “أغلبهم” لعذرناه، لكن بهذه الصياغة فنجم الوحدة الوطنية لم يجد مسلمًا في وطنه إلا تكفيريًا يؤمن بحرق الكنائس. كلهم!
• لم يرد أفكاره تلك لتجاربه الشخصية (لو فعلها لعذرناه) لكنه ردها لـتأثره بالشائعات
. وهنا أنا لا أعلم هل يتراجع عن أقواله في حريق كنيسة سرسنا، فيكون وقتها هو من يبث الشائعات وجاء ليتوب في إذاعة إيران!؟ أم يشير لآخرين يرددون شائعات عن حرق المسلمين للكنائس، وفي هذه الحالة فمصدر الشائعات الخبيثة لن يكون سوى الكنيسة، فمن غير المنطقي أن ينشر المسلمون شائعات ضدهم!؟
خط رفيع يفصل بين الديبلوماسية والنفاق. أما هذه الكلمات القصيرة فملئية بأطنان من النفاق والمداهنة والتملق تجاه الشيعة على حساب كل من الكنيسة والأزهر، الإتنين!! ويظل الطريق إلى الجحيم مملوء بأصحاب النوايا الحسنة
.
صحافة وإعلام طائفيين
في يوم الخميس٢٠ يونيو ٢٠٢٤، أُعلنت نتيجة التحقيق مع الكاهن دوماديوس حبيب إبراهيم إبراهيم الراهب، وقُرر معاقبته بموجب القانون الكنسي بسنة من العُزلة بأحد الأديرة، مع إيقافه (الرابع) عن الخدمة الكهنوتية، وعدم الظهور الإعلامي. نشر المتحدث باسم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية البيان، الذي يُعتبر إلزاميًا بحسب تعهد طاعة الكاهن، وقد نشر الأب دوماديوس البيان الصادر بحقه على صفحته، وعقّب عليه بإعلان خضوعه، والتزامه بتنفيذ القانون الصادر بحقه دون تحفظات.
الشيء الانتهازي في المسألة، إن مؤسسات صحفية رسمية وقنوات فضائية نشرت نصّ البيان، وتجاوزت لتبريره بأنّه نتيجة زيارة دوماديوس لضريح السيد البدوي!! وادعى آخرون ذوو توجهات إسلامية أن الكنيسة تعاقبه على جهوده في “الوحدة الوطنية” ومظاهر التقارب مع الإسلام!
تُظهر التغطية الطائفية للموقف من قبل الأفراد والمؤسسات غير المهنية مغالطات واضحة. وتُسِلط مثل هذه الأعمال الانتهازية الضوء على التوازن الدقيق بين نقل المعلومات الواقعية، والتأثير على الرأي العام من خلال لغة وإطار العرض لتلك المعلومات. وقد وصلت معارك القنوات الفضائية المعارضة لنظام الحكم في مصر حد السخافة، مما دفعها لاعتبار الكنيسة أداة لـ”دين أبوهم” دون أي احترام للقانون الكنسي أو الإداري أو حتى النظر لمدى الشعبية حيث كانت محاسبته مطلبًا معلنًا لقطاعات واسعة من الأقباط.
الأب دوماديوس لم يزر السيد البدوي في حياته، وجميع الصور المنشورة له في ضريح تم إلتقاطها يوم الثلاثاء ١٩ سبتمبر ٢٠٢٣، في أثناء زيارته للحرم الرضوي وليس السيد البدوي، أي في طهران وليس في طنطا، والحرم الرضوي هو مرقد الإمام علي بن موسى الرضا، ثامن أئمة أهل البيت. وعلى هذا فإن الصور تُظهر تفاعله مع طائفة شيعية إيرانية، وليس مذهبًا صوفيًا مصريًا!
البابا هو المسؤول عن الأمور العامة في الكنيسة، وهو الذي يمثلها أمام الدولة، وأمام الكنائس الأخرى، وكل الهيئات الرسمية والدينية.(مادة ٥٤، اللائحة الأساسية للمجمع المقدس)
بموجب المادة السابقة [31]، فإنّ أيّ حوار أو تمثيل مع أي هيئة رسمية أو دينية (بما في ذلك الهيئات والطوائف المسيحية) يستلزم تفويضًا من البابا مباشرة، ويعتبر أي تصرف مخالف لذلك بمثابة فوضى تنظيمية وتنسيقية، وانتهاكًا لصلاحيات البابا. ولذلك يبدأ بيان المتحدث الرسمي بتوضيح أن الكنيسة الرسمية لا تتحمل مسؤولية أي تصرفات قام بها دوماديوس (حتى لو كانت حسنة)، لأنه لم يكن مفوضًا لتمثيل الكنيسة، ولم يُخطر أيّ جهة كنسيّة في مصر بنيّته في الذهاب إلى طهران، أو ذبح عجل في الكنيسة الأسقفية بالجيزة.
