إكمال الفداء:
إذ كنا قد تكلمنا عن الصعود الذي أكمله الرب في الأربعين، فأكمل به الفداء الذي بدأه على الصليب: لأنه لما انطلق في ذلك اليوم وعَبَر الحجاب الذي كان يفصلنا عن الآب، ودخل إلى ما داخل الحجاب كسابق من أجلنا، دخل ودمه على يديه وتراءى أمام الآب مذبوحًا بالحب والطاعة في جسم بشريته، ارتدّ غضب الله عن معصية الإنسان إلى الأبد، إذ صار الابن بذاته ذبيحة فداء عن عجز البشرية وقصورها، لذلك قيل: دخل يسوع كسابق من أجلنا فوجد لنا فداءً أبديًا
[1].
فبالصعود والجلوس عن يمين الآب أكمل المسيح التدبير الذي نزل من السماء من أجله، أكمل الفداء وضمن الخلاص لكل من يؤمن به.
ماذا بعد الفداء:
ولكن الجديد في الأمر، يا أحبائي، الذي يلزم جدًا أن ننتبه إِليه أنه، ومن بعد الفداء والخلاص، يتبقى أن ندخل في شركة الآب، لنحيا معه بالحب كبنين!!
لأنه أن نموت مع المسيح ونقوم معه ونجلس معه في السماويات شيء؛ ولكن أن نحيا الآن مع الآب في شركة حب البنين فهذا شيء آخر! هذا هو التدبير الذي أكمله الروح القدس الذي سبق وقيل عنه أنه “موعد الآب”، الذي تحدد له يوم في تاريخ الإنسان، وتنبأ عنه الأنبياء، وتكلم عنه المسيح، وتحقق يوم الخمسين.
عمل الابن وعمل الآب:
فنحن نعلم أن المسيح أكمل لنا التدبير بالجسد: الذي هو الموت والقيامة والصعود، والجلوس عن يمين الآب، وأما في يوم الخمسين فالآب أكمل التدبير بالروح القدس، لأن غاية المسيح كانت الخلاص برفع الخطيئة، وعقوبتها، واستعادة مركز الإنسان مع الله على أساس صلح دائم، أما غاية الآب فهي أن نحيا معه بالحب، في شركة البنين، الذي هو عمل ما بعد الفداء والخلاص والمصالحة.
لما رفع الابن العداوة بالجسد، انسكب حب الآب بالروح القدس:
وحيث ينتهي اختصاص الابن بالخلاص والمصالحة، يبدأ اختصاص الآب بالحب والتبني. وفي هذا يقول الرب بغاية الوضوح: في ذلك اليوم تطلبون باسمي ولست أقول لكم إني أنا أسأل الآب من أجلكم لأن الآب نفسه يحبكم. لأنكم أحببتموني وآمنتم أني من عند الله خرجت
[2].
أما قوله: الآب نفسه يحبكم
، في ذلك اليوم
، فهذا قد تحقق بصورة محددة يوم الخمسين، عندما أرسل الآب الروح القدس، روحه الخاص، روح الحب الأبوي المعبَّر عنه بموعد الآب. وهذا يشرحه بولس الرسول بقوله: لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا
[3].
أي إن أول صورة ينبغي أن تنطبع في أذهاننا وقلوبنا عن هذا اليوم العظيم يوم الخمسين، هي انعطاف الآب نحونا بالحب الأبوي الناري الذي سكبه على البشرية، بعد أن أكمل لها الابن كل أعواز الفداء والخلاص، بعدما غسلها بالدم وصنع لها تطهيرًا كاملًا لكل خطاياها، مصالحًا إياها مع الآب بصليبه.
هذا هو نصيبنا الفاخر في هذا اليوم المشهود، يا أحبائي، هذا هو كنز الحب الذي اغترف منه الأتقياء بالجهد في كل زمان ومكان ولم يفرغ أبدًا، كنز يوم الخمسين، كنز حرارة تضطرم بالحب الأبوي تجعلنا لا نكف عن الصراخ “يا أبّا الآب“، لأن روح يوم الخمسين روح ناري مرسَل توَّا من عند الآب، يحمل في لهيبه حنو الآب، وانعطافه الشديد الذي ظل محتجزًا عن الإنسان آلاف السنين.
