وترك الناصرة وأتى فسكن في كفرناحوم التي عند البحر في تخوم زبولون ونفتاليم… من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز ويقول: «توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات»(إنجيل متى ٤ : ١٣، ١٧)
تقع مدينة كفرناحوم في تخوم زبولون ونفتاليم على الشاطئ الشمالي الغربي لبحر الجليل. وقد اختارها الرب يسوع ليبدأ منها الكرازة، لكي يتم ما قيل بإشعياء النبي القائل: أرض زبولون، وأرض نفتاليم، طريق البحر، عَبْر الأرْدُنّ، جليل الأُمم. الشعب الجالس في ظلمةٍ أبصر نورًا عظيمًا، والجالسون في كورة الموت وظلاله أشرق عليهم نورٌ.
[1]. وقد كانت لها مكانة سامية بين المدن المحيطة بها، إذ وصفها الرب بأنها المرتفعة إلى السماء
[2].
فمَا هي هذه المدينة؟ ولماذا اختارها الرب لبدء الكرازة منها؟
موضع كفرناحوم وسبب اختيارها كأول موضع للكرازة:
هناك أسباب كثيرة واكتشافات أثرية تقطع بأن تل حوم هي موضع كفرناحوم [3]. أما سبب اختيار الرب للمدينة كأول موضع للكرازة، فهو لأنها كانت المركز التجاري للبلاد الواقعة في شمال فلسطين، ومنها تتفرَّع الطرق إلى كلٍّ من مصر وبلاد فلسطين الوسطى وجلعاد وبلاد العرب في الجَنُوب، وفينيقية وسوريا الشِّمالية ودمشق وبلاد بابل [4].
كما أنها كانت مقرًّا هامًا للعشَّارين جباة الضرائب وقوَّاد المئات الرومانيين؛ إذ كانت السهول المحيطة بالطرف الشمالي لبحر الجليل تُدرُّ ربحًا وفيرًا من الحبوب، بالإضافة إلى صناعة صيد السمك في بحيرة جنيسارت أو بحر طبرية أو بحر الجليل الذي كانت تُطل عليه المدينة [5].
وهكذا كان للسكان هناك مصدر رزق وفير أعطى أهمية كبيرة لهذه البلدة. لذا كان موقع هذه المدينة موافقًا لانتشار تعاليم المسيح في كل البلاد المجاورة، وخاصة لأن سكانها كانوا خالين من التعصُّب والتشيُّع [6].
المواضع التي ذُكرت فيها كفرناحوم في أسفار الكتاب:
لم تُذكر مدينة كفرناحوم في العهد القديم. أما في العهد الجديد، فقد كانت من أهم المدن المذكورة في الإنجيل، وخصوصًا في إرسالية الرب يسوع في الجليل [7].
فبعد أن ترك الرب يسوع الناصرة، «أتى فسكن في كفرناحوم التي عند البحر (أي بحر الجليل)»، وذلك لكي تتم النبوَّة التي تنبأ عنها إشعياء النبي عن أرض زبولون ونفتاليم: ولكن لا يكون ظلام للتي عليها ضيق. كما أهان الزمان الأول أرض زبولون وأرض نفتالي، يُكْرِمُ الأخير طريق البحر، عَبْرَ الأردن، جليل الأُمم
[8].
ويذكر يوحنا الإنجيلي أنه بعد حادثة تطهير الهيكل في أورشليم، توجَّه الرب يسوع مع تلاميذه إلى كفرناحوم ومكثوا هناك أيامًا ليست كثيرة
[9]. ومن الواضح أنها كانت مسقط رأس كلٍّ من أندراوس وسمعان بطرس؛ بل وكذلك أيضًا يعقوب ويوحنا ابنا زبدي اللذان كانا شريكَي سمعان
[10].
كرازة الرب في كفرناحوم:
بعد ما اختار الرب تلاميذه من نواحي بحر الجليل وأظهر مجده بالآيات والعجائب التي صنعها أمام تلاميذه، يقول إنجيل القديس يوحنا: وبعد هذا [آية تحويل الماء إلى خمر] انحدر إلى كفرناحوم، هو وأُمه وإخوته وتلاميذه، وأقاموا هناك أيامًا ليست كثيرة.»
