في مرحلة ما بعد الحداثة وبعد تآكل نظام العمل بمفهومه القديم القائم على الصراع الطبقي بين الطبقة البرجوازية وطبقة البروليتاريا، أخذ اليسار يبتعد تدريجيًا عن النظريات الماركسية بتفسيراتها الأصلية عن الصراع الاقتصادي الطبقي واتخذ منحى جديدًا في الكفاح ضد المظالم الاجتماعية عن طريق دعم الأقليات والفئات المهمشة لتحسين مواقعهم في البنية الاجتماعية باعتبار ذلك هدفًا أكثر مسايرة للواقع الاجتماعي.
تقوى هذا المسار اليساري بشكل كبير مع تنامي العولمة التي لعبت دورا هاما في إعادة ترتيب الخارطة الحزبية وفي تغيير أنماط التصويت فنجحت أحزاب اليسار في البداية في اجتذاب الفئات المتضررة من العولمة الاقتصادية وهي الفئات الأقل مالا وتعليمًا وذلك بطرحها لبرامج تعد بحماية اقتصادية من سلبيات العولمة.
ومع ازدياد التوسع في عمليات الهجرة من الدول الفقيرة في الجنوب والشرق إلى الدول الغنية في أوروبا وأمريكا تعززت هذه العولمة الاقتصادية بعولمة ثقافية اجتماعية خلقت واقعا ثقافيًا واجتماعيًا وديموغرافيا جديدًا في دول المهجر.
وظهرت شرائح مجتمعية جديدة لها خصوصيتها الثقافية والدينية والهوياتية وليست تندرج ضمن الفئات التي تحظى باهتمام اليسار ولكنها في الوقت ذاته لم تكن مقبولة من أحزاب اليمين المتطرف التي كانت بدورها تخشى على هويتها القومية المحلية من التآكل والاندحار.
والحقيقة إننا بقليل من التحليل للمشهد السياسي العالمي يمكننا أن نرى كيف شكلت هذه الشرائح موقفًا وسطيا بين اليمين القومي المتطرف، وبين اليسار الذي تلاقت توجهاته مع الخطاب الدعائي للعولمة، الذي يتمحور حول حقوق الأقليات ويتبنى شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان كغطاء وتوظيف سياسي للنشاط الاقتصادي المتوحش الذي تسيطر عليه الشركات متعددة الجنسيات، الذي يهدف إلى تفتيت البنى القومية والوطنية للدول الغربية مستخدمًا آلية التقسيم الهوياتي كبديل عن علاقات المواطنة.
تحول اليسار عن مساره الداعم للطبقة الكادحة وأصبح تدريجيًا نصيرًا للعولمة ومدافعًا شرسا عن المهاجرين، كما أنه نسف مفهوم المساواة واستبدله بمنظومة امتيازات وتفضيلات جاءت على حساب العدالة وتكافؤ الفرص وقام بإعلاء قيمة الصوابية السياسية على حساب قيمة الحريات الشخصية وحرية التعبير، حتى أن توصيف اليمين بمفهومه القديم أصبح ينطبق بالأكثر على أحزاب اليسار التي مازالت تتمسك بالتسمية برغم ابتعادها ابتعادًا تاما عما يفترض أنها تمثله وخاصة من الزاوية القيمية.
اليسار اليوم هو النظام الذي تنعدم فيه الحرية المدنية والسياسية، وتمنح فيه الامتيازات للقيادات والزعماء، وهي الصفات التي كانت تميز التيارات اليمينية بحسب المفهوم الأصلي للمصطلح.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