المسيح في قيامته وصعوده
وكهنوته السماوي من أجلنا

في لاهوت القديسين
أثناسيوس الرسولي وكيرلس الكبير

مقدمة: اللاهوت الخلاصي:

لقد اصطبغ علم اللاهوت عند آباء الكنيسة الأولين، وعلى الأخص آباء الإسكندرية، بالاتجاه الخلاصي في دراسة اللاهوت، ومضمونه أن كل ما فعله المسيح إنما يختص بخلاصنا أولًا وأخيرًا، وأن ليس لنا أن نبحث عن أي شيء في علم اللاهوت من أجل المعرفة النظرية المجردة بل لنستفيد به من أجل خلاصنا.

فإن كان القديس قد تحمس للدفاع عن مساواة الابن للآب في الجوهر، وإن كان القديس كيرلس قد انبرى للدفاع عن الاتحاد الأقنومي أي وحدة كيان المسيح البشرى الإلهي؛ فإن سر حماسهما في الدفاع عن ذلك هو رؤيتهما الواضحة للعلاقة الصميمية بين هذه الحقائق اللاهوتية وخلاصنا نحن.

وهكذا نراهما دائمًا في كلامهما عن سر الثالوث أو عن تجسد المسيح وميلاده ومعموديته وصومه وآلامه وموته وقيامته وصعوده وكهنوته السماوي، نراهما يعودان باستمرار إلى ربط هذه الحقائق بخلاصنا نحن وبالمنفعة الروحية التي عادت علينا من كل ما فعله المسيح من أجلنا.

وسنكتفي في هذا المقال بتقديم أقوالهما عن قيامة المسيح من أجلنا على أن نقدم في العدد القادم إن شاء الله أقوالهما عن صعود المسيح من أجلنا وجلوسه عن يمين الآب من أجلنا ككاهن سماوي أبدي…

 

أولًا – قيامة المسيح من أجلنا

[١] في لاهوت القديس أثناسيوس:

إن القيامة في لاهوت القديس أثناسيوس تحقق غاية التجسد كله: فالمسيح تجسد أصلًا لكي يعيد طبيعة الإنسان إلى عدم الفساد بالقيامة من الأموات. فمن المفاهيم الأساسية في فكر القديس أثناسيوس مفهوم الفساد φθόρα، وعدم الفساد ἀφθαρσία، والفساد من طبيعة جميع المخلوقات، وعدم الفساد من طبيعة الله وحده. فكل ما هو مخلوق من العدم فاسد بطبعه أي عنده ميل طبيعي للعودة تدريجيًا إلى العدم الذي جُذب منه [1].

وإن كان قد نال في الفردوس -قبل أن يخطئ- شيئًا من عدم الفساد الذي من طبيعة الله، فلم يكن ذلك إلا بفضل شركته في الكلمة [2] اللوغوس المحيي غير الفاسد بطبعه. فلما أخطأ آدم وفصل نفسه بإرادته عن هذه الشركة الحية، للوقت عاد إلى طبيعته الأصلية التي هي الفساد [3]، ولم يكن سبيلٌ لتجديده وإعادته إلى عدم الفساد إلا بأن يأتي اللوغوس نفسه، الذي له وحده عدم الفساد، ويتحد بجسد الإنسان الفاسد ويظهر فيه عدم الفساد بالقيامة من الأموات [4]. لذلك فقيامة المسيح حققت الغاية من تجسده، لأن قيامتنا التي نبعت من قيامته كانت هي السبب الأول الذي من أجله تأنس المخلص [5].

لقد كان الرب مهتمًا بصفة خاصة بقيامة جسده التي كان معتزمًا أن يكملها. لأنه كان يريد أن يقدمها كدليل على غلبته على الموت، وليؤكد للجميع أنه أزال كل أثر للفساد، وأنه بالتالي أعطى أجسادهم عدم الفساد من ذلك الحين. ولهذا حفظ جسده غیر فاسد كضمان وبرهان على القيامة التي تنتظر الجميع.

(أثناسيوس  الرسولي، ٢٢ : ٤)

والقيامة هي النتيجة الحتمية للتجسد الإلهي، لأنه إذا كان الجسد المائت بطبعه قد صار جسدًا لمن هو “الحياة”، تكون النتيجة الحتمية لذلك أن يقوم الجسد إلى عدم موت بفعل الحياة التي اتحد بها:

كان لائقًا جدًا أن يلبس المخلص جسدًا حتى إذا ما اتحد الجسد “بالحياة” لا يبقى في الموت كمائت، بل يقوم إلى عدم موت إذ لبس عدم الموت. وما دام قد لبس الفساد سابقًا، لم يكن ممكنًا أن يقوم ثانيةً ما لم يكن قد لبس الحياة.

(أثناسيوس  الرسولي، تجسد الكلمة ٤٤ : ٦)

ولكي نتعمق في فكر القديس أثناسيوس بخصوص قيامة الرب وأثرها فينا، ينبغي أن نعرف أن “عدم الفساد” الذي قصد الرب أن يعيده إلينا بفعل قيامته إنما يشمل مفهومين:

* عدم الفساد الجسدي: أي الغلبة على الموت.
* عدم الفساد الخلقي: أي الغلبة على الخطية.

وابتداءً من هنا تصير كلمات القديس أثناسيوس بخصوص القيامة عملية للغاية. فهو سيبيِّن لنا إلى أي مدى تؤثر قيامة الرب في صميم أخلاق المؤمنين به حتى أنهم يصيرون لا يهابون الموت، بل يُقبلون عليه بلا خوف بعد أن كانوا يرتعبون منه، فيصيرون بذلك شهودًا لقيامة الرب وغلبته على الموت، ثم إلى أي مدى تتغير حياتهم السلوكية من الانحلال الخلقي إلى الطهارة والقداسة بفعل نعمة الحياة الجديدة التي انتقلت إليهم من قيامة الرب.

نتائج القيامة فينا:
أ. عدم الخوف من الموت:

يقول ال إن غاية المسيح من تجسده واشتراكه في اللحم والدم هي لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت ويعتق أولئك الذين خوفًا من الموت كانوا كل حياتهم تحت العبودية. [6]. والقديس أثناسيوس يسلك في نفس الخط الفكري. فقد وجدناه يقول إن غاية التجسد هي أن يبطل المسيح بموته الفساد والموت ويجعلنا بقيامته نلبس عدم الفساد وعدم الموت [7]. والدليل على أن المسيح قد نجح في ذلك هو أن كل من يؤمن بالمسيح إيمانًا صادقًا ينال منه قوة لاحتقار الموت وللتغلب على الفساد.

