تتميز المسيحية عن باقي أديان العالم بأنها ديانة الإله المتجسد؛ فالله اختار أن يتحد بالإنسان اتحادًا تامًا أبديًا، رافعًا قيمة الإنسان ليصبح فوق الكتب، والشرائع. فحتى حين يضع الله قانونًا ما، يضعه لخير الإنسان. وعلى الرغم من كل ما ذكره آباء الكنيسة الأوائل عن  (بلاهوته، وناسوته)، نجد البعض يتغنى مرددًا "أنا التراب افتكري يا نفسي". كما يقلل البعض من عمل الله واتحاده بنا، خشية أن نقع في الكبرياء، وخشية أن يصير المسيح شخصًا عاديًا!
ما هو التواضع؟

يظن البعض أن ترديد عبارات تهين الذات يبرهن على التواضع والتقوى؛ فالمعروف أن القديس يتوجب عليه إهانة ذاته ليكون متواضعًا، وكثيرًا ما نسمع هذه العبارات في أفلام القديسين، وفي الواقع: “أنا حقير”، “يا لحقارتي”، “أنا نكرة.. أنا لا شيء.” لكن دعنا الآن نحلل مفهوم التواضع، ونرى هل تدل هذه العبارات على التواضع حقًا أم على الكبرياء؟

في كتابه “”، يشرح “” معنى التواضع رجوعًا إلى معنى الكلمة في اللغة اليونانية والعبرية، قائلًا إن التواضع ليس أن تتصور أو تردد رأيًا متدنيًا عن مواهبك، أو شخصيتك بل بالأحرى أن تنسى ذاتك – أي أن تكف عن التفكير بها. فكما لاحظنا، أن العبارات التي ذكرناها مثل “أنا حقير، أنا غبي، أنا صغير النفس” كلها تتمحور حول الذات، وتكشف عن كم انشغال المرء بنفسه (أنا.. أنا). فالفكرة ليست في أن تقول أنا عظيم، أم أنا حقير؛ لأنك في الحالتين مشغول بذاتك، ولا تكف عن ترديد كلمة أنا.

ويسرد “سي. إس. لويس” محاولات في إيقاع المرء في خطيئة الكبرياء قائلًا إن الشيطان لا يهمه سوى أن تتمحور حياتك حول ذاتك، لتنشغل عن الله والناس. فالشيطان يريدك أن تظن أنك متواضع حقًا بزرعه تلك العبارات في عقلك. فالكبرياء هو الانشغال بالذات، وليس أن يظن المرء أنه حقير. فمثلًا، إن كنت تجيد مهارة الرسم، أو كنت متوفقًا في دراستك، ليس هناك مشكلة أن تعتبر نفسك متوفقًا في هذا الشيء، طالما أنك لست مشغولًا بالأمر، ولا تشير إلى تفوقك من حين لآخر لتحصل على إعجاب الناس، أو تشعرهم أنك أفضل منهم؛ أنت فقط تعرف هذه الحقيقة عن ذاتك لأنها حدثت بالفعل.

فالله يطالبنا بأن نكون واقعيين؛ فإذا كنت متوفقًا في أمر ما، ولديك ما يبرهن على ذلك، ليس هناك ما يدعوك لتكذيب تلك الحقيقة.

وتُرى ما هي مكانة الإنسان الحقيقية في المسيحية؟ وأتحدث هنا عن الفرد العلماني، وليس ال. هل حقًا للعلماني مكانة أقل من رجال الدين؟ هل في تقبيل يد الكاهن بركة عظيمة لأنه أقدس من العلماني؟ وهل الكاهن هو فقط من يحق له لمس جسد المسيح؟ ملحوظة: في العصور الأولى، كان كل الشعب يمسك بالجسد (كما هو موضح في هذا المقال).

لقد أردت شرح معنى الاتضاع قبل البدء في الموضوع، لننتهي من هذا الأمر الذي لا يكف البعض عن إقحامه متى أردنا الإشارة إلى سمو الإنسان ورفعته.

دعني آخذك إلى مفارقة من نوع خاص، ولك الحكم في نهاية الأمر:

مكانة الإنسان بين الآباء الأوائل والعصر الحديث

يؤمن آباء الكنيسة أن الفرد يتحد بالمسيح المتجسد، حاصلًا على الطبيعة الجديدة (الطبيعة التي تألهت بعد أن صار المسيح متحدًا بها). وبذلك، فالكنيسة، كلها، ككيان تتحد بالله وتصير جسد المسيح، كما قال بولس.

صار ابن الله إنسانًا لكي يصير الإنسان ابن الله

(القديس إيريانوس، القرن الثاني، ضد الهرطقات 1:19:3)

صار الله إنساناً لكي يصير الإنسان إلهاً … لقد تجسَدَ كلمةُ الله لكي يتَحِدَ بالطبيعة البشريّة كما تتَحِدُ النَار بالحديد.

