أثرت العادات المصرية على وجدان المصريين وظهرت في طقوسهم الدينية… فمثلا ذكرى اليوم الثالث، وذكرى الأربعين للمتوفي، كلها عادات مصرية قديمة متداخلة مع الطقوس الجنائزية لتأبين الموتى، وفي نقطة من أشد اهتمامات الأديان وأكثرها حساسية: الحياة بعد الموت.

معظمنا يعرف اهتمام قدماء المصريين بالحياة الأخروية ونبوغهم في التحنيط وبناء المعابد الجنائزية… بطبيعة الحال، ده كان مكلف جدا، خصوصا إن في بعض العصور كان لازم المتوفي يتدفن ومعاه مقتنياته الثمينة بدل توريثها للأبناء… وبالأرجح كانت التكلفة العالية مقصودة من كهنة المصريين، بحيث إن التقاليد دي تكون محدودة في التطبيق على العظماء فقط… ومن هنا نشأ نوع من تقديس العظماء وإجلالهم متداخل مع تقديس الموت وجلاله… عند المصري القديم فإكرام الميت مش دفنه، وإنما الاحتفاظ بجسده بأكبر قدر من درجات السلامة، أو أقل درجة من درجات التحلل… وكأنهم بيحاولوا يحتفظوا بالجسد موجود معاهم…

المسيحية الناشئة كانت بترفض المظاهر دي كلها، وترى ضرورة دفن الأجساد في مقابر تحت الأرض زي كل الأنبياء والقديسين وزي المسيح نفسه… التأسيس ده كان استنادا إلى:

لأنك تراب وإلى تراب تعود

(سفر التكوين ٣: ١٩)

 

هنلاقي الأنبا أنطونيوس (٢٥١م – ٣٥٦م) أبدى استياءه من عادة ترك الأجساد دون دفن في قبر، والسبب الرئيسي إن المصريين اعتادوا تكفين العظماء وحفظ أجسادهم دون دفن في التراب، بل وضعها على منضدة وحفظها داخل البيوت…

وهنلاقي (٢٩٢م – ٣٤٨م) شدد على تلميذه “تادرس” أن يدفنه مسرعًا كيلا يحمل قوم جسده خلسة ويبنوا له مزارًا كما اعتادوا أن يفعلوا، وارتآها متاجرة، قائلًا:

كل من يصنع هذا، هو يتاجر بأجساد القديسين

(سيرة اليوس، النص القبطي الجنوبي)

 

أما القديس الرسولي (٢٩٦م – ٣٧٣م) فتعرض لهذه العادات عام ٣٦٩م في الرسالة الفصحية ٤١، ودي مفندة الموضوع جملة وتفصيلًا ومسمياه “ازدراء بالقديسين” – “إهانة أجساد القديسين”، ويشرح أثناسيوس ألا أصل مسيحي لها ثم يتساءل: من يشاهدها “دون أن يرتعد”:

تجرؤوا هم أيضًا أن يقاوموا الرب، ويزدروا بالقديسين الذين رقدوا في اسمه لأن أجساد الشهداء الذين جاهدوا حسنًا لم يدفنوها في الأرض، بل يشرعون في وضعها في توابيت، وعلى مَحَفّات خشبية، لكى يراها من يريد. وهم يفعلون هذا بشكل كما لو أنه من أجل كرامة الشهداء، لكن الأمر -في الحقيقة- هو ازدراء [بالشهداء] لم يسلمنا آباؤنا هذا في الزمن القديم قرر الله على بحكمٍ قائلًا: أنت تراب، وإلى التراب تعود وسَرَت هذه الكلمة على الجميع، سَرَت على كل واحد في آدم، وكل الذين يموتون في كل مكان يدفنون المكان الخارجي سيشهد عن جسد الرب أنه وُضِع في قبرٍ، وأيضًا أن القبور تفتّحت وقام كثير من أجساد القديسين من سيرغب في أن يقابلهم [من يفعلون هذا] وهم يهينون أجساد القديسين مثل الأنبياء الكذبة؟! من شاهد أجساد الشهداء والأنبياء مطروحة ومكشوفة دون أن يرتعد؟! هذا ليس من شِيّم المسيحيين. لم يُسلّمنا بولس هذا، لم يفعل البطاركة ولا الأنبياء هذا في أيّ زمن

(القديس أثناسيوس الرسولي، الرسالة الفصحية رقم ٤١)

 