[11].
وحين رُفِضَ يسوع من شعب مدينة الناصرة، انحدر إلى كفرناحوم مدينة من الجليل، وكان يُعلِّمهم في السبوت
[12]، وقد جاء إلى هذه المدينة لتكون مدينة سكناه وكرازته في منطقة الجليل. لذا كان شعب هذه المدينة أكثر مَنْ رأوا يسوع بالجسد في فترة خدمته. ألم يكن يجول بينهم يصنع خيرًا ويشفي جميع المتسلِّط عليهم إبليس؟ [13].
ففي هذه المدينة كان يسوع يُعلِّم في كل وقت، مناسب وغير مناسب. فرأوا أكثر عدد من معجزاته وآياته؛ بل كان الرب يُصلِّي معهم في المجمع في السبوت. لقد كان يُصلِّي معهم ومن أجلهم. ولابد أنهم أول مَنْ سمعوا عن الحقائق الإيمانية التي جاء الرب ليعلنها لبني البشر.
لقد كانت دعوتهم إلى الملكوت دعوة خاصة مميَّزة. ففي موضع الجباية [مكان جمع الضرائب] رأوا يسوع يدعو عشارًا اسمه لاوي، فقام وتبعه أمام أعينهم! وبهذا أوضح لهم بكل جلاء أنه محب للعشَّارين والخطاة
[14]، لأن لاوي صنع له ضيافة كبيرة في بيته (في كفرناحوم)، والذين كانوا متَّكئين معهم كانوا جمعًا كثيرًا من عشَّارين و”آخرين“ (من أتباع العشَّارين). فحينما تذمَّر كتبتهم والفرِّيسيون على تلاميذه، أجاب يسوع وقال لهم: لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى. لم آتِ لأدعو أبرارًا بل خطاةً إلى التوبة
[15]. وبهذا أوضح الرب أنه قد جاء ليُخلِّص ما قد هلك [16].
وكانت المدينة أقرب موضع إلى جبل التطويبات حيث علَّم الرب يسوع الجموعَ عظته المشهورة على الجبل [17]، هذه العظة التي تُعتبر دستور الحياة المسيحية.
لقد سمعوا يسوع يُعلِّم أعمق تعاليمه مستعملًا ما يشاهدونه حولهم: سمعوه يتكلَّم عن زنابق الحقل، وعن السمك في البحيرة، وعن طيور السماء.
ويشير إنجيل القديس لوقا إلى إيمان شيوخ اليهود هناك بيسوع، إذ حين كان عبدٌ لقائد مئة مريضًا مشرفًا على الموت، وكان عزيزًا عنده، أرسل قائد المئة إلى يسوع شيوخَ اليهود ليسأله أن يأتي ويشفي عبده: فلما جاءوا إلى يسوع طلبوا إليه باجتهاد قائلين: إنه مستحقٌّ أن يُفعَلَ له ”هذا“.
[18].
أما عن معجزات الرب يسوع في كفرناحوم؛ فقد شفى رجلًا به روح نجس [19]، وشفى أيضاً حماة بطرس [20]، وشفى المصاب بالبرص [21]، وشفى المشلول المفلوج المـُدلَّى من السطح [22]، وشفى أيضًا المجنون الأعمى والأخرس [23]، وشفى صاحب اليد اليابسة [24]، وشفى عبد قائد المئة [25]، وشفى نازفة الدم [26].
وفي كفرناحوم أيضًا أقام المسيح ابنة يايرس رئيس المجمع، الذي جاء إلى الرب، وطلب إليه كثيرًا أن يشفي ابنته، فأقامها بعد أن ماتت، فبُهتوا بهتًا عظيمًا [27].
