تفرض علينا ضرورات الحياة ويجبرنا تعدد أدوارنا فيها على التعامل مع بعضنا البعض من وراء الأقنعة. ففي عالم يضجّ بالسطحية والادعاءات والمظاهر، ويحتدم فيه الصراع وتتصادم المصالح، نجد أنفسنا مضطرين لإخفاء حقيقتنا وراء واجهات مختلفة تناسب كل دور وموقف. ولأن البعض يُسرف في ادعاء ما ليس فيهم لأغراض خبيثة في نفوسهم وسعيًا لما لا يستحقون من المكاسب المادية أو المعنوية، لهذا تشوهت فكرة الناس عن الأقنعة وطالها كثير من سوء السمعة، وربط الكثيرون بينها و بين الخداع والاحتيال.
ومع ذلك، من المهم التمييز بين استخدام الأقنعة المشروع وغير المشروع. ففي بعض الحالات، يمكن أن تكون الأقنعة بمثابة حماية ضرورية للأفراد، خاصة في المواقف التي تتطلب الحفاظ على خصوصيتهم أو سلامتهم. يمكن للأقنعة إخفاء هُوِيَّة الأفراد في المواقف التي يرغبون فيها الحفاظ على سرية هويتهم، مثل الاحتجاجات السياسية أو التحقيقات الصحفية. كما يمكن للأقنعة أن توفر حماية جسدية للأفراد من العنف أو الاعتداء، خاصة في المواقف عالية الخطورة مثل مناطق الحرب أو الصراعات المسلحة العنيفة. كما يمكن استخدام الأقنعة للتعبير عن جوانب مختلفة من الشخصية، مثل الإبداع أو الفكاهة. الأقنعة يمكن أن تكون وسيلة للتعبير عن الذات الإبداعية دون قيود الرسميات، حيث تسمح للأفراد باستكشاف شخصيات مختلفة وإظهار مواهبهم الفنية. كما يمكن أن تكون بمثابة أدوات هزلية أو فكاهية لإضفاء جو من المرح على المواقف.
لذا، بدلًا من إدانة الأقنعة بوجه عام، يجب أن نكون حذرين ونفهم الدوافع الكامنة وراء استخدامها. فبينما قد تكون بعض الأقنعة تهدف إلى خداع الآخرين، يمكن للبعض الآخر أن يكون وسيلة للتأقلم أو التعبير عن الذات، خاصة بالنسبة للأشخاص الذين يعانون من القلق الاجتماعي أو الخجل، يمكن أن توفر الأقنعة شعورًا بالأمان والراحة. كما يمكنها تمكين الأفراد من التفاعل مع الآخرين دون الشعور بالضغط أو التعرض للأحكام المسبقة. وفي هذه الحالات، يمكن اعتبار ارتداء الأقنعة آلية تكيف صحية تساعد على تحسين جودة الحياة.
ومن خلال التمييز بين هذه الاستخدامات المختلفة، يمكننا الحفاظ على نظرة متوازنة لفكرة الأقنعة وتجنب الحكم عليها بشكل خاطئ. من خلال الاعتراف بهذه الاستخدامات المتنوعة للأقنعة، يمكننا الحفاظ على نظرة أكثر تعاطفًا وتفهمًا لهذا الجانب المعقد من السلوك البشري. لكن تعميم الفكرة السلبية المغلوطة للأقنعة هو ببساطة؛ خاطئ، فكلنا نرتدي الأقنعة سواء شئنا الاعتراف بذلك، أم أبينا. بعضنا يستخدمها كدرع ليحمي نفسه من التألم، وبعضنا يرتديها هربًا من عالم يراه قبيحًا مستهجنًا لكن لا تسمح له ظروفه بالانعزال عنه بشكل واقعي فيواجهه من وراء القناع، وبعضنا يرتديها ليستر بها عيوبه كي يكون مقبولًا مجتمعيًا، وكلنا يستخدمها للعب أدوار اجتماعية متنوعة كدور الأب أو الزوج أو المدير.
