مع دقات الساعة الثانية عشر منتصف الليل بين يومي الـ 14 و15 من مايو 1948، قررت الحكومة البريطانية إنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، وفي نفس الوقت تقريبًا في تل أبيب وقع “ديفيد بن جوريون” مع قادة المنظمة الصهيونية على وثيقة إعلان قيام دولة إسرائيل، وبعد أحد عشرة دقيقة من قيام دولة إسرائيل، أعترف الرئيس الأمريكي هاري ترومان بالدولة الوليدة.
وبعد أيام قليلة من إعلان قيام دولة إسرائيل، اندفعت جيوش سبع دول عربية، على رأسهم المملكة المصرية، في حرب مع المليشيات الصهيونية المسلحة، بغرض إنشاء دولة فلسطينية مستقلة [إسلاميّة] بقيادة الحاج أمين الحسيني، مفتي القدس، ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى [*]، وبعد شهور قليلة مُنيت الجيوش العربية السبع بالهزيمة الفادحة، ليبدأ بعدها مسلسل أنهيار الدولة الليبرالية المصرية.
على الرغم من ذلك، لم يناصب المصريون المسلمون أو المسيحيون العداء لإخوانهم المصريين اليهود، رغما عن الجهود المضنية التي قامت بها جماعة الإخوان المسلمين بقيادة حسن البنا، وجماعة “مصر الفتاة” بقيادة أحمد حسين، لبث روح الفتنة الدينية بين المصريين، وإيهام المصريين المسلمين [المتدينين بالفطرة]، أن كل اليهود المصريين هم إسرائيليون بالضرورة ويدينون بالولاء للدولة الإسرائيلية الوليدة.
مع ذهاب جهود القيادة الثقافية والاجتماعية أدراج الرياح، بدأ التنظيم الخاص للجماعة في ضرب المصالح اليهودية في مصر، وإلقاء القنابل والمفرقعات على الشركات والمصانع التي يمتلكها المصريون اليهود، بل وعلى “حارة اليهود” نفسها عدة مرات، استنادًا إلى فتوى الحاج أمين الحسيني، مفتي القدس:
“أن اليهود ليسوا فقط في فلسطين وإنما في مصر أيضًا، وفي كثير من البلاد التي لهم فيها نفوذ“. [*]
(الحاج محمد أمين الحسيني، المفتي العام للقدس)
جاء عام 1952 ليعلن نهاية الحقبة الليبرالية في مصر، وعلى الرغم من محاولات اللواء محمد نجيب، الرئيس المصري وقتئذ، لتوطيد قيم المواطنة والتأكيد على أن اليهود المصريين ليس لهم أي علاقة بإسرائيل، وشارك محمد نجيب بنفسه في احتفالات الطائفة اليهودية بمصر بعيد رأس السنة العبرية في معبد الإسماعيلية بشارع عدلي في القاهرة 1953، لكن مع انقلاب عبد الناصر على محمد نجيب واستيلائه على السلطة تغير كل شيء، وزاد الطين بلة قيام العدوان الثلاثي على مصر بعد تأميم قناة السويس بمشاركة إسرائيل جنبًا إلى جنب مع بريطانيا وفرنسا، وتنامي العداء ناحية يهود مصر بدعم كامل من جمال عبد الناصر، الذي أتخذ قراره بطردهم من مصر تحت دعاوي الخيانة وشن المؤامرات على مصر.
ربما لم يحتج الأمر لكثير من المجهود مع المسلمين المصريين بسبب الدوافع الدينية، لكن الأمر بالنسبة للمسيحين المصريين كان مختلفًا تمامًا، إذ يشكّل “العهد القديم” [اليهودي] جزءًا لا ينفصل من الكتاب المقدس للمسيحين، وعلى هذا، لم يتقبّل الأقباط الأرثوذكس مبدأ كره اليهود بسهولة.