فإن كان كل تلاميذ المسيح يحتقرون الموت ويتحدونه ولا يعودون بعد يخشونه بل بعلامة الصليب والإيمان بالمسيح يدوسونه كميت، كان هذا برهانًا غير يسير بل بالحري بيَّنة واضحة على أن الموت قد أُبيد، وأن الصليب صار النصرة عليه وأنه لم يعد له سلطان بل مات موتًا حقيقيًا.

فقديمًا، قبل الظهور الإلهي للمخلص، كان الموت مرعبًا حتى للقديسين، وكان الكل ينوحون على الأموات كأنهم هلكوا. أما الآن، وقد أقام المخلص جسده، فلم يعد الموت مرعبًا بعد، لأن كل الذين يؤمنون بالمسيح يدوسونه كأنه لا شيء ويفضِّلون أن يموتوا عن أن ينكروا إيمانهم بالمسيح. لأنهم يعلمون يقينًا أنهم عندما يموتون لا يهلكون بل يبدأون الحياة فعلًا ويصبحون عديمي الفساد بفضل القيامة. أما ذلك الذي بخبثه فرح بالموت قديمًا، فإنه الآن إذ انحلت أوجاعه قد بقى هو الوحيد الميت موتًا حقيقيًا، والدليل على ذلك أن البشر قبل أن يؤمنوا بالمسيح يرون الموت مفزعًا ومرعبًا ويجبنون أمامه. ولكنهم عندما ينتقلون إلى إيمان المسيح وتعاليمه فإنهم يحتقرون الموت احتقارًا عظيمًا لدرجة أنهم يسارعون إليه ويصيرون شهودًا للقيامة التي انتصر بها المخلص عليه، وبينما تراهم لا يزالون في عنفوان الشباب إذا بهم يسارعون إلى الموت، لا الرجال فقط بل النساء أيضًا، ويمرنون أنفسهم للجهاد ضده. وقد وصل الضعف بالشيطان حتى أن النساء أنفسهن اللواتي قد خُدعن قديمًا يهزأن به الآن كميت ومنحل القوى. فكما أنه عندما يُغلب الظالم أمام ملك حقيقي وتوثق يداه ورجلاه يصبح هزأة لدى كل من يمر به ويُحتقر ويزدرى به ولا يعود أحد يخشى غضبه أو وحشيته بسبب الملك الذي ظفر به، كذلك الموت أيضًا إذ قهره المخلص وشهر به على الصليب وأوثق يديه ورجليه، فإن كل الذين في المسيح يدوسونه إذ يمرون به، ويهزأون به شاهدين للمسيح ويسخرون منه مرددين ما قيل عنه في القديم أين غلبتك يا موت، أين شوكتك يا هاوية(۱ کو ۱٥: ٥٥)

(أثناسيوس  الرسولي، تجسد الكلمة ٢٧ كله)

 

فإن كان الشبان والشابات في المسيح يحتقرون هذه الحياة ويرحبون بالموت، فهل هذا برهان هيَّن على ضعف الموت؟ أم هذا إيضاح ضئيل للنصرة التي نالها المخلص عليه؟ فالإنسان بطبيعته يرهب الموت ويفزع من انحلال الجسد. ولكن المدهش جدًا أن من يتقلد الإيمان بالصليب والقيامة يحتقر ما هو مفزع بالطبيعة، ولا يرهب الموت بسبب المسيح.

(أثناسيوس  الرسولي، تجسد الكلمة ٢٨ :  ١-٢)

 

لأنه عندما يرى المرء أن البشر الضعفاء بطبيعتهم يصارعون الموت ويتهافتون عليه دون أن يخشوا عوامله المفسدة أو أن ينزعجون من النزول إلى الهاوية، بل يتحدونه بحماس دون أن يجزعوا من التعذيب، بل بالعكس يصارعون الموت مفضلينه على الحياة على الأرض.

فمن هو ذلك الغبي المتشكك أو عديم العقل الذي لا يرى ولا يدرك أن المسيح الذي يشهد له البشر هو الذي يعضدهم بنفسه، ويهب لكل واحد النصرة على الموت، ملاشيًا كل قواته في كل من يتمسك بإيمانه ويحمل علامة الصليب.

(أثناسيوس  الرسولي، تجسد الكلمة ٢٩ :  ٤)

إذن فهذا التعضيد السرى الذي يناله المؤمنون من الرب هو أعظم دليل على أنه حيّ وفعال الآن، وبالتالي فهو أعظم برهان على صحة قيامته:

إذن فما قررناه إلى الآن ليس برهانًا هينًا على أن الموت قد أُبطل… وهكذا نرى أن قيامة الجسد إلى عدم الموت التي حققها المسيح مخلِّص الجميع وحياة الجميع، يكون إثباتها بالوقائع أكثر وضوحاً من إثباتها بالحجج والبراهين.

(أثناسيوس  الرسولي، تجسد الكلمة ٣٠ : ١)

والحقيقة أن القديس أثناسيوس يدعونا بهذا القول إلى وقفة لنراجع نفوسنا. لأنه إذا كان الكثيرون قد بدأوا يشكون اليوم (وعلى الأخص من علماء اللاهوت المحدثين) في حقيقة قيامة الرب. أليس السبب في ذلك هو ضعف حياتنا المسيحية؟ فالقديس أثناسيوس يقول بكل وضوح أن قيامة الرب يتأتى إثباتها الأقوى “بالوقائع أكثر من الحجج والبراهين” أي من واقع حياة المسيحيين وسلوكهم حينما تظهر فيهم إشراقة الحياة الجديدة التي أظهرها المسيح بقيامته من الأموات.

