منذ انعقاد أولى ندوات مؤسسة ، يشهد المشهد الثقافي العربي جدلًا حادًا لم ينتهِ حتى اليوم. ومصطلح “جدل” هو مصطلح إعلامي مُضلل، ففي الحقيقة هو “هجوم” على النخبة الثقافية بأكملها. ويمكننا تحديد أبرز ملامح هذا الهجوم فيما يلي:

* الطبيعة الأصولية: يرتكز الهجوم على فكرة رفض أي محاولة لإعادة قراءة أو نقد للتراث الديني، معتبرًا ذلك تجاوزًا على الثوابت الدينية.
* الطابع الشعبوي: يستغل الهجوم مشاعر الغضب والاستياء لدى شرائح واسعة من المجتمع، مُصورًا النخبة الثقافية كعدوّ يسعى لتدمير قيمهم وإرثهم الديني.
* التجريم والمحاسبة على الأفكار: تُستخدم أدوات القمع والترهيب لفرض الرأي الأصولي، حيث وصل الأمر إلى السعي لمحاكمة أفراد أمام نيابة الأمن الوطني، والتفتيش في ضمائرهم وأفكارهم التي أُثيرت قبل تأسيس المؤسسة.

في الحقيقة إن هذه المؤسسة، أعني تكوين الفكر العربي، تواجه الآن ما يواجه كل مثقف متفرد، وبالرغم من أني ألحظ في ردود أفعالهم تعاملًا حرفيًا خبيرًا بالمجمل، لكن المشكلة الأعمق في مسألة الهجوم على المثقّفين هو تأثيراتها الاجتماعية العامة على النقاط التالية:

* الخوف من التعبير: يخلق هذا الهجوم جوًا من الخوف والحذر بين الكُتّاب والمفكرين، ويحد من حريّة التعبير عن آرائهم خشية التعرض للملاحقة.
* الجمود الفكري: يُسهم الهجوم في تكريس حالة من الركود في الخطاب الثقافي العربي، والذي هو شبه ميّت ويحتاج إنعاشًا، ﻻ المزيد من صمت المقابر.
* تهميش الاختلاف والإجبار على التوافق مع القطيع: يُساهم في تهميش استقلاليّة الأصوات ومنع المشاركة والاشتباك والتفاعل مع الحوار العقلاني والفكري.

على كل حال، يُعد النقاش حول الإصلاح الديني أمرًا ضروريًا للتطور والتنمية في العالم. لكن يجب على النخبة الثقافية التصدي لهذا الهجوم الأصولي والشعبوي بالتمسك بالمزيد من الحوار العقلاني والرفض القاطع للتكفير والتجريم. ومؤسسة “تكوين الفكر العربي” أرى أنها مستعدة للتصدي لمسألة “التكفير”، لكنها ﻻ تبذل جهدًا ملائمًا للتصدي لمسألة “التجريم” فيما يبدو. أو تقف منه موقف المدافع عن النفس بينما المطلوب هو مزيد من مهاجمة “التجريم” للأفكار.

أسامة الأزهري

بعيدًا عن الرأي الشخصي، وعودةً إلى السياق الإخباري؛ ظهر مؤخرًا فضيلة الدكتور في جانب المعادين لمؤسسة تكوين الفكر العربي، وكتب كلامًا كثيرًا جدًا نُشر على المواقع المصرية والعربية، والخلاصة كالتالي:

ﻻ يعي الدكتور الأزهري مفهوم المؤسسة، وعمد إلى شخصنتها في شخوص، واستهدفهم كشخوص في الدعوة لمفهوم مناظراتي قرن-أوسطي بامتياز. بمعنى آخر، هو لم ينظر لأيًا من الإنتاج الفكري أو المواد المنشورة على موقع المؤسسة، بل استدعى من ذاكرته أفكارًا نمطية مُسبقة عن س أو ص من الناس، ليضمهم في النهاية لخط عريض من “منكري السنّة”! واعتبر -من ظنّياته- أنها مؤسسة إسلامية قرآنيّة ﻻ تعتد في عقيدتها سوى بالقرآن وحده. وهذا في عرف المفكرين دلالة “قصور عقلي” لأنه نمط تفكير مشوش ومتسرع وأهوج، بُنِي على مُقدمات خاطئة وبالضرورة يقود لنتائج خاطئة.