حب الآب روح ناري يلد ويجدد ويرفع من الأرض إلى السماء:
آه يا أحبائي! لو أدركتم فاعلية هذا الحب الناري ونوعيته لأن سره عميق، فقد ثبت أنه قادر على الولادة، وطبيعته ظهرت كنار إلهية قادرة أن تحول طبيعتنا، كما تحول النار التراب إلى ذهب. لأن بالحب الذي أحب الله به ابنه الوحيد المحبوب هكذا ارتضى في هذا “اليوم الإلهي” (يوم الخمسين) -إن جاز هذا التعبير- أن يحبنا بذات الحب الإلهي، ويسكب من روح قدسه علينا علناً؛ فنقلنا من عبيد إلى أبناء، ومن الأرض إلى السماء، كرامة لابنه الذي نزل إلى ترابنا، الذي ذبح ذاته من أجلنا!
الروح القدس وثيقة تبنَّي أعظم من قَسَمٍ:
في القديم لما أطاع إبراهيم الله وأقدم على ذبح ابنه طوعًا لصوت القدير، نال إبراهيم تعطفات الله الجزيلة وأقسم له بذاته أن يباركه ويجعله بركة؛ الآن يا أحبائي، وفي يوم الخمسين، هذا الذي به تباركت كل أيامنا، لما أكمل المسيح التدبير بالجسد وأطاع أباه حتى الموت موت الصليب، وصعد وتراءى بجسده المذبوح أمام الآب، لم يقسم الله في هذه المرة، بل صنع ما هو أعظم من القسم، إذ فاضت أحشاؤه على البشرية كلها وسكب روحه القدوس المذخر فيه كل حنان الله ولطفه وإحسانه على كل بشر، كقول يوئيل نبي العنصرة، وبهذا الروح الأبوي تباركت كل الأرض.
وماذا كانت صورة هذا الحب؟ كانت وثيقة تبنّي!!؛ لأنه كما أحب الآب القدوس ابنه، هكذا وبذات الروح أحبنا وأرسل روح ابنه إلى قلوبنا
[4]، فكان التبنِّي، الذي أصبح لنا به كل الحق أن ندعو الله “يا أبَّا الآب”. الروح القدس الذي سكبه علينا الآب هو ذاته الذي يصرخ فينا شاهدًا أننا أولاد الله! هذا هو روح التبني الذي أدخلنا في شركة ميراث المسيح، أي في بنوة الله!! كما يقول بولس الرسول: “بل أخذتم روح التبني الذي به نصرخ “يا أبَّا الآب“، “الروح نفسه أيضًا يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله. فإن كنا (صرنا) أولادًا فإننا ورثة أيضًا ورثة الله، ووارثون مع المسيح!” [5].
موعد الآب بالروح القدس مسحة بنوة تحمل حياة لا تزول:
وهكذا أكمل “موعد الآب” بالروح القدس، وتمت عملية التبني التي طالما وعد بها الرب وطالما انتظرها التلاميذ بعد أن هيأ لها الابن في ذاته كل ما هو لازم لها؛ كما اجتمع تلاميذه في العلية أيضًا، حسب الوصية، يترقبون الموعد بصلاة وطلبة و بنفس واحدة.
وتحقق الوعد بمسحة نارية من لدن الآب تحمل للإنسان قوة حياة لا تزول، في شركة مع الله أعمق من أن يَنطق بها لسان بشر، نعيشها الآن بملء العلانية، قوامها وجوهرها حب أبوي هو بحد ذاته محيي، يحمل سر الولادة من فوق!!