فالشهادة لقيامة المسيح تكون بالسلوك في هذه الحياة الجديدة التي يدعوها الإنجيل الولادة من فوق [8] أو الولادة الثانية؛ مبارك الله الذي ولدنا ثانية بقيامة يسوع المسيح من الأموات [9]، وهذا ينقلنا إلى تقديم أقوال القديس أثناسيوس بخصوص النتيجة الثانية لقيامة الرب فينا:

ب. التغلب على الخطية:

أي السلوك على مستوى الحياة الجديدة التي أظهرها الرب بقيامته:
يعود القديس أثناسيوس عدة مرات إلى تأكيد هذه الحقيقة الأساسية وهي أن حياة المسيحيين الفائقة الطبيعة هي أوضح برهان وشهادة على قيامة الرب ولاهوته:

على أن هذه البراهين التي قدمناها [على قيامة المخلَّص ولاهوته] لا تستند إلى مجرد حجج كلامية ولكن هنالك اختبارات عملية تشهد لصحتها: فليذهب من أراد ويعاين دليل العفة في عذارى المسيح، والشبان الذين يعيشون حياة العفة المقدسة أو دليل الثقة في الخلود في ذلك العدد الجم من شهدائه.

(أثناسيوس  الرسولي، تجسد الكلمة ٤٨ :  ١-٢)

 

لأنه إن كان الإنسان الميت تبطل قواه وينتهى نفوذه وسلطانه عند القبر، وإن كانت القدرة على العمل والتأثير على الآخرين لا تخص إلا الأحياء، فلينظر كل من أراد وليحكم شاهدًا للحق مما يبدو أمام عينيه: لأنه إن كان المخلص يعمل الآن أعمالًا عظيمة كهذه بين البشر ولا يزال كل يوم بكيفية غير منظورة يقنع الجماهير العديدة من كل ناحية، سواء من سكان اليونان أو البلاد الغربية، ليقبلوا إلى إيمانه ويطيع الجميع تعاليمه، فهل لا يزال يوجد من يتطرق الشك إلى عقله أن القيامة قد أتمها المخلِّص أو أن المسيح حي أو بالحري أنه هو نفسه الحياة؟ وهل يُتاح لشخص ميت أن ينخس ضمائر البشر فيا ضد نواميسهم الموروثة ويخضعوا لتعاليم المسيح؟ وإن كان المسيح لم يعد بعد فاعلًا متحركًا بل له خواص الأموات فهل يستطيع أن يصدَّ الأحياء عن حركاتهم وأعمالهم حتى يكف الزاني عن الزنى والقاتل عن القتل والظالم عن الظلم والاغتصاب وحتى يصبح الدنس فيما بعد متدينًا؟ أو كيف يستطيع لو أنه لم يقم بل لا زال ميتًا – أن يطرد ويطارد ويحطم تلك الآلهة الكاذبة التي يدَّعى الملحدون أنها حية والأرواح الخبيثة التي يعبدونها؟

(أثناسيوس  الرسولي، تجسد الكلمة ٣٠ :  ۳-٥)

 

فمن ذا الذي بموته طرد الشياطين قط؟ ومن ذا الذي خلّص البشر من شهوات وضعفات الإنسان الطبيعية حتى صار الفجار عفيفين والقتلة لا يحملون السيف فيما بعد والذين تملّكهم الجبن والخوف قديمًا تشجعوا؟ وبالإيجاز من ذا الذي أقنع البشر في البلاد الهمجية وجماعة الوثنيين ليتخلوا عن جنونهم ويعملوا للسلام غير الإيمان بالمسيح وعلامة الصليب؟ أو من ذا الذي أكد للبشر حقيقة الخلود كما فعل صليب المسيح وقيامته بالجسد؟

(أثناسيوس  الرسولي، تجسد الكلمة ٥٠ :  ٤-٥)

فكل هذه الأفعال العظيمة التي يعملها المخلِّص في البشر بقوة قيامته هي دليل قاطع على أنه قائم الآن وحى وفعال. وأما قيامة الرب فهي دليل قاطع على لاهوته. فكما يقول القديس بولس الرسول أن المسيح تعيَّن ابن الله بقوة بالقيامة من الأموات [10]، هكذا يستخلص القديس أثناسيوس أيضًا من قيامة الرب برهان لاهوته [11].

وأخيرًا نستطيع أن نلخص فكر القديس أثناسيوس بخصوص القيامة وكأنه يتساءل:
ما هو أعظم دليل على لاهوت المخلص؟ إنه قيامته…
وما هو أعظم دليل على قيامته؟ إنه حيّ وفعال في حياة المؤمنين، إنه يجعلهم لا يهابون الموت، إنه يعضدهم تعضيدًا سريًا حتى يسلموا نفوسهم للاستشهاد دون أن يجزعوا من التعذيب، إنه يجدد حياتهم ويغيَّر صفاتهم حتى يصير الدنِس فيما بعد متدينًا والقاتل لا يحمل السيف والشبان يعيشون في القداسة والأمم الهمجية تتخلى عن جنونها وتعمل للسلام.

[۲] في لاهوت القديس كيرلس الكبير:

لقد رأينا القديس أثناسيوس يركز اهتمامه الأكبر بخصوص قيامة الرب على إظهار مفاعيل قوة قيامته فينا كدليل على لاهوته، وذلك لأن اهتمامه الأساسي في جميع كتاباته كان أن يثبت لاهوت المسيح تجاه كل من ينكره من الوثنيين والأريوسيين.

أما القديس كيرلس فقد كان اهتمامه الأساسي طوال حياته أن يدافع عن عقيدة الاتحاد الأقنومي، أي وحدة لاهوت المسيح بناسوته. وقد جعله هذا الاهتمام يعتبر باستمرار في جميع مراحل حياة الرب وموته وقيامته وصعوده أنه كان لنا وجود سرى فيه من خلال ناسوته المقدس الذي كان يمثل بنوع ما كل جنس البشرية أو بالحري الذي كان يحملنا جميعًا فيه سرًا [12].

إنه قام حاملًا في نفسه كل طبيعتنا من حيث أنه كان إنسانًا وواحدًا فينا.

(، تفسير يوحنا ٧ : ٣٩)

 

نحن جميعًا كنا في المسيح والشخصية البشرية في عموميتها قامت فيه من جديد.

(كيرلس الكبير، تفسير يوحنا ١ : ١٤)

 

لذلك فالموت لما ابتلع الحمل المبذول من أجل الجميع اضطر أن يتقيأ الجميع معه وفيه. فإننا جميعًا كنا في المسيح الذي من أجلنا وبسببنا مات وقام أيضًا.

(كيرلس الكبير، تفسير يوحنا ١ : ٢٩)

 

إنه يحوى جميع المؤمنين في ذاته، في وحدة روحية، وإلا فكيف كان يمكن لبولس أن يكتب قائلًا أنه أقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات؟

فمنذ أن جعل نفسه مثلنا، صرنا نحن ذوى جسد واحد معه ouoowpot وصار هو يحملنا كلنا في نفسه…

فلما رجع الرب إلى الحياة وقدَّم نفسه لله كباكورة للبشرية حينئذ بكل تأكيد تحولنا نحن أيضًا إلى حياة جديدة.