يذكرني هذا الموقف بمغالطة شهيرة في المنطق تسمى مغالطة “الرجل القش”. لقد بنى الأزهري صورة مشوهة للمؤسسة بناءً على افتراضاته وأوهامه وأحكامه المُسبّقة (أو لنقل تجاربه وخبراته المحدودة مع الأزهر)، ثم هاجم هذا “الرجل القش” المُصنّع بدلًا من المؤسسة الحقيقية. في جوهر الأمر، هذا الأزهري “زبون لقطة”، ونموذج للمتحمس الطيب الذي يُسيء فهم بواطن الأشياء، فيختلق العدو المعبّر عن كوابيسه هو، ثم يستخدم هذه الصورة المُصنّعة لتبرير آرائه السلبية.

الأكثر انتهازية، هو ما فعلته وكالة أنباء العربية حين أشارت إلى أسامة الأزهري بـ “مستشار الرئيس ” خلال تقرير عن تصريحاته، ووضعت هذا اللقب في عنوان التقرير. والذي عُرض بشكل بارز في شريط الأخبار في مواقع إخبارية أخرى، مخلقًا تساؤلات عدّة؛ حيث بدا وكأنه يدلّ على مستوى من الاعتراف الرسمي والتأثير قد لا يتمتع به الأزهري. وتُسِلط هذه الفعلة الانتهازية الضوء على التوازن الدقيق بين تقديم المعلومات الواقعية، والتأثير على الرأي العام من خلال لغة وأطار العرض لتلك المعلومات.

من الواضح أن هذا ادّعاء صحفي مبالغ فيه كعنوان مثير. قد يسعى أسامة الأزهري إلى أدوار مهمة، لكن من المغلوط تصنيفه كشخصية معبّرة عن الإرادة السياسيّة للدولة. أفعاله تتحدث بصوت أعلى: فهو لم يكتفِ بطلب مناظرات لشخصيات عامة بناء على “سوابقها” الثقافيّة وحسب، إنما اقتراح خطة للقضاء على “منكري السنة”، وأعلن عن رغبته في الحصول على دعم ماديّ مقابل تدريب فريق من 100 باحث لمكافحة هذا التهديد المزعوم، وهؤلاء الـ”باحثين” وضع لهم معايرًا للجودة الإعلامية كمظهر دون مقومات فكرية. (سيتولى هو إعدادهم الفكري!) هذه المطالب، تكشف عن نهج سطحي للخطاب الفكري الذي يمثّله الأزهري، فما بالك بمستشار الرئيس! (بيفكرني بكتيبتين دائرة مغلقة، وأنا فعليا معرفش مين هنا مستشار مين، بس اللي يمشي ورا الكلام ده، هايلبس).

إرميا القبطي

المناظر المكافئ والمعادل الموضوعي لمن “ياكلها والعة” في العالم المسيحي، هو نيافة ، وهو باختصار زعيم ديني يجمع الأموال من رجال الأعمال الأقباط عبر تقديم فواصل إعلانات. فواصل إعلانات تتخلل أي محتوى؟ مش مهم! فالهدف هو نقود الإعلانات التي يتم حشوها بالمحتوى لاحقًا! يحتكر ، الذي يديره الأنبا إرميا، كلّ التسجلات الفيديوية لقداسة البابا ، كجزء من أرشيف المركز لمدير المركز، فالحقيقة أن إرميا لم يكن مديرًا لشيء بل البابا الراحل نفسه كان المدير. وعند رحيل البابا شنودة، سطا الأسقف الثقافي سطوا على رتبة الإدارة البابويّة، وجعل من نفسه المدير الحصري للمحتوى الشنودي إكسكلوسيف! والذي تفنن في توظيفه عكس إرادة ال الثاني، البابا الحالي.

والحقيقة أنها ذاكرة خارقة للعادة تلك التي يدير بها إرميا نشاطه الإعلامي المعارض للبابا. كلما قال تواضروس شيئًا، يستجمع إرميا ذاكرته الـ8 جيجا التي لم يحنِها الزمن، ليوقظ البابا السابق للبابا اللاحق في خطابات واضحة التعارض لإحراج البابا الحالي، ويتناقلها أبناء الأنبا بيشوي، وكفر الشيخ السابق -الذين أشار إليهم الأزهري الغير عالم بسراديب الكنيسة- في موجة من المقارنات والمناحات الكربلائيات والبكاء على الحسن والحسين الذان رحلا وجاء مكانهما تواضروس! تحوّل التراث الكنسي لعروسة على شكل بطريرك يحركها إرميا وتتحرك معها مشاعر الملايين من محبيه، وأنشر على فضائية إرميا الخصوصي؛ “ميسات”، وهاتجيب أموال الإعلانات!

