في الوقت التي حرمت فيه حركة طالبان الغناء، خرج علينا نيافة ، مطران المنوفية، بفتوى مماثلة عن تحريم لا الغناء فقط، بل أي تراتيل تحوي موسيقى تحرك “عاطفة الجسد” وكل “موسيقى لحساب الجسد” لأن الجسد لابد أن يبقى ثابتًا، لا يحركه شيء. فالموسيقى، والغناء، والرقص: شرور يجب منعها لأنها تحرك الأجساد والعواطف! وهنا يحق لنا أن نسأل ما المشكلة في أن يتحرك الجسد؟

هل يبدو الجسد لنا كحمل ثقيل، أو كسجن خلقه الله ليثقلنا به، فبعد أن وضع الله فينا الحس الفني لتذوق الفنون والاستمتاع بها، والرغبة في الرقص، والتمايل على أنغام الموسيقى، نكتشف أن هذه كلها محرمات علينا الابتعاد عنها كيلا نغضب الله خالق هذه الفنون والمشاعر في الأساس! بأي منطق نقول هذا؟!

هل يطالبنا الله باحتقار الجسد وتعذبيه إلى هذا الحد؟ ولماذا أتغرب عن جسدي، فجسدي هو أنا! جسدي هو خليقة الله بكل ما فيه. فمن هو خالق تلك النشوى التي تحدثها الموسيقى، ومن هو خالق هرمونات السعادة؟ أليس هو نفس الإله الذي يتحدثون باسمه ويحرِّمون ما خلقه؟

 

كل شيء طاهر للطاهرين

كُلُّ شَيْءٍ طَاهِرٌ لِلطّاهِرِينَ، وَأَمّا لِلنّجِسِينَ وَغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ شَيْءٌ طَاهِرًا، بَلْ قَدْ تَنَجّسَ ذِهْنُهُمْ أَيْضًا وَضَمِيرُهُمْ

(تيطس 1: 15)

ما يميز تعاليم المسيح عن باقي الديانات أنها تقوم على تغيير الإنسان من الداخل؛ فإذا كانت عينك بسيطة، لن يسحقك منظر فتاة ترتدي فستانًا قصيرًا، أما إن كانت عينك شريرة، ستري من تستر جسدها بالكامل، وتعريها أنت في خيالك، ولن تتمالك نفسك إلا بعد أن تشبع غريزتك منها. فما أغرب أن نستمع إلى هذه الفتاوى، ونحن نعلم أن المعيار هو طهارة المتلقي.

إن النفس هي التي تتجسد أمام أعيننا في قفزات الراقصة

(بول فاري، كتاب: الفنّ والرقص)

هناك من ينظر إلى جسد الراقصة، ويشتهيها جسديًا كالحيوانات، وهناك من ينظر إلى حركاتها مندهشًا لما في نفسها، ولحركاتها التي هي تعبير عن بهجة الحياة. فالأمر يرجع للمتلقي وإلى ما يريد أن يراه. وهناك رقصات تعبر ببراعة عما لا يُقال بالكلمات؛ على سبيل المثال، في مسرحية “”، استخدم الكاتب، “هنريك إبسن” رقصة الترنتلة، وهي رقصة شعبية إيطالية، للتعبير عن التطور الوجداني لنورا – بطلة المسرحية، فالرقصة لا تلبث أن تمنحك نظرة نافذة داخل تلك الشخصية المعقدة التي تتوق بكل ذرة فيها للنمو وبلوغ أكمل حالة ممكنة، وقد عبر الكاتب عن ظمأ الشخصية وشوقها المبرح للتغيير من خلال تلك الرقصة التي كلما فككت رموزها، تزيدك دهشة. فالرقص ليس مجرد حركات فارغة تقوم بها النساء لعرض جسدهن كسلع أمام الرجال! الفن عالم واسع مُمتلِئ بالجمال، ولا يحتقره إلا المبتلين بالجهل.