(كيرلس الكبير، جلافير علي العدد ب. ج. ٦٩ : ٦٢٤-٦٢٥)

 

مع كونه هو الحياة بطبعه فقد مات بالجسد من أجلنا لكي يغلب الموت عنا ويقيم الطبيعة البشرية كلها معه، لأننا جميعًا كنا فيه بسبب أنه صار إنسانًا.

(كيرلس الكبير، تفسير يوحنا ١ : ٣٢-٣٣ [13] )

فالمسيح لم يقم من أجل نفسه هو باعتباره الإله الكلمة الأزلي، بل قام بالجسد من أجلنا نحن الذين كنا محمولين في هذا الجسد أو على الأقل ممثَّلين فيه.

والقديس كيرلس يعود باستمرار إلى تأكيد هذه الحقيقة: أن الرب قام ليقيمنا نحن فيه:

إن المسيح لما استعاد الحياة ناقضًا سلطان الموت لم يكمل قيامته من أجل نفسه هو إذ أنه هو في ذاته الكلمة الإله، ولكن حيث أن طبيعة الإنسان كانت بكاملها في المسيح مقيدة بسلاسل الموت لذلك قام ليمنحنا بركة القيامة من خلال نفسه وفى نفسه.

(كيرلس الكبير، تفسير يوحنا ١٧ : ٢٤)

 

قد عرفتني سُبُل الحياة: هذا القول يعلمنا أن الذي صار مثلنا واقتنى شخصية البشرية το πρόσωπον τῆς ἀνθρωπότητος ینطق بأقوال تناسب حالنا نحن ولا تناسب حاله هو باعتباره إلهًا. ففي حديثه كمن يتكلم عن نفسه باعتباره بدء البشرية الجديدة، هو في الواقع يستدعي علينا نحن شركة الخيرات السماوية. لأنه بقوله أنها أعطيت له هو في الواقع يقدَّمها للطبيعة البشرية. وبهذه الكيفية قد اغتنينا نحن بافتقاره كإنسان.

(كيرلس الكبير، تفسير أعمال الرسل ٢ : ٢٨ )

والقيامة هي غاية التجسد الأساسية [14]:

ولهذه الغاية اقتنى كلمة الله المحيي جسدًا خاصًا له وجعله خاضعًا للموت حتى إذ يظهره غالبًا للموت والفساد يجعل بذلك النعمة تنتقل إلينا نحن أيضًا لأنه كما أننا في آدم قد خضعنا للموت هكذا أيضًا في المسيح تحررنا من طغيانه وتشكلنا من جديد بصورة الخلود.

(كيرلس الكبير، الكتاب الثاني ضد تيودور)

 

فقد لبس جسدنا لكى يقيمه من الموت ويفتح أمام الجسد الذي استسلم للموت طريق العودة إلى عدم الفساد.

(كيرلس الكبير، تفسير لوقا ٢٢ : ١٩)

 

فقد اقتنى لنفسه جسدًا قابلًا للفساد بحسب طبعه الخاص لكي يستطيع بكونه هو نفسه الحياة أن يزرع في الجسد امتيازه الخاص الذي هو الحياة.

(كيرلس الكبير، المسيح واحد ب. ج. ٧٥ : ١٣٥٢)

ومن هذا القول يتضح أن القيامة جاءت كنتيجة مباشرة وحتمية للاتحاد الأقنومي أي للاتحاد الذي تم في المسيح بين جسدنا “الفاسد بحسب طبعه الخاص” وبين اللوغوس “الذي هو نفسه الحياة”. فهذا الاتحاد الفائق أنتج بالضرورة القيامة، لأنه كان لابد من أن يموت هذا الجسد وفقًا لطبعه الخاص، ثم كان لابد أيضًا من أن يقوم من جديد لحياة جديدة لا يسود عليها الموت بعد لأنه كان جسدًا للكلمة الذي هو نفسه الحياة:

فإن الجسد قد خضع لنواميس طبيعته الخاصة وقَبِل مذاقة الموت من أجل التدبير بسماح من اللوغوس المتحد به، غير أنه استعاد الحياة بفعل القوة المحيية التي للوغوس المتحد به أقنوميًا.

(كيرلس الكبير، ضد ٥ : ٦)

وهكذا تظهر القيامة كنتيجة مباشرة للاتحاد الأقنومي، أو يمكن القول أنها كانت قوة مذخرة في المسيح منذ لحظة تجسده بسبب الاتحاد الكامل الذي تم فيه بين العنصر الفاسد بطبعه (أي الجسد) والعنصر الحي والمحيي بطبعه (أي اللوغوس). وهذا هو ما يقرره القديس كيرلس في تفسيره للآية يوحنا ١ : ١٤ والكلمة صار جسدًا إذ يقول أننا نرى في شقّي هذه الآية (أي الجسد والكلمة):

ما [15] قد سقط في الموت والذي أقامه من جديد إلى الحياة،
ما قد وقع تحت الفساد والذي طرد عنه الفساد،
ما قد أمُسك في الموت والذي هو أقوى من الموت،
ما قد حُرم من الحياة والذي هو معطى الحياة!

(كيرلس الكبير، تفسير يوحنا ١ : ٤)

لذلك فنتيجة الاتحاد الأقنومي الأساسية هي أن تنتقل الحياة من اللوغوس إلى الجسد، أي إلينا نحن الذين كنا ممثَّلين في هذا الجسد:

وحيث أن الابن الوحيد كلمة الله الذي هو بطبعه الحياة قد صار جسدًا، لذلك فقد امتلأت طبيعة الإنسان من جديد بالحياة وهكذا صار المسيح متقدمًا لنا في كل شيء، لأنه كما أننا في آدم قد خضعنا للموت هكذا أيضًا في المسيح تحررنا من طغیانه.

(كيرلس الكبير، الكتاب الثاني ضد تيودور)

 

فيه قد عادت طبيعة الإنسان إلى حياة جديدة في التقديس وعدم الفساد بالقيامة من الأموات. وهكذا قد أُبيد الموت إذ لم يحتمل الحياة بطبعه [أي اللوغوس] أن يخضع جسده للفساد لأن المسيح لم يكن ممكنًا أن يمسك من الموت بحسب كلمات بطرس الإلهية. وهكذا انتقلت منه إلينا بركات هذا النصر.