لا نعرف أيّ رقابة على هذا المال التجاري الإعلاني، بل لا يُعرف إن كانت هذه الأموال تُعتبر عُشورًا أو تبرعات أم أنها مجرد إعلانات تجارية باهظة الثمن مقابل انتشار ضعيف. فالشريحة المستهدفة بقناته المسيحية لا تختلف عن الشريحة المستهدفة بقناة سلفية، بل قد يكون السلفيون المسلمون أكثر نفوذًا وقوة، بينما السلفيون المسيحيون هم فئة ضعيفة اقتصاديًا، معظمهم من السيدات المسنات اللاتي لا تأثير حقيقي لهن في أسرهن خاصة في المسائل التجارية كمنتوجات الإعلانات. وهذا ما يُلاحظ في المركز الثقافي القبطي وقناة “ميسات”، حيث لا يُعرف شيئًا عن قوائمها المالية وأين تُصرف أموالها، آخذين في الاعتبار أن أجور العاملين فيها لا تتناسب مع الحد الأدنى للأجور، بحجة أنها “خدمة كنسيّة” وليست مشروعًا تجاريًا. كل هذه التجارة ليست تجارية!

يتاجر الأسقف بالله وبالمسيح وبالإنجيل وبالموتى وبالمشاعر تجاه المنتقلين في كل محفل، ورغم ذلك يمنع غيره أن يُسمى أفعاله التجارية باسمها! يساهم في أسلمة الكنيسة ومفرداتها وأنماط التفكير السائدة فيها، ولا يليق أن ندعوها "أسلمة"، بل نُرغم على اعتبارها؛ "وحدة وطنيّة"!

تحاور أسامة الأزهري مع إرميا الثقافي القبطي، ويبدو أنه نقل فهمه الإسلامي الملتبس أن مؤسسة “تكوين” هم جماعة من “منكري السنّة”، لكنه نقل التباسه إلى سياق مسيحي، فأصبحت المؤسسة جماعة من منكري “التقليد الكنسي”! يكشف الحوار بين الأزهري وإرميا، عن سوء فهم مشترك وفوضى مُتفق عليها في قياس الأمور الغير متكافئة بين الإسلام والمسيحية، فتصبح دعوة للتسطيح والسذاجة العامة من باب “الوحدة الوطنية” في رغيف. حوار هاتفي مبتسر بين رجليّ دين كانت نتيجته ساندويتشات ثقافية مسمومة، تلك هي البضاعة التي تفهمها مؤسساتنا الدينية، الأزهر، والمركز الثقافي القبطي! ترى، هل نستطيع أن نحكم على الأزهر والكنيسة، والإسلام والمسيحية، من خلال صفوتها المعتمدة كمستشارين ومثقفين؟ أم أننا سنكون بذلك قد انحدرنا للمستوى الذي انتقدنا فيه منهجيّة تكوّن الأفكار عند الأزهري ذاته؟

ما يهمنا هنا أن إرميا، مدير الثقافة القبطية والإعلانات، لم يتحر الأزهري في فهمه، وكيف يتحراه والرجل -الثقافي القبطي- أجوف من أي خلفيات ثقافية عامة عن الصراع الثقافي أساسًا! يكفيه أنهم أخوة في “بيت العائلة” لكي يأخذ الأمر على عواهنه كمسألة تصديق إيماني! ومن ثمّ، نقل نيافة الحبر الجليل “نقل مسطرة” كلام “تالتة ابتدائي” أزهري؛ إن السنة قولية وفعلية، وإننا كمسلمين عرفنا الصلاة والشعائر من السنة الفعلية نقلا عن أفعال الرسول اللي وضحت أداء الشعيرة، وبالتالي السنة وإنكارها هو إنكار لحاجة أساسية في الإسلام! (أنا واخد سكرينشوت لتعليقه.. و”تعليقه” هنا مش بمعنى كومنت،، لا، أنا هاسيبلكم مسألة “تعليقه” بحيث “تعلقوه” بمعرفتكم)

مطبّ ثقافي

قداسة اللا-مثقف القبطي واقع في “مطب” كبير جدًا أبعد من أن يفهمه كفتى إعلانات القناة، ألا وهو أنّ المعادل المكافئ لطائفة “القرآنيين” حديثًا أو المعتزلة قديمًا هم “الإنجيليين”، ال! يجادل إرميا وينتقد مجموعة محددة [مؤسسة “تكوين الفكر العربي”] على انهم بروتستانت؟! أيّ تضامن مع الأزهر في رغيف!

