تكلمنا عن آلام الرب من حيث رؤية الرب لآلامه ورؤيتنا نحن لآلام الرب، [1]
والآن، ماذا نقول عن القيامة؟
لا يستقيم أن نقول ما هي رؤيتنا للقيامة؟ فالقيامة حياة جديدة غير منظورة لا تُرى، فهي ليست حدثًا زمنيًا يختص بهذا العالم كلية؛ فهذا العام ينحصر في فعلين: ميلاد وموت، ويُحكم ببُعدين: بُعد زماني وبُعد مكاني. والقيامة فعل ثالث فوق الميلاد والموت، وبُعد ثالث فوق الزمان والمكان. لذلك فالقيامة تخرج عن نطاق المنطق العقلي.
مفتاح إدراكنا للقيامة يلزم أن نفحصه أولا في الإنجيل:
في إنجيل متى، الذي فيه ير بط ربطًا محكمًا بين موت المسيح وقيامته وتأثير ذلك على قيامتنا نحن [2]:
فصرخ يسوع أيضًا بصوت عظيم وأسلم الروح! وإذا حجاب الهيكل قد انشق [علاقة الله بالإنسان] إلى اثنين من فوق إلى أسفل، والأرض تزلزلت والصخور تشققت والقبور تفتحت وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين، وخرجوا من القبور بعد القيامة، ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين.(إنجيل متى ٢٧ : ٥١-٥٣)
فجر القيامة العامة:
هذه هي شهادة الإنجيل عن القيامة وهى مطابقة تمامًا لعلامات القيامة العتيدة العامة. إذن، فالإنجيل هنا يهمس في آذاننا أن قيامة المسيح من الأموات هي في حقيقتها وفعلها فجر حقيقي للقيامة العامة وبدء لها:
القيامة أثرت في موتى القبور:
في الحقيقة يُعتبر هذا النص الإنجيلي من أهم النصوص التي وردت عن موت الرب وقيامته:
+ لأنه ير بط ربطًا عمليًا وواقعيًا مشاهدًا ومشهودًا له من كثيرين أن موت الرب أنشأ في الحال تأثيرًا فعالًا محييًا في الموتى، ومن هنا جاء نشيد الكنيسة المعبر عن لاهوتها الخالد:
بالموت داس الموت، والذين في القبور أنعم عليهم بالحياة الأبدية.
+ ثم كان هذا النص وهذا اللحن هو الأساس العملي أيضًا على مستوى المشاهدة والشهادة لإيمان الكنيسة: إن قيامة المسيح من الموت أطلقت القائمين من الموت من قيودهم، أي حرَرتهم من سلطان الزمان والمكان، وبدأوا بالفعل يحيون الحياة الأخرى علنًا كعربون وشهادة. فاللحن تقليد كنسي يقوم على الإيمان بمفهوم الموت والقيامة في الكنيسة.
هذا هو فجر الخلاص الذي شهده التلاميذ.
إيمان الكنيسة ولاهوتها مشاهدة فعلية:
وهكذا يتبلور إيمان الكنيسة منذ البدء على أساس مشاهدة فعلية، أي خبرة إيمانية جماعية:
– أن موت المسيح داس الموت، وأنهى على سلطانه في الحال، وفك أسرى الهاوية.
– وأن بقيامة المسيح وظهوره، بدأت القيامة للإنسان بالفعل، وإن كانت كحالة خاصة، أي عربون للقيامة العامة للقديسين.
ومن هنا جاء الإيمان القوي الذي له ما يسنده ويبرره ويشهد له من الإنجيل بخصوص عمل أرواح القديسين الراقدين في العالم الذين ظهروا لكثيرين.
القديس بولس يستلم من التلاميذ
و يسلم ما تسلمه لأهل كورنثوس:
هذا الإيمان الكنسي المعتبر حجر الزاوية في اللاهوت المسيحي، استلمه القديس بولس الرسول كتسليم قائم على إيمان واستعلان ورؤيا واختبار من التلاميذ. ثم سلمه لأهل كورنثوس (كان ذلك عام ٥٥/٥٦م.) كما نقرأ في رسالة كورنثوس الأولى فإني سلمت إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضًا أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب، وأنه دُفن وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب
[3]، لا كأنه اختبار إيماني وعقيدة مسلمة من التلاميذ فقط، ولكن أضاف إليها إيمانه هو الاختباري الواقعي فيما بعد.