على النقيض من ذلك، صورت إذاعة وتلفزيون طهران الرسمي الأب دوماديوس على أنه ممثل للكنيسة. وتورط في ذلك العديد من الجهات ومنهم الكنيسة الأرمنية في طهران، التي استقبلته رسميًا باعتباره “كنيسة شقيقة”. وكل هذا بالطبع تخبّط و”عك” لم تعرفه الكنيسة المصرية في حينه!
الأمر الخاص برسمية التمثيل يمكن أن يقال عن نوع من الصحافة المصرية الطائفية غير المهنية، التي تُصر على تصوير أي سلوك “علماني” لدوماديوس، على أنه رسمي وكهنوتي وكنسي. ومن الواضح إننا أمام نوع من صحافة المقاولات الطائفية تتلاعب عمدًا بقيم “الوحدة الوطنية” عبر وضع “عباءة دينية” على السلوك الإنساني دون الحد الأدنى من المهنيّة!
الكاهن “إنسان” على فكرة! يأكل ويشرب ويتبول وله صداقات وخصومات لا تختلف عن أيّ مرتدي للقميص والبنطال! من الذي يفترض أنّ سلوك الفرد يُحسب على الكنيسة وعلى الكهنوت وعلى الدين المسيحي؟ كما أن الفكرة المسيطرة عند البعض بتقديم رجال الدين في الصحافة المصرية على أنهم أبطال ونجوم “الوحدة الوطنية” هي حماقة يجب أن تتوقف فورًا، فهي تشجع على فكرة دولة طائفية بمحاصصات دينية وتنحرف عن المفهوم السليم لقيم الوحدة الوطنية. ناهيك أنها لا تعني عند أي ناضج سوى تسول مظاهر التعايش السلمي بين الأديان على أنها بطولة مُفتقدة أو مبتغاة! بالإضافة إلى ذلك، فإن ربط السلوك الانساني بمظاهر الاعتقاد الديني هو أمر خطير جدًا ثقافيًا، إذ -بنفس المبدأ- يمكن أن يُضار الإسلام من سلوكيات الإرهابيين، إذا ما تم النظر الطائفي المكافئ لديانة الإرهابي، أو تم اعتماد ما يدعيه من ثقافة كراهية على إنها امتثال منه لتعليمات الله وكتابه ورسوله!
وتبقى كلمة أخيرة لمقاولي الوطنية..
“الوحدة الوطنية” قيمة مدنية وليست دينية. ولا يمكن تحقيقها من خلال مظاهر التدين، بل من خلال التخلي عنها لصالح قيم أعلى وأكثر فعالية. المثال الواضح على هذا هو الشاب النبيل “محمد يحيى” الذي خاطر بحياته لإنقاذ أطفال محاصرين في حريق كنيسة المنيرة الغربية (الجيزة)، لو فكر “محمد” في أن هذه كنيسة ذات صليب وأن الأطفال “مسيحيون” وهو “المسلم”، فربما لم يكن ليعرض حياته للخطر ووقف مشفقًا متحسرًا كحال أغلبنا. لكن “محمد يحيى” لم ير صلبانًا ولا مصاحفًا وتلاشى العالم في عيونه فلم يعد يرى سوى أطفال تصرخ في معاناة داخل ألسنة اللهب، وسمع في صراخاتهم أصداء أطفاله وأهله. فقفز إلى الجحيم دون تفكير. هذا هو جوهر الوحدة الوطنية: قيمة أخلاقية وإنسانية ﻻ تعرف حدودًا دينية أو أيديولوجية أو ثقافية. إنها أحيانًا تتجاوز حتى حدود الوطن لتشمل أشخاصًا غُرباء كما لو كانوا ضمن عائلتنا أيضًا. إن الأخلاق المدنية قيم إنسانية عالمية لا تقتصر على بلد معين ولا تتوقف عند حدود الوطن.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