الوضع اختلف بداية من القرن الخامس في عصر كيرلس (٣٧٦م – ٤٤٤م)، إذ إن صداماته مع كل ما هو غير مسيحي، جعل بعض المسيحيين ينتقدون هذا عبر المشاركة في احتفالات الآلهة المصرية “” كنوع من التقارب الاجتماعي للدلالة على إمكانية التعايش السلمي… وهنا فكر “عمود الدين” في استخدام العادات المصرية واستغلالها بدلا من التصادم معها، فقام ببناء مزار مسيحي في نفس مكان احتفالات المصريين بالآلهة إيزيس، ووضع في هذا المزار جسدي القديسين أباكير ويوحنا عام ٤٢٩م

وبعدها، دعم ال رئيس المتوحدين (٣٤٨م – ٤٦٦م) هذا التوجه الجديد للكنيسة، فنجده في عظاته يشجع على زيارة المزارات والصلاة فيها ربوات ربوات كما الكنائس!

المزارات كانت مربحة جدا ماديًا، فده شجع المحتالين على الدخول في هذه التجارة، فبنوا مزارات وهمية بدفن عظام مجهولة المصدر لتحقيق مكاسب مادية من الإقبال الجماهيري على المزارات… وهنلاقي عظات “رئيس المتوحدين” بتحذر من مثل هؤلاء المحتالين:

يقول البعض: قد ظهر لنا شهداء وقالوا لي أن عظامنا مخبأة في مكان ما. ولما وصلنا إليهم وأمسكناهم في ضلالهم وجدناها عظام كلاب

(الأرشمندريت ال)

الغبي يصدق كل كلمة، ويؤمن أيضا بكل الأشياء على الإطلاق

(الأرشمندريت الأنبا شنودة، رئيس المتوحدين)

 

بحلول القرن السابع كانت مصر ممتلئة بعدد هائل من المزارات، كل اللي ميت له ميت بيعمل له مزار ومن ساعتها وإحنا على الحال ده.. فعليا الكنيسة دخلت واستغلت ده وأسست نفسها على الاستشهاد من سنين السنين، وده بيعجب المصريين من سبعتلاف سنة! ومن الارتباط ده بدأت كنائس غير مصرية في تقليده.. يعني بدل ما المسيحية تأثر على عادات المصريين، عادات المصريين هي اللي أثرت على المسيحية وصدرتها للعالم كله.

المتاجرة بأجساد القديسين 1في العصر الراهن إحنا عندنا مواقف متقدمة جدا ولا يمكن احتمالها من الإتجار بالموتى، ذلك الإتجار المصبوغ بالقداسة.. في أماكن كتير قائمة على عرض جثث أو أجزاء منها أمام العامة، والأمر متخطي صراع مغاغة مع دير الجرنوس على أجساد الضحايا في حادثة دير الأنبا صموئيل الأولى، أو زفة سيدهم بشاي بدمياط، أو رأس شهيد مجهول بأديرة أخميم، أو بيان مطرانية مغاغة لسرقة جثمان قس، وتخطى مسألة المزارات وتأليف قصص للكرامات على وسائل التواصل الاجتماعي، ووصل لتجارة بشكل انتهازي فاضح.. مثلا من سنتين وفي صلبان خشبية متعاصة دم، بيتباع الواحد على إنه مصنوع من خشب الدكك المحطمة نتيجة تفجير الكنيسة البطرسية.. والناس بتشتريها بـ ٢٠٠ وبـ ٣٥٠ جنيه! ومحدش يعرف إن كان ده خشب قفص فراخ، ولا ده دم خرفان!

في أصوات طالبت الكنيسة تشوف حل في المتاجرة بمشاعر الناس البسيطة، وللأسف مشفناش ولا أسقف عمل حتى عظة!! بل هناك عظات لكهنة يشكرون الإرهابي لإرساله ضحاياه للسماء.. وأم (ابنها اتقتل!) فتزغرد وتنبسط بشكل مش سوي نفسيًا، ولا تعرف دي رحمة من ربنا بيها، ولا تعرف تقولها “غلط” وهي موجوعة..

أي دين دخل مصر وأعتنقه المصريين، مكنش قدامه فرص كتير للصدام مع الموروث المصري المترسخ في الوجدان.. أحيانا المؤسسات الدينية بتتصالح مع ده كعادات اجتماعية.. أحيان تاني بتستغله لصالحها بشكل مادي.. وفي أحيان قليلة بتستغله بشكل سياسي لتجاوز الاحتقان بعد المحن الطائفية..

المرفقات مهمة، وفيها مصادر ومعلومات أكثر تفصيلًا..

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

باسم الجنوبي
[ + مقالات ]