أكثر شخصية كنسية مثيرة للجدل في عصرنا الحالي هو الأب ، كثيرين نادوا بنفس الأفكار واستخدموا نفس المصطلحات لكن لم يصلوا لنفس الدرجة، فمَا السر؟

متى المسكين لم يكن فقط عالم ومعمر وقائد وراهب وأب روحي لبضعة رهبان لكنه كان أيضًا رمز، أصبح قائدًا للمرذولين والمبعدين والمتعدى على أبسط حقوقهم، وهي التعبير والاستفسار والنقد.

لم يكن هدفه أن يقود حركة ثورية معاكسة داخل الكنيسة، لأنه لو كان هذا هدفه لكان اشتبك فكريًا مع الفكر المضاد ولعمق فكرة أسلوبه وثقافته لكان ربح، لكنه فضل أن يرتقي ويترفع عن المشاحنات الفكرية.

إذن كيف أصبح متى المسكين قائدًا ثوريًا؟ كيف أصبح أب لملايين والكثير منهم لم يقرئوا ولو حتى كتيبًا كاملًا من كتبه؟

الحقيقة إن أعدائه هم أكبر سبب لنجاحه عندما ظنوا أنهم بسهولة يمكنهم إبعاده عن المشهد مستغلين تأثيرهم على العامة، لكن هيهات، فهذا الاضطهاد في حد ذاته أصبح مرآه لكثيرين رأوا فيها واقعهم وسبل التعامل معه.

كل من أُجبر على الانبطاح لسوء استخدام سلطة الكهنوت، وجد فيه الثائر الذي لا يبالي ويمشي سائرًا في الدفاع عن مبادئه، حتى أن تعرضت حياته للخطر. كل من تخبط في خدمه هدفها لا يطابق مثالية الخدمة الكنسية، وواجه نفاق وازدواجية الحياة الكنسية، هرع له ليجد فيه من لا يتنازل ولا يساوم على مبادئه.

كل من طُلب منه أن يترك عقله وثقافته والأنترنت الخاص به خارج بوابة الكنيسة تحت ادعاء أن الفلسفة ليس مكانها الكنيسة، وجد فيه من يشتبك مع كل الأفكار أيًا كانت طباعها بأريحية ويبارز علماء اللاهوت الغربيين على أرضهم ويخرج منتصرًا، أو على الأقل ينتزع منهم احترامًا كعالم مساوٍ لهم.

كل من فقد طريقه ووجد نفسه في دوامة الحياة لا يعلم من أين أتى وجد الجزور الآبائية للحياة الأرثوذكسية في هذا الأب الذي اختطف القرون الخمسة الأولى إلى القرن العشرين غصبًا وطوعها وأحياها في سياق جاد ينافس ما بعد الحداثة.

كل من تعب من الهجايص  الدونكيشوتية والشعارات والتصفيق، وجد فيه من جاوب سؤال وماذا بعد؟ بعد الشعارات كي نعود للحياة الشاقة؟ كيف نجد معنى؟ كل من تعب من ركاكة التعبير اللاهوتي والاستسلام لفكرة “حط رأسك في ضهر إلى قدامك” وجد فيه من أحيا التقليد وجعله لخدمة الإنسان.

كل من بحث عن معنى لنفسه وسط زحمة التبكيت والتحقير ولم يجده، و لكن في طيات كتابات متى المسكين كان الجواب من الارتقاء بالإنسان في تحدٍ سافر للفكر السائد.

متى المسكين لم يكن المسيح الثائر الذي يطوق إليه جميع الأقباط، ولكن لن ينتظروا آخر لأن المنظومة بعنادها ورفضها التعامل الفكري الموضوعة معه جعلته مصدر إلهام لكثيرين وجعلته شهيد القلم بغير سفك دَم.

بسذاجة منعوا كتبه فزاد الإقبال عليها، أخرجوها من المكتبات فأصبحت على كل موبايل وجهاز كمبيوتر. شتمه الأساقفة فمدحه الأكاديميين، وأصبح من أهم المفكرين المسيحيين في كتاب صمويل روبنسون، والمنتديات على الأنترنت، تجاهلته المحافل الكنسية فأصبح موضوع المؤتمرات العالمية ومواقع التواصل. خرجت ضده الكتب فدخل هو وبقوة كل حوار لاهوتي في الكنيسة.

متى المسكين لم يكن هدفه تكوين جيش من التابعين ولكن كثيرين يحجون لتلك المقبرة المجهولة وسط الصحراء المالحة حيث يلتقي التراث بالحداثة في قلعة بلا أسوار تقف شامخة تدافع عن المسيحي المبعد من المعبد.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

متى المسكين.. الفكرة والرمز 1
أستاذ مساعد في Norwich Medical College, UK  [ + مقالات ]

باحث في نظم التعليم الأرثوذكسي