بحلول عام 1959 وصل البابا كيرلس السادس لسدة الكرسي المرقسي، ونشأت علاقة صداقة قوية بينه وجمال عبد الناصر، وبعدها على الفور تنامي مصطلح “إدانة اليهود عن دم المسيح”، بإيعاز من جمال عبد الناصر، الذي سبق وأوعز للكنيسة القبطية بتطبيق القرعة الهيكلية المعيبة في اختيار بابا الإسكندرية، بديلًا عن الانتخاب المباشر للبطريرك الذي كان متّبعًا قبلها، لأنه لم يكن من المستحب أن يأتي رئيس الدولة جمال عبد الناصر باستفتاء شعبي ويأتي بطريرك الأقباط الأرثوذكس بالانتخاب الحر المباشر
، وفقًا لشهادة د. ميلاد حنا في حواره مع الكاتب الصحفي سليمان شفيق.
لم يعرف الأقباط مصطلح "إدانة اليهود عن صلب المسيح" تحت أي سبب أو مسمى قبل حقبة الستينيات، بالرغم أن المسيح قد صُلب قبل هذا التاريخ بنحو ألفي عام تقريبًا، لكن يبدو أن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية لم تتذكر إدانة اليهود إلا عندما أمرهم عبد الناصر بذلك.
وبغض النظر على أنه طبقًا للديانة الإسلامية، فأن المسيح لم يُصلب قط، وعلى هذا فأن اليهود غير مدانين بصلبه طبقًا لمعتقدات الأغلبيّة المسلمة، لكن طبقًا لرواية صلب المسيح من الأناجيل الأربعة، فإن مبدأ “إدانة اليهود على دمّ المسيح” يستند على أن مجموعة من اليهود في عام 33 ميلادية، قد طالبوا بصلب المسيح رافضين إطلاق سراحه عندما خيّرهم الوالي الروماني “بيلاطس البنطي” بين إطلاق المسيح وإطلاق “باراباس”، قاطع الطريق، فطلبوا إطلاق “باراباس”.
وإمعانًا في اتهام اليهود، فأن المبدأ يستند لهتافات تلك الجماهير التي رددت: دمه علينا وعلى أولادنا
(مت 27: 25)، لإدانة كل اليهود وأولادهم وأحفادهم منذ عام 33م وحتى يومنا هذا، عن دمّ المسيح.
وهنا يتناسى الأقباط..
أولًا: عدد اليهود الذين طالبوا بصلب المسيح في أفضل التقديرات يُقدر من بضعة مئات إلى بضعة ألآف، استنادًا لتعداد الشعب اليهودي في ذلك الوقت، والذي لم يتعدى مليون فرد طبقًا لتقدير عالم الآثار الإسرائيلي ميجان بورشي Megan Borshi، أو نحو 2.3 مليون فرد طبقًا للمؤرخ الأمريكي اليهودي سالو ويتماير بارون Salo Wittmayer Baron، وعلى هذا فأن نسبة اليهود الذين طالبوا بصلب المسيح تعتبر نسبة لا تقارن بتعداد اليهود في العالم والأجيال المتعاقبة منذ نحو ألفي عام.
ثانيًا: مبدأ إدانة الأبناء بذنب الآباء هو مبدأ غير مسيحي على الإطلاق، إذ يقول الكتاب المقدس:
النفس التي تخطيء هي تموت، الابن لا يحمل من إثم الأب، والأب لا يحمل من إثم الابن، بر البار عليه يكون وشر الشرير عليه يكون(حزقيال 18/20 – 21 )
لا يقتل الآباء عن الأولاد، ولا يقتل الأولاد عن الآباء، كل إنسان بخطيئته يقتل( تثنية 24/16 )
كل واحد يموت بذنبه، كل إنسان يأكل الحصرم تضرس أسنانه(إرمياء 31/30 )
لا تموت الآباء لأجل البنين، ولا البنون يموتون لأجل الآباء، بل كل واحد يموت لأجل خطيته( أيام (2) 25/4 )
فإنه لا يموت بإثم أبيه( حزقيال 18/17 )
أفتهلك البار مع الأثيم، عسى أن يكون خمسون باراً في المدينة، أفتهلك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين باراً الذين فيه حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر: أن تميت البار مع الأثيم، فيكون البار كالأثيم. حاشا لك، أديان كل الأرض لا يصنع عدلاً( تكوين 18/23 – 25 )
ثالثًا: المسيح نفسه قد برأ الجميع من دمه قائلًا: اغفر لهم، لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون
(لو 23: 34)، وعلى هذا فلا يحمل أبناء اليهود ذنب آبائهم بالمرة.