(كيرلس الكبير، المسيح واحد ب. ج. ٧٥ : ١٣٥٣)

 

واحتمل الموت تدبيريًا في جسده الخاص حتى يدوس الموت ويقوم بصفته هو الحياة ومعطى الحياة، فيتمكن بذلك أن يحوَّل إلى عدم فساد ما كان معذبًا تحت سطوة الموت أعني الجسد. وهكذا فاض منه إلينا ما أكمله في نفسه وامتد منه إلى سائر جنسنا.

(كيرلس الكبير، ضد نسطور ٥ : ١)

 

لقد تغير الأموات، وجسدهم الفاسد قد لبس عدم فساد، لما صار المسيح مشابهًا لنا وغيَّر الموت إلى عدم موت والفساد إلى عدم فساد، وذلك في نفسه هو أولًا، وبذلك صار لنا في الواقع طريقًا للحياة.

(كيرلس الكبير، عن الإيمان القويم إلى الأميرات ب. ج. ٧٦ : ١٢٨١-١٢٨٤)

ويظهر من هذه الأقوال أن القديس كيرلس يتفق مع القديس أثناسيوس في اعتبار القيامة في جوهرها انتقالًا من حالة “الفساد” الخاصة بطبيعة الإنسان إلى حالة “عدم الفساد” التي هي أصلًا من طبيعة الله وحده.

ولكن ما هو الذي يقصده الآباء من الفساد وعدم الفساد؟

هل المقصود من الفساد هو مجرد تحلل أعضاء الجسد وعودتها إلى تراب الأرض الذي أُخذت منه؟

وهل عدم الفساد هو مجرد استمرار الحياة الجسدية أم أن لهما معنًى أكثر شمولًا؟

الحقيقة أن مفهوم الفساد وعدم الفساد عند الآباء عمومًا وعلى الأخص عند القديس كيرلس لا يختصان فقط بالموت الجسدي والحياة الجسدية، ولكن لهما معنى أغنى وأعمق يختص بالحياة الروحية أي بالخطية والبر [16]. والقديس كيرلس نفسه يقول في إحدى عظاته:

إن الموت الجدير بأن يُدعى بهذا الاسم ليس هو الموت الحادث من انفصال النفس عن الجسد بل هو بالحري الحادث من انفصال النفس عن الله. الله هو الحياة فمن ينفصل عن الحياة فهو الميت حقًا.

(كيرلس الكبير، عظة ١٤ ب. ج. ٧٧ : ١٠٨٨-١٠٨٩ [17] )

وعلى ذلك فنعمة القيامة التي ننالها من قيامة الرب لا تنحصر في استعادة حياة الجسد بعودة النفس إليه بل تمتد أيضًا إلى مستوى روحي أعلى بالقيامة الروحية الحياة جديدة بحسب الروح.

وكثيرًا ما يكرر القديس كيرلس أن قيامة الرب أثَّرت على البشرية على مستويين:
الأول: عام يدرك جميع الناس بلا استثناء بقيامة أجسادهم في اليوم الأخير.
الثاني: خاص للذين يقبلونه وهو القيامة الروحية لجدة الحياة:

إننا نعتقد أن السر الحاصل بقيامة المسيح يمتد ويدرك جميع طبيعة الإنسان. فنحن نؤمن أن طبيعتنا كلها -فيه هو أولًا- قد انعتقت من الفساد، لأن الجميع سيقومون على مثال ذلك الذي أُقيم لأجلنا، وهو حامل الجميع في نفسه من حيث أنه إنسان. وكما أننا سقطنا جميعًا في الموت في الإنسان الأول [آدم] هكذا أيضًا سيقوم الجميع في الذي صار بكرًا لنا، ولكن الذين صنعوا الخير إلى قيامة الحياة كما هو مكتوب والذين صنعوا الشر إلى قيامة الدينونة. وأنا أوكد أن القيامة للعذاب هي أصعب وأقسى من الموت نفسه.

(كيرلس الكبير، تفسير يوحنا ٦ : ٥١)

فنعمة القيامة تنتقل إلى الجميع بقيامة أجسادهم سواء شاءوا أم لم يشاؤوا بفعل التغيير الجذري الذي أجراه الرب في صميم طبيعتنا لما قام بالجسد حاملًا طبيعتنا بكاملها في هذا الجسد، غير أن الذين يتجاوبون مع نعمة القيامة منذ الآن تجاوبًا روحيًا ولا يسلكون في “جدة الحياة” التي قدمها لنا المسيح بقيامته، إنما يحولون نعمة القيامة لهلاك نفوسهم فتصير لهم أقسى من الموت نفسه.

إن القيامة أدركت جميع الناس من خلال قيامة المخلص الذي تسبب في إقامة طبيعة الإنسان بشمولها معه غير أنها لن تفيد شيئًا لأولئك الذين يحبون الإثم.

(كيرلس الكبير، تفسير يوحنا ١٠ : ١٥)

ويعود القديس في موضع آخر إلى التمييز بين نوعين من القيامة أو نوعين من الحياة:

الرب يقول: قد أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أكثر. لأنه بالإضافة إلى استعادة الحياة [بعد الموت] ينال المؤمنون به رجاء جميع الخيرات الصالحة. وغالباً ما تشير كلمة أكثر إلى ذلك النوع الفائق من الحياة الأوفر والأكرم، وفي هذا إشارة ضمنية إلى المشاركة الكاملة في الروح القدس ولو بأسلوب سرى جدًا. لأن استعادة الحياة [الجسدية] ستكون عامة للقديسين والخطاة كليهما، ولكن المشاركة في الروح القدس فلن تكون عامة للجميع لأنها هي الحياة “الأكثر” أي التي تفوق ما هو عام للجميع.

(كيرلس الكبير، تفسير يوحنا ١٠ : ١٠)

هنا يحدد القديس كيرلس أن النوع الفائق من الحياة المعطاة لنا بقيامة الرب إنما هو بالذات المشاركة في الروح القدس. وسنعود إلى هذه النقطة بعد قليل ولكن ما يهمنا أن نلاحظه الآن هو تأكيد القديس كيرلس على أن قيامة الرب صارت لنا ينبوعًا لحياة من نوع جديد على مستوى الروح. وهو في ذلك يستند إلى قول القديس بولس الرسول حتى كما أُقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضًا في جدة الحياة [18]. ويقول في تفسير هذه الآية:

لابد أننا نحن الذين دُفنَّا مع الرب [في المعمودية] نقوم أيضًا معه روحيًا [أو ذهنيًا] فإن كان الاشتراك في الدفن معه معناه الموت عن الخطية فمن أوضح ما يمكن أن الاشتراك في القيامة معه يعنى بالضرورة الحياة في البر.