وفي هذه المدينة أيضًا شفى الرب أعميين كانا يصرخان ويقولان: ارحمنا يا ابن داود، فلمس أعينهما وشفاهما [28]. وهناك أيضًا شفى الرب إنسانًا أخرس مجنونًا قدَّموه إليه [29]. بل يخبرنا إنجيل القديس متى أن الرب حين جاء إلى جانب بحر الجليل، صعد إلى الجبل وجلس هناك
[30]، وهذا الجبل هو جبل التطويبات كما ذكرنا من قبل. هناك جاء إليه جموع كثيرة، معهم عرجٌ وعميٌ وخُرسٌ وشُلٌّ وآخرون كثيرون، وطرحوهم عند قَدَمي يسوع، فشفاهم حتى تعجَّب الجموع إذ رأوا الخُرْس يتكلَّمون، والشُّلَّ يَصِحُّون، والعُرج يمشون، والعُمْي يُبصرون. ومجَّدوا إله إسرائيل
[31].
شهادة المؤرخ يوسيفوس عن مدينة كفرناحوم:
يصف العلاَّمة يوسيفوس (37-100م) هذه المدينة في كتابه ”حروب اليهود“ [32]، فيقول:
البلدة التي تقع في شمال البحيرة لها نفس الاسم ”جنيسارت“؛ وطبيعتها خلاَّبة مثل جمالها، وتربتها خصبة جدًا لدرجة أن كل أنواع الأشجار يمكن أن تنمو فيها، حتى إن سكانها يزرعون كل نوع منها، لأن مزاج الهواء ملائم لها جميعًا؛ وخاصًة شجرة الجَوْز التي تحتاج إلى درجة حرارة منخفضة. وهناك أيضًا أشجار النخيل التي تنمو أفضل ما تنمو في المناخ الحار؛ بالإضافة إلى أشجار التين والزيتون التي تحتاج إلى المناخ المعتدل(يوسيفوس، ”حروب اليهود“، الكتاب الثالث، الفصل العاشر، فقرة ٨)
وقد كُتب في التلمود أن الثمرة هناك تنضج بمثل سرعة جريان الغزال! وإذا أكل الإنسان مئة ثمرة، يشتاق أيضًا إلى المزيد، ولأن هذه الثمار حلوة جدًا، فإنه ينبغي أن يتبعها أكل متبَّلٍ مع خبز!
كفرناحوم في التاريخ:
تمتد الفترة التي كانت فيها بلدة كفرناحوم آهلة بالسكان من القرن الأول الميلادي إلى القرن العاشر الميلادي. خلال هذه الفترة الطويلة مرَّت على البلدة فترات من النمو والغِنَى حين بُنيت فيها مباني عامة فخمة، مثل المجمع اليهودي الذي اكتُشِف هناك، كما مرَّت عليها فترات من الانحدار والاضمحلال. وبعد القرن العاشر حتى القرن التاسع عشر، كانت المدينة غير آهلة بالسكان، واستعملها البدو للزراعة السطحية ورعي الغنم.
وفي عام 1866م، بدأ المستكشف البريطاني كابتن تشارلز ويلسون أعماله، فربط بين البقايا القديمة الموجودة في تل حوم وبين بلدة كفرناحوم. وقد ذكر وقتها أنه وجد أجزاء من المجمع اليهودي الذي بُنِيَ في القرن الأول المسيحي بواسطة قائد المئة الروماني والمذكورة قصته في إنجيل لوقا [33]. وهكذا بدأ الاعتقاد منذ منتصف القرن التاسع عشر بخصوص بقايا هذا المجمع أنه يرجع إلى القرن الأول؛ مما جذب السيَّاح المسيحيين إلى هذا المكان.
وأول حفائر حقيقية للموقع، قام بها أثريون ألمان في أوائل القرن العشرين. ثم بدأ الفرنسيسكان في استكمال الحفائر، ملاحظين الأهمية الأثرية والدينية للموقع. ومنذ عام 1905م، استمرت هذه الحفائر حتى اليوم، مع قليل من فترات الانقطاع. وقد ازدهرت البلدة في هذه الفترة بالتجارة والزراعة وصيد السمك. فقد كانت قائمة -كما سبق القول- على طريق رئيسي يربط بين عكا Acco (أو المعروفة باسم: ”بتولمايس“) وقيصرية، من جهة؛ وسوريا، من الجهة الأخرى. لذا فقد كانت كفرناحوم مدينة على الحدود بين الجولان والجليل.ولكن كان هناك اكتشاف لآثار أقدم عمرًا في الركن الجنوبي الغربي مؤكِّدًا لوجود حامية رومانية وقائد مئة روماني في كفرناحوم، والمذكور عنه في إنجيل متى 5:8-13 [34]. وهكذا تكون الاكتشافات الأثرية شاهدة على أحداث الإنجيل.