رابعًا: يتناسى أصحاب هذا المبدأ الغريب والداعين له، أن من حكم بصلب المسيح هو بيلاطس البنطي، الوالي الروماني لمقاطعة يهوذا في عهد قيصر روما “طيبارويوس قيصر”، وأن من نفذ الحكم هم الجنود الرومان، ومع ذلك لا يدين المسيحين الشعب الإيطالي عن دم المسيح، بالرغم أن جدودهم بيلاطس وطيباريوس هم من تلوثت أيديهم بدم المسيح.
في أكتوبر 1965م صدرت وثيقة تبرئة اليهود من مجمع الفاتيكان بالكنيسة الكاثوليكية لتؤكد المبدأ السابق، وأقرت بدور مجموعة اليهود الذين هتفوا فعليًا مطالبين بصلب المسيح، وبرأت باقي الشعب اليهودي في الوقت ذاته، والأجيال اليهودية اللاحقة من تولي وزر هذه الجريمة، كما أنها حاولت حصر الجريمة في أقل عدد ممكن من الكهنة ورؤساء الشعب اليهودي، وقالت الوثيقة نصًا:
وإن تكن سلطات اليهود وأتباعها هي التي حرضت على قتل المسيح، لا يمكن مع ذلك أن يعزى ما اقترف أثناء آلامه إلى كل اليهود اللذين كانوا يعيشون آنذاك دونما تمييز ولا إلى يهود اليوم.
إن المسيح بمحبته الفائقة قدّم ذاته طوعًا للآلام والموت بسبب خطايا جميع الناس لكي يحصلوا جميعًا على الخلاص، وهذا ما تمسكت به الكنيسة ولا تزال.(المجمع الفاتيكاني الثاني: بيان في علاقات الكنيسة مع الأديان غير المسيحية)
لكن إمعانًا من الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في خلط الدين بالسياسة، وإتباع هوى الحكام، فقد جعلت مسألة تبرئة الفاتيكان من أهم نقاط الاعتراض بين الكنيستين.
[*] الحاج محمد أمين الحسيني: (1895 – 4 يوليو 1974) المفتي العام للقدس، ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى، ورئيس اللجنة العربية العليا، وأحد أبرز الشخصيات الفلسطينية في القرن العشرين. ولِد في أورشليم القدس، وتلقى تعليمه الأساسي فيها، وانتقل بعدها لمصر ليدرس في “دار الدعوة والإرشاد”، ثم بعدها للكلية الحربية بإسطنبول ليلتحق بالجيش العثماني. تولى منصب المفتي العام للقدس بعد وفاة أخيه كامل، وأنشأ المجلس الإسلامي الأعلى في 1921، وبعد فشل ثورة القسام عام 1936 أنشأ اللجنة العربية العليا، التي ضمّت تيارات سياسية مختلفة. اُعتُقل الحسيني عام 1920 لكنه استطاع الفرار إلى الأردن. أصدر المندوب البريطاني قرارًا بإقالة “المفتي” من منصبه والقبض عليه، وحينها هرب إلى لبنان حيث اعتقلته السلطات الفرنسية، استطاع الهرب إلى العراق، ثم تركيا، ثم ألمانيا، حيث مكث فيها قرابة 4 سنوات تحت رعاية النازية [حزب العمال القومي الاشتراكي الألماني] قبل أن تسقط النازية ويُفرض عليه الإقامة الجبرية، فهاجر إلى سوريا، ومنها إلى لبنان حيث مكث فيها حتى وفاته عام 1974 ببيروت، وشيّع بجنازة رسمية حضرها ياسر عرفات، ودفن بمقبرة الشهداء.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