جعل نفسه ذبيحة إثم يرى نسلا تطول أيامه، ومسرة الرب بيده تنجح. من تعب نفسه يرى ويشبع.(إشعياء ٥٣: ١١،١٠)
فيا لفرحة يسوع المسيح في ذلك اليوم وهو جالس في السماء عن يمين الآب، يرى الروح القدس يختم بختم الآب على كل تدبيره الذي أكمله بالآلام، ويرى تلاميذه وقد تبناهم الآب ككنيسة تدخل في عهدها الجديد عهد مسرة الآب، عهد الحب الأبدي الذي لن يُنزع منها إلى طول الأيام.
كان ينبغي أن يفرح المسيح بذلك لأن هذه كانت طلبته التي سبق أن قدمها إلى أبيه، بإلحاح، متوسلًا أن يكون فيهم الحب الذي أحببتني به
! [6]. هذه هي مسحة الآب التي سكبها، حسب طلب المسيح وإكرامًا لحبه، على الكنيسة المجتمعة بنفس واحدة يوم الخمسين، والتي لا زالت مجتمعة وجامعة حتى هذا اليوم تحت يد الآب، لقبول هذه المسحة عينها، مسحة الابتهاج، مسحة الحب الأبوي بالروح القدس على مثال مسحة الابن “المتجسد” على نهر الأردن، عندما تقبَّل الروح النازل عليه بصوت الآب قائلًا: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت
!!
يا أحبائي، التساوي هنا بين حب الآب لابنه وحبه للإنسان الجديد، الممثَّل في كنيسة الرسل المجتمعة في العلية، أمر يفوق العقل! لأن الحب الذي ينسكب بالروح القدس من الآب في الابن صار بنفس الصورة والمثال ينسكب أيضًا، وبالروح القدس، من الآب في البشرية الجديدة، على كل من يقبل الفداء والتبني في المسيح!: ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به
.
شركة حياة جوهرها حب في الآب وفي الابن بالروح القدس:
وقد سبق وقلت إن الروح المنسكب من الآب بمسحة الحب هو في حقيقته حياة في الآب! الروح هنا يضم البشرية إلى شركة مع الآب، شركة حب وحياة أبدية معًا، لأن حب الآب هو الحياة، والحياة في شركة الآب هي منتهى الحب!
المسيح كان يرى هذا اليوم العجيب يوم أن تحيا الكنيسة بحب الآب! فكانت ترتاح نفسه إلى مصير قطيعه الصغير؛ وهكذا كان يطمئنهم عندما خيَّم عليهم ظل الصليب بأحزانه المبكرة إذ قال لهم: لأني أنا حيٌّ فأنتم ستحيون
[7]. أما هذه الحياة فكان قد سبق وشرح لهم مصدرها بوضوح بقوله: أنا حي بالآب
[8]. وهكذا ينجلي المعنى في الآيتين معًا هكذا: لأني أنا حي بالآب، فأنتم ستحيون معي بالآب
، هذه هي شركة الحياة مع الآب والابن بالروح القدس، التي رآها وعاشها وفرح بها التلاميذ، وسجلها يوحنا الرسول بعد ذلك، وعلمنا أنها هي هي ذات الشركة القائمة والمعروضة علينا الآن:
فإن الحياة أُظهرت، وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا. الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به، لكي يكون لكم أيضًا شركة معنا. وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح. ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملًا.(رسالة يوحنا الأولى ١: ٢-٤)
التلذذ بهذه الشركة يحتاج إلى إضرام مواهب الروح كالنفخ في النار:
ونحن، كرهبان، يا أحبائي، لا نستطيع أن نعبر على هذا الكلام دون أن نحس في أعماقنا بهذه الشركة، شركة الحب والحياة مع الآب ومع الابن بالروح القدس الذي انسكب يوم الخمسين، واستوطن الكنيسة وسكن هياكلنا بوداعة وسكينة واتضاع مذهل.