كاره الفن لا يحيا بسلام، إذ يشعر بأن وجود شيء لا يفهمه يهينه، فيكرهه

(ميلان كونديرا)

وذكرني هذا الأمر بفتوى سابقة لل بعدم السماح للفتيات بالترتيل في القداس لأن الفتاة صوتها نسائي وناعم، وسيثير الحاضرين! فهل السماع لفتاة ترتل مثير لهذه الدرجة؟

سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَمَتَى كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلّهُ يَكُونُ نَيّرًا، وَمَتَى كَانَتْ شِرّيرَةً فَجَسَدُكَ يَكُونُ مُظْلِمًا

(لوقا 11: 34)

 

أغاني العالم وأغاني السماء

هل سمعنا أن المسيح حين ذهب إلى عرس قانا الجليل، طلب من الحاضرين عدم الغناء؟ أو تحويل الغناء إلى تراتيل أرثوذكسية؟ بالطبع، كانت الأغاني في العرس أَغَانٍ عادية كأي عرس يٌقام في ذلك الوقت.
قال المسيح إن الكنيسة هي ملح العالم، فهل الانفصال عن العالم داخل أسوار الكنائس والاكتفاء بسماع التراتيل، أو الجلوس داخل الكهوف لمحاربة الشياطين هو قصد الله؟ من يريد أن يفهم شعبًا ما، أول ما يذهب إليه هو أغانيه. فالأغاني هي مرآة الشعوب التي تعبر عن أيديولوجياتها، ومدى تحضرها. فكيف تتمكن الكنيسة من التأثير في الناس، وهي لا تطّلع على ما يقدمونه من فنون؟

وبالمناسبة، لا يوجد شيء يدعى بأغاني أرضية وأغاني سمائية، فألحان الكنيسة الأرثوذكسية استلهمها المصريون من الأغاني المصرية القديمة (أَغَانٍ أرضية)، لذلك، فأي كلام عن قدسية اللغة القبطية، باعتبارها لغة السماء التي يتحدثها السمائيون ولن يفهموا غيرها هو أمر مضحك. في السماء، سيفهم الجميع كل شيء:

الآنَ أَعْرِفُ بَعْضَ الْمَعْرِفَةِ، لكِنْ حِينَئِذٍ سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ

(1كورنثوس 12:13)

 

الموسيقى علاج الروح

في روايته “سوناتا كرويتزر”، يرسم لنا “” صورة للإنسان الفاسد روحيًا، المغلوب من شره، فداخله مملوء شر، وأفكار قبيحة، يحتقر زوجته، ويريد إخضاعها كعبدة لتلبية رغباته، ولا يستطيع رؤيتها مع أي ذكر آخر لأنه لا يفكر في أي شيء سوى الخيانة الجنسية. لكنه يتوقف عن التفكير في الشر فقط وقت سماعه لسوناتا كرويتزر لبيتهوفن، ويتعجب من نسيانه أن زوجته تعزف مع رجل آخر، قائلًا:

ما هي الموسيقى؟ ما الذي تصنعه بالإنسان؟ لماذا تؤثر فيه هذا التأثير؟ … إن الموسيقى تجبرني أن أنسى نفسي، أن أنسى حقيقة الوضع الذي أنا فيه، وتنقلني إلى عالم آخر، يتراءي لي بتأثير الموسيقى أني أحس بما لا أحسّه في الواقع، وأفهم ما لا أفهمه … إن الموسيقي تنقلني إلى الحالة النفسية التي عاناها المؤلف فتتحد روحي بروحه … لقد سمعت صوتًا يهتف بي من أعماقي قائلًا: نعم، هكذا يجب أن تعيش، لا كما تظن من قبل، أما ما هو ذلك الشيء الجديد، فأنّي لم أدركه في أول الأمر، ولكن مجرد إحساسي به قد بثّ في قلبي فرحًا كبيرًا، وأصبحت أرى الحاضرين، ومن بينهم هو وزوجتي، عبر رؤية جديدة.

(ليو تولستوي، سوناتا كرويتزر)

فكيف لا نعشق الفن؟ وكيف لا نطبق ما يقوله المزمور “سَبّحُوهُ بِدُفّ وَرَقْصٍ“؟

عِنْدَئِذٍ أَخَذَتْ مَرْيَمُ النَبِيَةُ أُخْتُ هَرُونَ، الدُفَ بِيَدِهَا، فَتَبِعَهَا جَمِيعُ النِسَاءِ بالدُفِ وَالرَقْصِ. فَكَانَتْ مَرْيَمُ تُجَاوِبُهُنَ: “رَنِمُوا لِلرَبِ لأَنَهُ قَدْ تَمَجَدَ جِدّاً. الْفَرَسَ وَرَاكِبَهُ قَدْ طَرَحَهُمَا فِي الْبَحْرِ

(سفر الخروج 15)

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

وكيف لا نحب الفن؟ 1
[ + مقالات ]