وطبعًا نضيف إلى ذلك رؤيته هو للمسيح علنًا وسماع صوته.
ويلاحظ أن محور دفاع القديس بولس الرسول عن قيامة المسيح، ليس هو لإثبات قيامته، بل لإثبات قيامتنا، مع أنه قدم الشهود العيان وهو واحد منهم. ولكن نعود ونقول وننبه: ما قيمة شهود عيان لحادثة لا يحكمها الزمان والمكان؟ فلا العين تستطيع أن تتحقق منها خلوًا من موهبة الانفتاح، ولا العقل يمكن أن يستوعب الرؤيا ويصدقها خلوًا من موهبة إيمان. لذلك نجد الشهود قليلين جدًا، لأنهم مختارون من الذين يستطيعون أن يروا ما لا يُرى.
كما أننا لا نجد شهادة واحدة من الجميع يتفق عليها الجميع. ففي رؤية القديس بولس للمسيح سمع بعض الذين معه الصوت ولم يروا أحدًا، وبعضهم رأوا ولم يسمعوا. كذلك في دخول القديس بطرس والقديس يوحنا للقبر الفارغ، فإن بطرس رأى وخرج مندهشًا، ويوحنا نظر وآمن.
وهذا هو الحال في رواية القيامة في الأناجيل الأربعة، الأمر الذي حير العلماء واستنفذ كل ذكائهم وصبرهم بلا أي فائدة… فالقيامة أولًا وأخيرًا حالة فائقة لا تدرك إلا بانفتاح خاص وموهبة خاصة، في حالة أو مستوى روحي خاص. لذلك نجد القديس بولس الرسول لا يركز على القبر الفارغ أو شهادة النسوة أو الملاك. لكنه ركز على حقيقة القيامة كمحور الكرازة بالمسيح على أناس أنها تنشئ قيامة فينا [4].
ولكن إن كان المسيح يكرز به أنه قام من الأموات، فكيف يقول قوم بينكم إن ليس قيامة أموات؟ فإن لم تكن قيامة أموات فلا يكون المسيح قد قام! وإن لم يكن المسيح قد قام، فباطلة كرازتنا وباطل أيضا إيمانكم، ونوجد نحن أيضا شهود زور لله، لأننا شهدنا من جهة الله أنه أقام المسيح وهو لم يقمه، إن كان الموتى لا يقومون. لأنه إن كان الموتى لا يقومون، فلا يكون المسيح قد قام. وإن لم يكن المسيح قد قام، فباطل إيمانكم. أنتم بعد في خطاياكم! إذا الذين رقدوا في المسيح أيضا هلكوا! إن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح، فإننا أشقى جميع الناس. ولكن الآن قد قام المسيح من الأموات وصار باكورة الراقدين.(رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس ١٥ : ١٢-٢٠)
هذا الإيمان الواثق استلمه القديس بولس واختبره، وهو قمة الإيمان بالمسيح وبدونه لا منفعة بالإيمان بالمسيح قط.
– إن لم يكن المسيح قد قام فباطلة كرازتنا.
لماذا؟
لأننا واثقون بالمشاهدة والتسليم، ولأن قيامة المسيح ليس لها أي هدف أو غاية إلا إقامتنا نحن من الأموات.
– وباطل هو إيمانكم،
لماذا؟
لأن أي إيمان بالسيح بدون الإيمان الحي أنه قام من الأموات، فلن يجعل لنا نحن قيامة، وإذا لم تكن لنا قيامة فنحن أشقى جميع الناس لأننا نبقى في خطايانا ونتألم بلا رجاء، حيث تنتهى حياتنا كأيّ إنسان آخر، عند القبر.
القيامة غيّرت التلاميذ:
من نص إنجيل القديس متى ٢٧ : ٥١-٥٣، ونص رسالة القديس بولس إلى أهل كورنثوس ١٥ : ١٢-٢٠، نستشف بيقين نحسه في أعماق قلوبنا، أن الكنيسة الأولى كانت تعيش بالفعل في حالة يقين الإيمان بالقيامة، لا كمجرد مبدأ إيماني أو نظرية لاهوتية، ولكن كانت تعيش في حالة قوة هذه القيامة (أي خصائص الخليقة الجديدة) كعربون.