صحيح، يا أحبائي، أن روح يوم الخمسين كان محسوسًا ومنظورًا كألسنة نارية، ولكن الروح لم يبرد ولم ينطفئ، فناره مخفية للقلوب التي تعرف أن تضرمه بالصلاة، وتلهبه بالاتضاع والحب. نار الروح القدس حية، تحتاج فقط لمن ينفخ فيها، هي لا يمكن أن تموت، بل تنتظر زيت النعمة لتشتعل بها المواهب وتتزكى المسحة. فطوبى لمن يجمع كل يوم ولو قطرة زيت واحدة، لأنه سيرى بعينيه كيف يشتعل الروح وتفوح رائحة المسيح الزكية. زيتنا، يا إخوة، نجمعه كما تجمع النحلة النشيطة العسل من رحيق الزهور بالسهر، بالخدمة، بالبذل، بالمسكنة الصادقة، بالفقر الحلو، بالصوم المبهج، بالصلاة التي لا تنقطع، بتكريم كل إنسان، بالشكر على كل حال، بلسان يبارك على كل اسم. فالزهور كثيرة في بستان الرهبان والرحيق مختبئ لا تكتشفه إلا النحلة الذكية.
أما الروح القدس فهو بحسب طبيعته، وديع وهادئ لا يسمع أحد صوته ولم تُرى هيئته قط، إلا للذين اجتمعوا بنفس واحدة في أُلفة المحبة يطلبون موعد الآب، أو بالحري فتحوا قلوبهم وفغروا أفواههم ورفعوا عيونهم إلى فوق حيث المسيح جالس، يطالبون بحق البنين و يترجُّون وجه الآب. لهؤلاء يظهر الروح كنور يملأ البصيرة ونار تملأ القلب حتى يفيض كل لسان بتمجيد الله. الشبان يرون بالرؤيا “نور العالم”، والشيوخ يتحققونه بالأحلام.
الشركة مع الرسل في مواهب وبركات يوم الخمسين لم تنقطع قط من الكنيسة:
ولكن لا ننسى أبدًا أيها الأحباء أن بحلول الروح يوم الخمسين، الذي لا يزال مخيمًا على الكنيسة منذ ذلك اليوم، ولا يزال يملأنا حياة ونورًا وحبًا، قد صار لنا به نصيب مع القديسين لا ينقطع، لأنه روح شركة صادقة حقيقية ممتدة من الرسل أنفسهم منذ ذلك اليوم بلا انقطاع، حيث لا يعوزنا إلا أن نتمسك بهذا الروح حسب الوعد لأنه روح الموعد القدوس الحي على الدوام، نمسكه بقلوبنا ولا نرخيه قط، نستنشقه بأرواحنا ونتودد إليه بكل مشاعرنا حتى ندرك كمال نصيبنا فيه مع القديسين ومع المسيح نفسه، كما يقول بولس الرسول: شاكرين الآب الذي أهَّلنا لشركة ميراث القديسين في النور الذي أنقذنا من سلطان الظلمة ونقلنا إلى ملكوت ابن محبته
[9].
هذا كله، يا أحبائي، هو منتهى طلب المسيح الذي قدمه للآب بإلحاح ورجاء أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا
[10].
نفخة المسيح بعد القيامة وحلول الروح القدس يوم الخمسين:
وقد بلغني، أيها الأحباء، أن بعضًا منكم يسأل عن علاقة نفخة المسيح للروح القدس في تلاميذه بعد القيامة مباشرة وحلول الروح القدس يوم الخمسين، باعتبار أني تكلمت سابقًا عن كل منهما بالنسبة للخليقة الجديدة وميلاد الإنسان الجديد [11].
وقد رجعت إلى القديس أثناسيوس [12] في هذا الأمر فوجدته يقول هكذا:
وإذ نفخ في وجه “التلاميذ” أعطاهم الروح القدس من عنده، وبهذه الكيفية سكبه الآب “على كل بشر” كما هو مكتوب.(أثناسيوس الرسولي، رسائل أثناسيوس عن الروح القدس، ص ٩٦)
و يعني بذلك أن المسيح أعطاه للتلاميذ والآب أعطاه لكل بشر، أي أن الآب أكمل عمل الابن على نفس المستوى أو “بهذه الكيفية“.