والأمثلة كثيرة تنأي عن الحصر، فالكاتب الذي يكتب تحت اسم مستعار، والفتاة التي تُكثر من وضع المساحيق، والشخص الذي يُكثر من المجاملة، ومن يبتسم ليداري توعكًا بالقلب، ومن يتظاهر بالثقة ليخفي شعورًا داخليًا بأنه أقل من الآخرين، ومن يدعي الشجاعة في حين ينتفض داخله خوفًا وجزعًا. غالبًا ما يتم ارتداء هذه الأقنعة دون وعي أو قصد، حيث يحاول الأفراد إخفاء عيوبهم أو تعزيز مظهرهم أو التعامل مع مشاعرهم الداخلية.
مسألة استخدام الأقنعة إذن ليست زيفًا كلها. فاختياراتنا للأقنعة فيها شيئ من الصدق، إذ إننا لا نختار إلا الأقنعة التي تشبهنا، أو تلك التي نريد أن نكونها، ولذا تظل هناك دائمًا علاقة بين كينونتنا الداخلية وما نحاول أن نكون في الظاهر. فالناس مع الوقت يصبحون ما يتظاهرون به إلى درجة أن يصعب عليهم هم شخصيًا التفرقة بين حقيقتهم وقناعهم. ومن هنا كانت إحدى نظريات علم النفس الخاصة بتعزيز الثقة في النفس عن طريق ترديد أقوال إيجابية عن الذات لمقاومة الإحباط الداخلي. بمعنى أن ترتدي القناع حتى تصدقه أنت نفسك وأن تلعب الدور حتى تتقمصه أنت شخصيًا.
ويبدو أن الدنيا فعلًا مسرح كبير كما قال القدير يوسف وهبي، بل إن كلمة personality بمعنى شخصية، هي كلمة مشتقة من الكلمة اللاتينية persona، التي تعني حرفيًا قناع المسرح. فقد كان القناع في بداية تاريخ المسرح يستخدم كأكسسوار ومع تطور الفن المسرحي قام بعض المخرجين بإستخدامه كأداة وتقنية مسرحية ترمي إلى تجميد وجوه وأشكال الممثلين بحيث يستطيع المتفرج النظر إلى داخل الشخصية وجوهرها وليس إلى مظهرها الخارجي.
المفارقة هنا هي أن استخدام القناع في هذه الحالة كان يرمي إلى الكشف عن الحقيقة لا إلى إخفائها كما يُظن، ما حدا بأوسكار وايلد إلى القول بأن القناع قد ينبئك بأكثر مما ينبئك به وجه الشخص الحقيقي.
مهما كانت الأقنعة التي نرتديها، فإن الحقيقة التي تعلمناها هي أنه لا ينبغي أن ننخدع بالصور المثالية التي يقدمها لنا الآخرون. فوراء كل قناع، تكمن قصة، قد تكون أحيانًا مأساوية ومحزنة للغاية. قد نرى شخصًا يبدو واثقًا وسعيدًا، لكن خلف ابتسامته قد يكمن ألم عميق أو صراع داخلي. قد نرى شخصًا يبدو ناجحًا ومنظمًا، لكن تحت هذا القناع قد يكمن شعور بالوحدة أو عدم الكفاءة. قد نرى شخصًا يبدو قويًا وغير قابل للتأثر، لكن في أعماق قلبه قد يكون هشًا وجريحًا.
من خلال فهم أن لكل فرد قصة وراء قناعه، يمكننا أن نصبح أكثر تعاطفًا وتفهمًا تجاه الآخرين. يمكننا أن نتعلم أن ننظر إلى ما وراء السطح وأن نعامل الناس باحترام وكرامة، بغض النظر عن الصورة التي يقدمونها لنا.
الأقنعة مثلها مثل أدوات ضرورية أخرى كثيرة في حياتنا، استخدامها ليس شرًا في حد ذاته، إنما طريقتنا وأهدافنا هي ما يسبغ عليها جدارتها وشرفها.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