(كيرلس الكبير، تفسير رومية ٦ : ٣)

 

لقد تبررنا بالإيمان بالمسيح الذي أُسلم لأجل خطايانا وأُقيم لأجل تبريرنا لأن فيه بصفته باكورة جنسنا قد أُعيد تشكيل طبيعة الإنسان كلها إلى حياة جديدة حتى أنها تطبعت من جديد بطبع القداسة.

(كيرلس الكبير، تفسير يوحنا ١٧ : ١٨-١٩)

 

فيه قد عادت طبيعة الإنسان إلى حياة جديدة في التقديس وعدم الفساد بالقيامة من الأموات.

(كيرلس الكبير، المسيح واحد ب. ج. ٧٥ : ١٣٥٣)

 

لما رجع الرب إلى الحياة وقدم نفسه الله كباكورة للبشرية حينئذ بكل تأكيد تحولنا نحن أيضًا إلى حياة جديدة.

(كيرلس الكبير، جلافير علي العدد ب. ج. ٦٩ : ٦٢٤-٦٢٥)

والآن أكثر ما يهمنا هو أن نتعرف على معالم هذه الحياة الجديدة المعطاة لنا بقيامة الرب حتى نستطيع أن نقبلها ونتفاعل معها روحيًا.

هذه الحياة الجديدة في رأى القديس كيرلس هي في جوهرها علاقة حية بالثالوث، حتى أنه يمكننا أن نلخص فكر القديس بخصوص المفاعيل الروحية لقيامة الرب فينا في أنها تتركز في إدخالنا في علاقة حية مع كل من الآب والابن والروح القدس:

* فالقيامة تمنحنا الروح القدس.
* والقيامة تشكلنا على صورة الابن.
* والقيامة ترجعنا إلى الآب ب.

أ. القيامة تمنحنا الروح القدس:

من المألوف لدى القديس كيرلس أن يقارن بين الخلقة الأولى للإنسان التي تمت بأن نفخ الله فيه “نسمة حياة” وبين الخليقة الجديدة التي أكملها لنا الرب بقيامته وسلمها لنا لما نفخ في وجه تلاميذه قائلًا اقبلوا الروح القدس [19]

فالروح القدس فينا هو روح الخليقة الجديدة، هو روح الحياة الجديدة التي أسسها الرب من أجلنا بقيامة جسده ونقلها إلينا لما نفخ قائلًا اقبلوا الروح القدس، والقديس كيرلس يدعوه روح التجديد [20]

لقد وُهب لنا روح التجديد أي الروح القدس ينبوع الحياة الأبدية، بعد أن تمجد المسيح أي بعد قيامته إذ نقض أوجاع الموت وأظهر نفسه فائقًا لكل فساد وعاش حياة جديدة حاملًا في نفسه كل طبيعتنا… فلماذا لم ينسكب الروح قبل القيامة بل بعدها؟ لأن المسيح قد صار باكورة الطبيعة المتجددة لما عاش من جديد ناقضًا أوجاع الموت… فكيف كان يمكن قبل ظهور الباكورة أن تتجدد حياة الذين يتبعونه؟

(كيرلس الكبير، تفسير يوحنا ٧ : ٣٩)

ويستطرد قائلًا:

لأنه كما أن النبات لا يمكن أن ينبت من الأرض قبل أن يتكون أصله [جذره] أولًا، هكذا نحن أيضًا إذ صار الرب يسوع المسيح أصلًا لنا لعدم الفساد، لم يكن ممكنًا أن ننبت قبل أصلنا.

(كيرلس الكبير، تفسير يوحنا ٧ : ٣٩)

أي لم يكن ممكنًا أن ننال نعمة الخليقة الجديدة بالروح القدس قبل أن تتكون هذه الخليقة أولًا في المسيح بالقيامة من الأموات.

ولكي يُظهر الرب أن زمان حلول الروح القدس علينا قد أقبل بعد قيامته من الأموات، لذلك نفخ في وجه تلاميذه قائلًا: اقبلوا الروح القدس.

(كيرلس الكبير، تفسير يوحنا ٧ : ٣٩)

وفي مواضع عديدة يقول إن الرسل القديسين، بصفتهم باكورة البشرية الجديدة، كانوا أول من نالوا نعمة الحياة الجديدة بالروح القدس لما نفخ الرب في وجوههم مساء أحد القيامة قائلًا اقبلوا الروح القدس [21].

وأما نحن فإننا ننال نفس هذه النعمة في المعمودية:

فقد تجددت أعماقنا إلى حالة أفضل بلا قياس وربحنا الولادة الجديدة من الروح الفائقة الصلاح إذ لم تعد لنا بعد الولادة الأولى الجسدية أي التي للفساد والخطية بل الولادة الثانية الفوقانية التي من الله بالروح.

(كيرلس الكبير، تفسير يوئيل ٢ : ٨)

ومعروف أن هذه الولادة الثانية تتم فينا بفضل قيامة الرب من الأموات: مبارك الله الذي ولدنا ثانية بقيامة يسوع المسيح من الأموات [22]، ولذلك فالمعمودية التي تمنحنا الروح القدس هي في نفس الوقت شركة في موت الرب وقيامته.

يقول القديس كيرلس في شرحه لسفر الخروج ما معناه: إننا في المعمودية نشترك روحيًا في موت المسيح وقيامته بحسب ما يقوله القديس بولس الرسول في رومية ٦ : ٤-٥، وبفعل هذا الموت وهذه القيامة تتغير صورتنا إلى صورة المسيح [23].