ورجعت أيضًا إلى القديس غريغوريوس الثيئولوغوس [13] فوجدته يقول هكذا:
إن التلاميذ تقبَّلوا الروح القدس على ثلاث مراحل، بقدر ما استطاعوا، وفي ثلاث مناسبات: قبل أن يتمجد المسيح بالآلام [أي بالصليب]، وبعد أن تمجد بقيامته، و بعد صعوده أي عودته إلى السماء.
في المناسبة الأولى استُعلن الروح بشفاء المرضى وطرد الأرواح النجسة التي لا يمكن أن تتم بدون الروح القدس، وهكذا النفخة التي نفخها فيهم بعد القيامة تُظهر بوضوح أنها إلهام إلهي، وهكذا أيضًا توزيع الألسنة النارية التي نعيَّد لها اليوم.
في المناسبة الأولى استُعلن الروح بغير وضوح، وفي الثانية بوضوح أكثر، أما هذه [يوم الخمسين] فبكمال أكثر إذ فيها لم يعد وجوده بالقوة [أو بالفعل] بل نستطيع أن نقول أنه بجوهره [أو بأقنومه] يشترك معنا ويسكن فينا.(غريغوريوس الثيئولوغوس، عظة على يوم الخمسين N.&P.N.F., vol. VII, p. 383)
ومن كلام القديس غريغوريوس الثيؤلوغوس نفهم أن عمل الروح القدس بنفخة المسيح بعد القيامة كان فعلًا إلهيًا، لم يحدده القديس غريغوريوس. أما حلوله يوم الخمسين فكان تواجدًا ذاتيًا، وأيضًا لم يحدد القديس غريغوريوس نوع عمله.
ولكن يبدو لنا أن العلاقة بين نفخة المسيح للروح القدس بعد القيامة وحلول الروح القدس يوم الخمسين هي علاقة وطيدة للغاية ومكملة بعضها لبعض. فعمل الابن الذي أكمله بالتجسد والفداء، ينتهي عند الخليقة الجديدة التي ولدها ثانية لرجاء حي بقيامة يسوع المسيح من الأموات
[14] على صورته نافخًا فيها من روحه القدوس لتحيا، بصفته الابن الخالق، وآدم الثاني الروح المحيي!! ولكن إذ يلزم تكميل هذه الخلقة بعمل الآب، أمر المسيح تلاميذه، حتى وبعد هذه النفخة، أن لا يبرحوا من مكانهم بل أن ينتظروا أيضًا “موعد الآب”. أي أنه بعد أن أكمل التلاميذ “موعد الابن” انتظروا حتى يكملوا “موعد الآب“:
+ حيث “موعد الابن” هو في حقيقته شركة مع المسيح بالروح القدس، فالمسيح نفخ فيهم الروح القدس بعد القيامة، لتكون لهم شركة كاملة في موته وقيامته كخليقة جديدة، إذ يستحيل أن يحصل التلاميذ على شركة مع المسيح بدون الروح القدس.
+ وحيث “موعد الآب” هو أيضًا شركة مع الآب بالروح القدس بقبول التبني.
لذلك نرى أن نفخة المسيح –إبن الله– التي نفخها في تلاميذه بعد قيامته بالروح القدس، ثم حلول الروح القدس من عند الآب كمسحة يوم الخمسين، يكملان معًا عملًا واحدًا في الإنسان مع أنها فعلان سرِّيان، كل منها قائم بذاته، كالمعمودية والمسحة. فكل منها سر لفعل الروح القدس ولكنهما معًا يكملان عملًا واحدًا لخلقة الإنسان الجديد بالروح القدس باسم الآب والابن والروح القدس!!! هو سيعمدكم بالروح القدس ونار
[15].