والاكتشافات الأثرية تؤكِّد أنه في العصر الروماني المتأخر [من القرن الثاني إلى القرن الثالث]، كانت كفرناحوم مدينة ثرية ومزوَّدة بمبانٍ عامة كبيرة ومصمَّمة جيدًا. ولكن، في منتصف القرن الرابع حدثت كارثة كبيرة مما سبب هجران المباني وإعادة تنظيم البلدة مرة أخرى.
الكنيسة ثُمانية الأضلاع:
في عام 359م، تقابل الأسقف إبيفانيوس مع شيخٍ عمره 70 عامًا يُدعى يوسف الذي من طبرية (كان من قبل كاهنًا يهوديًا ثم تنصَّر). وينقل إبيفانيوس عن هذا الرجل قوله إنه أول مَنْ استطاع أن يبني كنائس في الجليل، ”لأنه لم يكن من بينهم، لا يوناني ولا سامري ولا مسيحي“ [35]. فبحسب هذه الشهادة يكون هذا الرجل هو الذي بنى كنيسة كفرناحوم في القرن الرابع.
وتحكي الحاجة إيثيريا في مذكَّراتها، خلال زيارتها عام 385م، عن المجمع اليهودي، فتقول:
وفي كفرناحوم، ومن حول منزل الأول في الرسل [القديس بطرس]، أُقيمت كنيسة، لا تزال حوائطها قائمة كما كانت. في هذا المكان شفى الربُّ المشلولَ [المفلوج](الحاجة إيثيريا، مذكراتها عن المجمع اليهودي)
والجملة الأخيرة تشير إلى تقليد مُتعارَف عليه، أن الرب يسوع كان في هذا الوقت «في البيت» [36]، أي في بيت القديس بطرس [37]. وفي عام 1986، نقَّب العالِم فيرجيليو كانيو كوربو حول هذه الكنيسة، وأشار إلى أن موقعها كان تمامًا في وسط كنيسة بيزنطية ثُمانية الأضلاع ترجع إلى القرن الخامس؛ وتحتها بقايا مسكن صيَّاد سمك من القرن الأول، به بعض الحجرات المزخرفة والمنقوش عليها رسوم تجعلها صالحة للعبادة المسيحية. وقد استمرت على هذا الحال من القرن الأول وحتى القرن الرابع. وبعد ذلك، أُقيمت الكنيسة ثمانية الأضلاع تمامًا فوق حجرة الصلاة الأولى [38].
وبالإجمال، يمكننا أن نستنتج أن الاكتشافات الأثرية قد رسمت خريطة لتاريخ بلدة كفرناحوم بتواريخ محددة. فتقريبًا قد ظهرت مدينة كاملة في وسط ضباب الخرائب: البيوت والساحات والمباني الدينية، وأيضًا المباني العامة الأخرى.
كفرناحوم ”تهبط إلى الهاوية“ بسبب عدم توبتها:
وخلال تاريخ البلدة الطويل حدث أن نُهبت مدينة كفرناحوم ثلاث مرات بواسطة الغزاة؛ وأيضًا تهدَّمت ثلاث مرات بواسطة الزلازل، كان الأخير منها في القرن الحادي عشر الميلادي، مما أدَّى إلى ضربة قاتلة للمدينة لم تَقُم منها أبدًا.
وبالرغم من أن الرب يسوع قد كرز هناك، إلاَّ أن المدينة رفضت التوبة. وهكذا تنبأ الرب يسوع بمصيرها: وأنتِ يا كفرناحوم المرتفعة إلى السماء، سوف تُهبطين إلى الهاوية!
[39]. وقد تمَّت هذه النبوَّة، وإنْ كان تنفيذ الحُكم قد حدث تقريبًا بعد ألف عام من النطق به.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