لعلك تذكر تلك الصورة الكاريكاتورية لأحد رؤساء جمهوريتنا السابقين وقد غطت بذلته جميع الأوسمة والنياشين التي تقلدها الدولة لمستحقيها، فالرجل -فور انتخابه- وضع لنفسه كل القلادات والأوسمة، حتي وسام “الكمال” المخصص للسيدات، لم يتورع عن منحه لنفسه. أثار الأمر حينها استياءًا واسعًا وسخرية قاسية، فالرجل المؤتمن علي كل مقدرات الدولة، قد طعن الأمانة في مقتل في اختبار مبكر.
التوصيف الصحيح لما حدث -كما قد تتفق معي- أن الرجل بصفته حكمًا مؤتمنًا، حكم باستحقاقه هو نفسه لكل التكريمات الممكنة من الكيان الذي قاده حظه العاثر أن يكون تحت رئاسته! الموقف برمته يتكرر اﻵن كنسيًا بكثافة، فما أن يتنيح أسقف حتي نفاجأ بأن الرجل قد أعد لنفسه مزارًا فخمًا مستقلًا، بل ومدائح -رغم ركاكتها- لا تبدو لي أنها أُعدت علي عجل.
الوحيد الذي خالف القاعدة و لم ينشئ لنفسه مزارًا، بل ترك وصية بالدفن في” طافوس” ديره، قذفوا بوصيته عُرْضَ الحائط وأقاموا له مزارين وليس واحدًا، في تصرف يعيد إلي الذاكرة ما حدث لوصية القديس البابا كيرلس السادس، وسنأتي لها لاحقا.
الواقع أن هؤلاء الأساقفة بهذه المزارات المعدة لهم، يعلنون علينا قداستهم، رغمًا عن أنوفنا وأنف التقاليد الكنسية المستقرة التي أزاحت إعلان القداسة لنصف قرن علي الأقل، وأنف القرار الذي استصدره منهم قداسة البابا في اجتماع للمجمع المقدس بحظر إنشاء مزارات أو كتابة مدائح لمن لم تُعلن الكنيسة قداستهم “بعد”.
ولنبدأ الحكاية مبكرًا قليلًا، فلم تكن كنيستنا تعرف المزارات، حتي تربع علي السدة حبر مختلف، فصنع حبرية خاصة جدًا. لا أزعم أن ما سأسرده اﻵن هو الوقائع بحذافيرها، ولكنها أفضل المعلومات المتوفرة لدي.
بدأت صحوة المزارات في العصر الحديث بعد نياحة أبونا البطريرك القديس كيرلس السادس، كانت وصية قداسته واضحة تمامًا، لا تحتمل اللبس، الدفن بملابسه وقت الوفاة، بالمدفن اسفل “الكنيسة” بدير مار مينا، لم يذكر قداسته شيئًا عن مزار أو مدفن خاص، ولا أعلم إن كان يقصد هذا المكان المدفون به حاليًا أم كان يقصد مكانًا آخر. لكن مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث لم يرضه الدفن بهذه الطريقة، فأمر بتجهيز مزارًا لجسد قداسة البابا كيرلس، واستغرق الأمر عشرين شهرًا حتي نُقل جسد قداسته إلي المزار الحالي، ومن هنا كانت البداية.
ثانية الأثافي، كانت نياحة أبونا القديس بيشوي كامل، وطلب قداسة البابا شنودة أيضا تجهيز مدفن له داخل الكنيسة! لم تكن هذه فكرة أو رغبة أبونا القديس، ويظهر هذا من البيان الذي اصدره كهنة الكنيسة المباركة، يشكرون فيه قداسة البابا شنودة، ويطلبون دفنهم في مدفن كهنة الإسكندرية (وبالمناسبة: إعلان قداسة أبونا بيشوي كامل لا يزال رهينة في سراديب مجلس الأساقفة)
لم يكن أحد ليعترض علي إنشاء مزار لأحد القديسين سالفي الذكر، رغم شذوذ الفكرة، لمكانتهما عند جموع الشعب القبطي، وقداستهما التي ليست محلًا للنقاش، فمر الأمر دون نقاش.
أصبحت المزارات أمرًا واقعًا، يقبله الشعب كقضية مسلم بها، لا يتناطح فيها عنزان، لم تعد حتي”القداسة”معيارًا، أو بالأحرى، أصبحت القداسة صفة لصيقة لكل من يحمل عمة الأسقفية، وبات المزار لزوم الأسقفية.
ثم ظهرت نوعية جديدة من المزارات، داخل الأديرة، لرهبان يزعمون قداستهم تأسيسًا علي أنهم “بهاليل”، و”علي باب الله”، وأن معجزاتهم تملأ سيرهم. ولكني يا سادتي الأعزاء نقبت كتب التاريخ بحثًا عن معجزات لأثناسيوس وكيرلس ولم أجد، أنطونيوس والمقارات ولم أفلح، ذهبي الفم والكبادوك ولم أنجح. لابد أن هناك سببًا خاصًا يدعو الرب أن يؤيد قديسينا المحدثين هؤلاء بالمعجزات، وحينها لابد أن نسعد بوجود مزارات لهم.
الجديد هو ما فاجأنا به البعض من إعادة تأهيل مزارات بأثر رجعي. وتتلخص الحكاية في أن نيافة الجليل العظيم بحق الأنبا أثناسيوس، مطران بني سويف المتنيح، قد سُجي جسده في مدفن مُجمَّع [طافوس] لأساقفة الإيبارشية في أحد الأديرة بنطاق الإيبارشية، كما هي العادة المستقرَّة والمتَّبعة في كنيستنا. فهل يمر الأمر هكذا؟ لقد شاهدنا عملًا تأهيليًا لتحويل المدفن إلى مزار، وأنا على يقين أنه لو سُئل نيافته -وهو الرجل الذي كان يرتق جواربه زهدًا- لاستنكر بشدة.
نعم يا سادة، شيدوا ما تشاؤون من المزارات في الأديرة، للأساقفة والبهاليل ومن شئتم، ولكن ابتعدوا عن الكنائس.
كنائسنا طريقنا للحياة، وليست محلًا للقبور.