هذان الفعلان اللذان أكملهما كل من الابن بنفخة الروح القدس بعد القيامة، والآب بإرسال موعده القدوس للتلاميذ في يوم الخمسين، نتقبلهما نحن الآن معًا بالمعمودية والمسحة باسم الآب والابن والروح القدس، لقبول نفس ما قبله التلاميذ بعد القيامة وفي يوم الخمسين، أي الميلاد الجديد لخليقة جديدة، ككنيسة حية، كجسم المسيح.
لماذا ارتباط عطية يوم الخمسين بصعود المسيح؟
ومعلوم من قول الرب أن إرسال “موعد الآب” أي الروح القدس، يوم الخمسين، حاملًا مسحة الآب بالحب والتبني في شركة حياة أبدية معه، كان رهن عودة الابن إلى الآب، حاملًا في ذاته كمال إرساليته: أي بشرية جديدة مفدية ومكمَّلة، واضعًا إياها موضع المصالحة مع الآب بجلوسه الكريم المكرم الذي أجلسه لنا عن يمين العظمة في الأعالي.
فإذ أكمل الابن إرساليته هكذا محققًا كل مشيئة الآب من نحونا، وإذ لم يعد يتبقى أي عائق يمنعنا عن الحياة مع الآب بلا لوم، حصل لنا المسيح بالتالي على موعد الآب ب توسط جلوسه عن يمين الآب، شفيعًا إلى الأبد للبشرية المتغربة على الأرض. وفي هذا يقول بطرس الرسول في يوم الخمسين: وإذ ارتفع بيمين الله وأخذ موعد الروح القدس من الآب، سكب هذا الذي أنتم الآن تبصرونه وتسمعونه
[16].
لماذا المسيح باكورة ثم الذين للمسيح وهكذا سيحيا الجميع؟
من قول بولس الرسول: لأنه كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح سيحيا الجميع… المسيح باكورة ثم الذين للمسيح في مجيئه
[17]، ندرك أن الشركة التي حصل عليها المسيح لنا مع الآب في جسم بشريته (بتجسده)، عندما أكملها بالجلوس عن يمين الآب، كانت هي العربون، أو الباكورة، أو النموذج الكامل، الذي تقرر في تدبير المسيح أن تقوم عليه شركة حياة البشرية كلها مع الآب والابن بالروح القدس.
لذلك لم يتوقف المسيح عن عمله بعد ما صعد وجلس عن يمين العظمة في الأعالي، لأنه لم يكن ممكنًا أن يرتاح المسيح في ذاته “أو يكمل فرحه“، إلا بكمال تدبيره، عندما يرى البشرية قد نالت في ذاتها شركة مع الآب، وعلاقة أبدية وحبًا، وتبنيًا، يساوي ما حصل عليه لنا في جسم بشريته! هذا كان موضع طلبة خاصة وتوسل من المسيح لدى الآب قبل الصليب هكذا: أما الآن فإني آتي إليك وأتكلم بهذا في العالم ليكون لهم ,,فرحي كاملًا،، فيهم
[18].
البشرية خلعت ثوب تيتُّمها يوم الخمسين وقبلت سر الآب:
لقد شعر المسيح، عند اقتراب الساعة، أن البشرية أصبحت محتاجة أشد الاحتياج إلى روح أبوة الآب، حتى لا يعيش الإنسان بعد يتيمًا بإحساس من لا أب له.
واستطاع المسيح أن يملأ هذا الإحساس بالنسبة للتلاميذ، باعتباره الابن النازل من السماء من حضن الآب حاملًا صورة الآب وحنانه، وها هو يتركهم، فكيف يعيشون بعده بدون حنان أبوة الله ورعايته؟ لذلك وعد تلاميذه أنه بمجرد صعوده سيطلب من الآب أن يرسل لهم الباراكليت، روح التعزية، من الآب، حاملًا للبشرية كلها أحشاء تحننات الأبوة كشركة حياة تدوم إلى الأبد مع الله الآب!! لذلك قال لتلاميذه: لن أترككم يتامى!!
[19].