وهذا ينقلنا إلى النقطة التالية من مفاعيل القيامة فينا:

ب. القيامة تُغيِّرنا إلى صورة المسيح:

هذه النقطة مبنية على سابقتها، لأن الروح الذي نأخذه بفعل قيامة الرب عمله الأساسي فينا هو أن يوحدنا بالمسيح فتتغير صفاتنا الداخلية إلى صفات المسيح [24]. يقول القديس كيرلس في تفسيره للآية في يوحنا ٢٠ : ۲۲ نفخ وقال لهم اقبلوا الروح القدس:

إن الروح القدس يطبع صورة المخلص في قلوب الذين يقبلونه. والمسيح لا يمكن أن يتصور في أحد إلا بالمشاركة في الروح القدس وحياة مطابقة للإنجيل. ولهذه الغاية جعل المسيح روحه القدوس يحل في تلاميذه حتى يصيروا باكورة للخليقة الجديدة على صورة الله في المجد وعدم الفساد.

(كيرلس الكبير، تفسير يوحنا ٢٠ : ۲۲)

 

لقد صار المسيح أصلًا وباكورة للذين يتغيرون بالروح القدس إلى حياة جديدة. ولما علم ذلك بولس كتب قائلًا: كما لبسنا صورة الترابي سنلبس أيضًا صورة السماوي.

(كيرلس الكبير، عن الإيمان القويم إلى ثيؤدوسيوس ٢٠ : ٤)

 

فلما ظهر آدم الثاني بيننا وهو الإنسان الإله الذي من السماء الذي جاهد من أجل خلاص العالم وربح بموته حياة جميع الناس وأبطل قوة الفساد وقام لحياة جديدة، حينئذ تغيرنا نحن أيضًا إلى صورته.

(كيرلس الكبير، تفسير يوحنا ١٩ : ٤۲)

وفي تفسيره لقول القديس بولس الرسول وإن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضًا بقيامته [25])، يبيِّن أنه مع أن الفاعلية الكاملة لقيامة الرب لن تُعطى لنا إلا في الحياة الأخرى حينما تقوم أجسادنا معه في المجد، إلا أننا منذ الآن نستطيع أن نتحد روحيًا بقيامته فننال منها قوة روحية لتغيير صفاتنا إلى صفاته المقدسة.

إننا نصير متحدين معه بقيامته من وجهين: فإننا من جهة سنحيا مع المسيح بأن تعود أجسادنا إلى الحياة [في اليوم الأخير]، ومن جهة أخرى نحن نحيا معه [من الآن] حينما نقرِّب له نفوسنا فتتغير صفاتنا الداخلية إلى القداسة لسيرة صالحة في الروح القدس.

(كيرلس الكبير، تفسير رومية ٦ : ٥)

ج – القيامة تجعلنا أبناء الآب السماوي بالتبني:

وهذه النقطة أيضًا متصلة بسابقتها لأنه حينما تغيرنا قوة القيامة إلى صورة المسيح حينئذ يرى الآب فينا صورة ابنه الحبيب فيحبنا نحن أيضًا كما يحبه هو ويعتبرنا أبناء له فيه. يقول القديس كيرلس ذلك في تفسيره للآية في يوحنا ۱۷: ۲۳ وأنك أحببتهم كما أحببتني:

كما أننا في المسيح -الذي هو باكورة جنسنا- سنصير بل قد صرنا بالفعل منذ الآن مشابهين الصورة قيامته ومجده هكذا قد صرنا مثله أيضًا محبوبين من الآب فإننا نصير محبوبين من الآب كأبناء له على قدر ما نشابه ذلك الذي هو في الواقع ابنه الوحيد بحسب الطبيعة.

(كيرلس الكبير، تفسير يوحنا ١٧ : ٢٣-٢٤)

والقديس كيرلس يرى أن نعمة التبني قد أُعلنت للبشرية في صباح أحد القيامة لما قال الرب للمجدلية: قولي لإخوتي أني أصعد إلى أبي وأبيكم:

إنه يدعونا إخوة ويدعو الله أبًا مشتركًا له ولنا وكأن الابن قد مزج نفسه بنا ليمنَّ على طبيعتنا بالكرامة الخاصة به وحده حتى أنه يدعو الذي ولده أبًا مشتركًا لنا جميعًا.

(كيرلس الكبير، تفسير يوحنا ٢٠ : ١٧)

 

إن المولودين من الله يفوقون جميع مواليد النساء، لأن هؤلاء لهم آباء أرضيون وأما نحن فلنا الآب السماوي. لأننا قد نلنا هذا الامتياز أيضًا من المسيح الذي دعانا إلى التبني وإلى الأُخوَّة معه. لأنه لما قامَ المسيح وسبى الجحيم، حينئذ أعطى روح التبني للذين يؤمنون به وأولهم الرسل القديسون. لأنه نفخ في وجوههم قائلًا: اقبلوا الروح القدس.

(كيرلس الكبير، تفسير لوقا ٧ : ٢٨)

ونريد أن نلاحظ هنا تأكيد القديس كيرلس على أن التبني قد صار لنا كنتيجة مباشرة لقيامة الرب. ويكرر نفس هذا القول في تفسيره لإنجيل متى:

لما عاد المسيح إلى الحياة بعد أن سبى الجحيم حينئذ أُعطى روح التبني.

(كيرلس الكبير، تفسير متى ١١ : ١١)

ويلاحظ أيضًا أنه ينسب نعمة التبني إلى الروح القدس. والحقيقة أن مفاعيل القيامة فينا كلها متصلة بعضها ببعض، وإن كنا اضطررنا في هذه المقالة أن نقسمها لسهولة العرض والتبويب، لكن لا ينبغي أن يغيب عن ذهننا شدة الاتصال بينها: فالروح القدس المأخوذ بفعل القيامة هو الذي يغيِّرنا إلى صورة الابن، وحينما يرى الآب فينا صورة ابنه حينئذ يحبنا ويعتبرنا أبناء له:

إن الروح بكل لياقة، وحسبما يرى الروح نفسه يشكِّل ويغيِّر إلى صورة الابن صفات الذين يحل فيهم بالمشاركة، حتى إذا ما رأى الله الآب معالم ابنه الخاص المولود منه واضحة فينا يحبنا نحن أيضاً كأبناء ويمجدنا ويشرق علينا بالكرامات الفائقة لهذا العالم.

(كيرلس الكبير، عظة فصحية ١٠)

وهكذا ينطبق على عمل القيامة فينا المعيار العام الذي عبَّر به القديس كيرلس عن غاية جميع أعمال الثالوث من أجلنا:

إن كل شيء يُستعاد مجددًا إلى الآب من الابن بواسطة الروح القدس.