(القديس ، )

الذي تجسد وتأنس، لأننا نحن أيضا ندعى آلهة بحسب النعمة

(رسالة القديس كيرلس إلى رهبان مصر، الفقرة 17)

هناك أسطورة يونانية جميلة تحكي أن الإله كيوبيد أحب الأرضية سايكي – التي لم تكن إلهة بل مجرد فتاة- وأوقظها بقبلة المحبة، التي أزالت اللعنة، وخلدت سايكي لتصبح إلهة خالدة مثل كيوبيد الذي حملها معه إلى السماء. وقد أمن آباء الكنيسة بمثل هذا الاعتقاد من جهة عمل المسيح. ويشير القديس إلى الافخارستيا باعتبارها قبلة الحياة التي ألهت الإنسان قائلًا:

ولدى تناولنا الجمرة الإلهية، نضعها على عيوننا وشفاهنا و جبهاتنا، لكي، إذا ما نار الشوق التي فينا استمدّت الحرارة من الجمرة، تُحرِق خطايانا وتُنير قلوبنا ونلتهب ونتألّه بمساهمة النار الإلهية

(المئة مقالة في الإيمان الأرثوذكسي، الكتاب 4، الفصل 13)

أما في العصر الحديث، نجد أن ال الثالث يشير إلى باعتباره بدعة، ويرفض إتحاد الكنيسة بلاهوت المسيح وناسوته. فهو يقول في كتابه بدع حديثة متعجبًا:

فإن كان ناسوته هو الكنيسة أي جماعة المؤمنين، يكون لاهوته في اتحاده بالكنيسة قد اتحد بكل جماعة المؤمنين. وصار كل فرد من المؤمنين هو ناسوت متحد بلاهوت!! مثل المسيح تمامًا!

(البابا شنودة الثالث، كتاب: “بدع حديثة”)

وهنا يحق لنا أن نسأل: ما المشكلة في أن تتحد الكنيسة (بأكملها) بالمسيح، وتصبح جسده الحي على الأرض؟ ما المشكلة أن يتقابل الله معنا بلاهوته وناسوته؟ ويجيب البابا شنودة، قائلًا:

إن اتحاد اللاهوت بالكنيسة كلها هو ضد انفراد السيد المسيح بهذه الطبيعة، طبيعة الإله المتجسد. وبهذا الفكر، يكون اعتباره كواحد من هؤلاء المؤمنين.

(البابا شنودة الثالث، كتاب: “بدع حديثة”)

وبعيدًا عن التعارض الواضح لقداسة البابا مع الآباء الأوائل، نسأل هل الله لا يستطيع أن يعطي الإنسان قبسًا من لاهوته وناسوته؟ أهو غير قادر على العطاء، أم لا يريد؟ وهل نفهم من ذلك أن الآباء الأوائل لم يفهموا أن استخدامهم لعبارة التأله يجعل المسيح شخصًا عاديًا؟ وكيف يكون شخصًا عاديًا، وهو مانح تلك النعمة؟

كما قال البابا شنودة في الكتاب نفسه:

 شهوة التأله هي أول خطية للملاك الساقط، وأول سقطة للكائنات الحرة العاقلة.

(البابا شنودة الثالث، كتاب: “بدع حديثة”)

فعلى الرغم من إيمان الآباء الأوائل بتلك العقيدة، مثل القدّيس إيريناوس، والقدّيس أثناسيوس، و الكبير، ومكسيموس المعترف، ويوحنّا الدمشقيّ، وغيرهم، نجد البابا شنودة يغرد وحيدًا، ويعارضهم جميعًا، قائلًا إن التأله خطيئة، بل وخطيئة خطيرة، مشبهًا إياها بخطيئة هيرودس الملك في جزء آخر من كتابه!!

يقول الكاهن في القداس:

أن هذا هو الجسد المحيِّ الذي أخذه ابنك الوحيد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح من سيدتنا وملكتنا كلنا والدة الإله القديسة الطاهرة مريم. وجعله واحداً مع لاهوته بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير.

(القداس الإلهي)

وعلى الرغم من ذلك، يتفرد البابا شنودة مجددًا قائلًا إن تناول اللاهوت بدعة:

نحن نتناول الناسوت فقط؛ لأن اللاهوت روح، والروح لا يؤكل، ولا يشرب.

(البابا شنودة الثالث، كتاب: “بدع حديثة”)

وهنا نسأل: هل ينفصل اللاهوت عن الناسوت؟ هل يمكن أن يوجد ناسوت بلا لاهوت في أي لحظة؟ وما هو الفرق بين جسد المسيح وجسد أي إنسان عادي إذا فصلناه عن لاهوته؟ هل يؤيد البابا شنوده في فصله للاهوت والناسوت؟ ولماذا يقلل البعض من اتحاد الله بالإنسان هكذا؟

وإذا كان المسيح قد جعلنا جميعًا سادة/ آلهة/ أبناء العلي، فلماذا يتعين على العلماني أن يقول للأسقف سيدي وهو سيد مثله؟ لماذا لا يقول الأسقف أيضًا للعلماني يا سيدي/ سيدتي، ونتبادل التحية والميطانيات بالمثل؟

سأترك لك الإجابة، عزيزي القارئ.

أَنَا قُلْتُ: إِنّكُمْ آلِهَةٌ وَبَنُو الْعَلِيِّ كُلّكُمْ.

( 82: 6)

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

"أنا قلت إنكم آلهة" 1
[ + مقالات ]