إن روح يوم الخمسين هو حقيقة روح حنان الأبوة لعزاء الإنسان كي يعيش كابن في بيت الله إلى الأبد.
لقد أدخلنا الآب يوم الخمسين في شركة معه هي -علي درجة ما- مما هو موجود وحاصل بينه وبين ابنه الحبيب! لدرجة أن الروح القدس أصبح عليه أن ينقل لنا حديث الآب القدوس الخاص مع ابنه، حديث الحب الإلهي الخالص، متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم… يأخذ مما لي ويخبركم، كل ما للآب هو لي
[20]. وهكذا أدخلنا الروح القدس في سر شركة الآب مع الابن!
أليس هذا أيها الأحباء ما استطاع بولس الرسول أن يدركه و يشرحه قائلًا: إن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله
، ثم ما لم تر عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر ما أعده الله للذين يحبونه، فأعلنه الله لنا نحن بروحه
، ثم ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله
[21].
جلوس المسيح عن يمين الآب هو بحد ذاته توسط دائم لتكميل ملء البشرية:
هذا هو الروح القدس الذي سكبه الآب يوم الخمسين، حسب وعده القدوس،ليعرَّفنا بما لم يخطر على قلب بشر، ولينقل لنا سر الآب مع ابنه، و يلقِّنَّا الحب الأبوي، ردًا على الخضوع والطاعة التي أظهرها الابن من نحو الآب في الصليب والآلام حتى الموت!… ثم ليهب لنا كل بركات أسرار الشركة التي بين الآب والابن، تمامًا كما استطاع الابن بصعوده بجسم بشر يتنا أن يجلسنا معه في السماويات عن يمين الآب!!!
لأنه كما أجلس المسيح البشرية في ذاته عن يمين الآب مرة، بصعوده وجلوسه عن يمين الآب، هكذا توسط المسيح لدى الآب أن يرسل الروح القدس يوم الخمسين ليكمل على الدوام وحتى النهاية شركة الإنسان مع الآب على مستوى البنين.
وبولس الرسول يكشف لنا الصلة الجوهرية بين صعود المسيح وجلوسه عن يمين الآب، وبين تكميل ملء البشرية بالروح القدس، للدخول في نفس الشركة التي أكملها المسيح في السماء إذ يقول: صعد أيضًا فوق السموات لكي يملأ الكل
[22]. وإن كلمة “لكي” توضح أن صعود المسيح كان بداية وعلة أساسية وسببًا جوهريًا مستمرًا لاكتمال ملء البشرية في الشركة مع الله! وهذا توضحه أيضًا الآية التي سبق أن قلناها دخل كسابق من أجلنا
[23].
لذلك، يا أحبائي، لم أستطع أن أكتب لكم عن الصعود دون أن أكتب لكم عن يوم الخمسين، فالصلة بينهما وثيقة وجوهرية في تدبير الخلاص الذي لا يزال المسيح يكمله لنا بتوسط جلوسه عن يمين العظمة في الأعالي!… حتى إلى الملء الكلي!
لذلك أيضًا أنبه ذهنكم إلى نصيبنا المبارك في المسيح الجالس فوق، حتى لا نكفّ عن التطلع إليه بشخوص القلب، بنداء الحب، لأن سيرتنا الحقيقية أيها الأحباء هي في السموات التي ننتظر منها المخلص [24] !… وحينما نكثر التطلع إلى فوق حيث الذبيحة قائمة، تتحرك أحشاء الآب نحونا ليضرم روحه القدوس فينا، ليكمل عمله فينا حتى إلى ملء قامة بشرية المسيح الجالس في حضنه الأبوي.
حلول الروح القدس يوم الخمسين موعد الآببقلم الأب متى المسكين، نُشر أوّل ما نُشر في كتابالروح القدس الرب المحيي، بمناسبة عيد الخمسين ١٩٧٣، الصفحات من ٦٦٧ إلى ٦٧٨
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
اطرح عنك ذاتك التي تمنعك من الانطلاق في حرية أولاد الله