(كيرلس الكبير، تفسير يوحنا ١٧ : ١٨-١٩)

وهكذا تتحقق بالقيامة عودة البشرية إلى الآب السماوي. فقسمة القيامة تقول إن المسيح بقيامته رفع الناس معه وأعطاهم قربانًا الله أبيه، والقديس كيرلس يلاحظ بنفس هذا المعنى أن المسيح قد قام يوم ١٦ نيسان الذي فيه كانت تُقدَّم في العهد القديم باكورات الأرض لله. فقد قام الرب في نفس هذا اليوم مقدمًا لله أبيه في نفسه باكورة الجنس البشرى الجديد [26]. وسنتعمق في هذا المعنى أكثر حينما نعرض أقوال القديس الخاصة بصعود الرب “كسابق من أجلنا”.

المسيح في قيامته وصعوده وكهنوته السماوي من أجلنا في لاهوت القديسين أثناسيوس الرسولي وكيرلس الكبير بقلم ، نُشر أوّل ما نُشر في ، عدد مايو ١٩٧٩، الصفحات من ٩ إلى ٢٤
هوامش ومصادر:
  1. أثناسيوس  الرسولي، تجسد الكلمة ٤ : ٦ [🡁]
  2. أثناسيوس  الرسولي، تجسد الكلمة ٥: ١-٢[🡁]
  3. أثناسيوس  الرسولي، تجسد الكلمة ٤ : ٤ [🡁]
  4. أثناسيوس  الرسولي، تجسد الكلمة ٧ : ٤-٥، ٨ : ٤ [🡁]
  5. أثناسيوس  الرسولي، تجسد الكلمة ١٠ : ٥-٦ [🡁]
  6. عبرانيين ٢ : ١٤-١٥ [🡁]
  7. من أكثر الآيات التي يكررها القديس أثناسيوس في حديثه عن القيامة: إن هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد وهذا المائت يلبس عدم موت فحينئذ تصير الكلمة المكتوبة ابتلع الموت إلى غلبة (كورنثوس الأولى ١٥ : ٥٣-٥٤)، أنظر تجسد الكلمة ٢١ : ٢، الرسائل الفصحية ٦ : ٤، ١١ : ١٤ والرسالة ٥٩ : ٦ [🡁]
  8. یوحنا ۳ : ۳ [🡁]
  9. ى ١ : ۳ [🡁]
  10. رومية١ : ٤ [🡁]
  11. أثناسيوس  الرسولي، تجسد الكلمة ١٩ :  ۳، ٥٠ : ٦ [🡁]
  12. لم يكن القديس كيرلس أول من تكلم عن وجودنا السرى في شخص المسيح، فقد سبقه في ذلك القديس أثناسيوس كما سنرى حينما نعرض أقواله عن صعود الرب من أجلنا إذ يقول صراحة أنه صعد من أجلنا نحن الذين كان يحملنا في جسده (تجسد الكلمة ٦:٢٥). ومن البين أن أول من أوحيت إليه هذه الحقيقة هو القديس بولس الرسول حيث يقول إن الله أقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات (أفسس ٦:٢)، غير أن القديس كيرلس هو بلا شك أكثر من بلور هذه الفكرة وعممها على جميع مراحل حياة الرب. [🡁]
  13. أنظر أيضا كيرلس الكبير، تفسير يوحنا ٦ : ٥١ (قول ٣٨). [🡁]
  14. وفي ذلك يتفق القديس كيرلس مع القديس أثناسيوس، (أنظر قول ٥) [🡁]
  15. ويلاحظ في هذا القول أن القديس كيرلس يحرص ألا يُدخل ثنائية في شخصية المسيح، فهو يشير إلي الجسد بأنه ما وليس الذي، مبينًا بذلك أن الكلمة اقتنى لنفسه واسنتا ولم يقتن لنفسه إنسانًا له شخصية مغايرة له كما كان يدعي نسطور. [🡁]
  16. Burghardt , The image of God in man according to Cyril of Alexandria, p. 99 [🡁]
  17. ولا شك أن هذا المفهوم الروحي للموت له أساس كتابي بحسب: سفر الرؤيا ٣ : ١ إن لك اسمًا أنك حي وأنت ميت، وتيموثاوس الأولى ٥ : ٦ وأما المتنعمة فقد ماتت وهي حية. [🡁]
  18. رومية ٦ : ٤ [🡁]
  19. إقرأ مثلًا تفسير إنجيل يوحنا ۲۰ : ۲۲. وقد صدرت ترجمة عربية لتفسير الإصحاح العشرين من هذا الإنجيل ترجمة د. جورج حبیب (مجلة مرقس، عدد مايو، ١٩٧٦)
    ويعود القديس كيرلس مرارًا كثيرة إلى المقارنة بين تكوين ۷:۲، يوحنا ۲۲:۲۰، أنظر مثلًا: في الثالوث ٤ ب. ج. ٧٥ : ٩٠٨، في الثالوث ۷ ب. ج. ٧٥ : ١٠٨٨، تفسير متى ٥١:٢٤. [🡁]
  20. وهو يتفق في ذلك مع ما جاء في رسائل القديس بولس الرسول: وتجديد الروح القدس الذي سكبه علينا بغنى بيسوع المسيح (رومية ٧ : ٦)، نعبد بجدة الروح لا بعتق الحرف (رومية ٧ : ٦). [🡁]
  21. تفسير يوحنا ٧ : ٢٤، ٣٩، ٢٠ : ٢٢، ١٢ : ١٦، في الثالوث ٦، تفسير يوئيل ٢ : ٢٨، تفسير متي ٢٤ : ٥١، تفسير لوقا ٥ : ٢٤، إلخ… [🡁]
  22. بطرس الأولى ٣:١ [🡁]
  23. كيرلس الكبير، جلافير علي الخروج ٢ ب. ج. ٦٩ : ٤٤١. أنظر أيضا ضد ٧ ب. ج. ٧٦ : ٨٨٠. [🡁]
  24. وأقوال القديس كيرلس بهذا المعنى كثيرة جدا حتى يصعب حصرها (أنظر مجلة مرقس عدد يوليو ١٩٧٧ ص ٤٤، ونوفمبر وديسمبر ١٩٧٧ ص ١٣-١٥). [🡁]
  25. رومية ٦ : ٥ [🡁]
  26. كيرلس الكبير، العبادة بالروح والحق، ١٧ ب. ج. ٦٨ : ١٠٩٢-١٠٩٦. [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

متى المسكين
Website  [ + مقالات ]

اطرح عنك ذاتك التي تمنعك من الانطلاق في حرية أولاد الله