قُرَّاؤُ المسيحيَّة، أو الإنجيليُّون، أو أولئك الذين لا يُقيمون قداسةً للتراث التقليدي، هم في الحقيقة لا مذهب لهم ولا طائفة لهم ولا فرقة ضالة، وإنما ألفٌ وسبعمئة مذهب وطائفة وفرقة، يشكِّلون مجتمعين رقمًا محترمًا لا يُستهان به في الكوكب، والأدهى أنهم ليسوا أقلية إلا في عالمنا العربي، لكنهم مثلًا الغالبون في الولايات المتحدة الأمريكية، والغالبون في جمهورية الصين الشعبية، وما أدراك ما أمريكا واقتصادها والصين واقتصادها وتعدادها، خصوصًا لمحترفي التسول الديني بالإعلانات التجارية يا مدير قنوات الشحاذة الفقيرة المحتوى!

معتزلة المسيحية، أو الإنجيليون، هم من علّموا العالم المسيحي، متمثلاً في ال، الموجودة في خمس قارات، خطورة مبدأ [الكتاب المقدس وحده]، والسولات الخمس الكبرى، أو الأحاديات الخمس الكبرى، هي مفهوم ثقافي ولاهوتي يصف الاختلالات المنهجية في تكوين الرأي (ومن ثمّ مفهوم العقيدة المعطوبة المتكوّنة عند أصحاب هذا الرأي) في القرون الوسطى. شاع هذا المصطلح عند اللاهوتيين اللوثريين في وصف بعض الأفكار اللاهوتية للإصلاح البروتستانتي. أي أن الإنجيليين هم من وصموا الكنيسة التقليدية بإدعاء كفاية الكتاب المقدس وحده، وليس العكس.

كلمتين لابد أن يعرفهما القارئ المحايد، (لأنه لا أمل في هذا الأزهري المستشار، أو ذاك الثقافي المديوكر فتى الإعلانات):

وجود الإنجيليين البروتستانت على مدى خمس قرون يوفر أساسًا متينًا لتقييم تأثيرهم على كل من الإنسانية والمسيحية. بدلًا من الاعتماد على آراء متحيزة من أفراد محافظين ضيقي الأفق، ودعنا نلجأ هنا إلى الفاتيكان، الخصم التاريخي العنيد لهذه المذاهب؛ في 2016 شارك بابا الفاتيكان في افتتاح كنيسة لوثرية في السويد بمناسبة مرور 500 عام على ، وفي 2017 قدم بابا الفاتيكان رسالة تهنئة للإنجيليين بمناسبة نفس الذكرى، خاتمًا رسالته بـشكرا، لقد جعلتم المسيحيّة أفضل.

الفاتيكان هنا، في لحظة من التأمل التاريخي، يعترف بالدين الذي يَدين به لمنتقديه. هذا ليس مجرد خطاب فارغ أو ثناء أجوف كما يفعل فتى الإعلانات الأسقفيّة، بل هو اعتراف ثقافي بأنه؛ لولا انتقدني خصمي الذي يحب المسيحية مثلي، لما أهداني عيوبي، والتي حين عرفتها واعترفت بها كعيوب، لما حسّنت من نفسي وأساليبي وتطورت وصرت أكثر رهافة وأكثر صحّة، أي: لولا النقد لما صرت أكثر قوّة.  فمن خلال تسليط الضوء على العيوب، دفعهم هؤلاء المنتقدون إلى فحص أنفسهم، والاعتراف بضعفهم، وتحسين نهجهم في نهاية المطاف، ليصبحوا أكثر رقيًا وقوة نتيجة لذلك. ببساطة، يفهم الفاتيكان أن النقد، واستقباله بشكل بناء، يمكن أن يكون أداة قوية للتغيير الإيجابي. وهو ما لا يُحسنه رجال مؤسساتنا الدينية الرسمية فيما يبدو!

يُظهر هذا الاعتراف من الفاتيكان قوة النقد البناء، وكيفية أنّه يمكن أن يُساهم في التطور والتقدم. فمن خلال التحدي، والجدل الإصلاحي، بل والحرب الأهلية أحيانًا، تم دفع كل من الفاتيكان والإنجيليين إلى إعادة النظر في معتقداتهم وممارساتهم، مما أدى إلى تحسين وتطوير كلا الكنيستين. هذا التبادل النقدي يُبرهن على أنّ التعددية الدينية لا تُشكل تهديدًا وجوديًا كما يتصّور المنغلقون، بل يمكن أن تُصبح قوة دافعة للنمو والتطور، مما يُثري الفهم المشترك للروحانية والمسيحية.

هكذا قصد الفاتيكان، وهكذا فهمناه نحن، وهكذا يُرى الإصلاحيون دومًا في عيون خصومهم؛ هكذا حقيقة الأمر وديناميكية تشبيك الأيدي بين المستنيرين في العالم باختصار.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

باسم الجنوبي
[ + مقالات ]