وهذه الحالة بعينها وليس أي شيئ آخر سواها هي التي نقلت التلاميذ من حالة الخوف وعدم الإيمان وضعف الفهم وانعدام الإدراك لكل ما قاله وكل ما تم على الصليب، إلى اللحظة التي اعلن فيها عن القبر الفارغ وسمعوا فيها بخبر قيامة المسيح من الملائكة [5]:
فأجاب الملاك وقال للمرأتين : «لا تخافا أنتما، فإني أعلم أنكما تطلبان يسوع المصلوب. ليس هو ههنا، لأنه قام كما قال! هلما انظرا الموضع الذي كان الرب مضطجعًا فيه. واذهبا سريعًا قولا لتلاميذه: إنه قد قام من الأموات.»(إنجيل متى ٢٨ : ٥-٧)
ولكن كيف استلم التلاميذ هذا العربون أو هذه الحياة الجديدة بكل خصائصها؟
لم تكن البراهين المادية على الإطلاق سببًا في قبول التلاميذ حالة الإيمان بالقيامة ونوال عربونها، فلا القبر الفارغ ولا حديث النسوة ولا شهادة الملائكة ولا رؤية الرب نفسه كان كافيًا، لأنه مكتوب بكل وضوح [6]:
وأما الأحد عشر تلميذًا فانطلقوا إلى الجليل إلى الجبل، حيث أمرهم يسوع. ولما رأوه سجدوا له، ولكن بعضهم شكوا.(إنجيل متى ٢٨ : ١٦-١٧)
الرب يسلم سر قيامته بسلطانه للتلاميذ:
ولولا أن الرب تقدم وبدأ يكلمهم ثم وهبهم في هذه اللحظة قوة وسلطانًا خاصًا على إدراك كل الحقيقة، لبقوا بلا إيمان [7]:
فتقدم يسوع وكلمهم قائلًا: «دفع إلي كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا [هنا فاء العلّة تأخذ معنى أنّه أعطاهم هذا السلطان] وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم [السند الثاني الدائم] كل الأيام إلى انقضاء الدهر». آمين.(إنجيل متى ٢٨ : ١٨-٢٠)
ولتوما الرسول:
حتى في حادثة توما، فإن الذي جعله يؤمن هو انفتاح بصيرته قبل وضع أصبعه بقول الرب لا تكن غير مؤمن بل مؤمن
[8].
واضح جدا أن التلاميذ لم يستطيعوا أن يقبلوا القيامة بالبرهان المادي أو الفعلي على الإطلاق، لذلك تدخل الرب يسوع وسلّمهم هذه القيامة بكل سلطانها كفعل حياة سرى، خليقة جديدة. لذلك، فالقيامة في الإنجيل وفى الكنيسة هي سر يُسلّم من داخل الأسرار.
القيامة مجد:
كما يلزمنا أن نفهم تمامًا، أن القيامة ليست مجرد قيامة أجساد من الموت، بل هي حالة مجد لخليقة جديدة، هي شركة في مجد الله.
فجسد المسيح المقام كان في حالة مجد. لذلك كان من العسير للعين العادية والإيمان العادي أن يدرك القيامة إدراكًا كاملًا، إلا إذا أُعطي نعمة نظر هذا المجد، وإلا لن يرى إلا مجرد خيال، كما ظنه التلاميذ عند أول ظهوره:
– وفيما هم يتكلمون بهذا وقف يسوع نفسه في وسطهم، وقال لهم: «سلام لكم!» فجزعوا وخافوا، وظنوا أنهم نظروا روحًا…
[9]. مع أنه كان واقفًا أمامهم بكل مجده.
من هنا يبدأ إيماننا بالقيامة. فالقيامة حالة مجد، واشتراك «في مجد». لا هي إيمان عقل ولا رؤية عين!!
الذوكصا:
لذلك يُقال أن كل نداء بالمجد Δόξα [ذوكصا] في الكنيسة هو إعلان وشهادة أن الكنيسة حاضرة بالقيامة في حضرة الآب والابن والروح القدس. فالنداء بالذوكصا إعلان عن حالة القيامة التي تعيشها الكنيسة في كل لحظة، هو نداء الاعتراف والتوسل معًا.
واضح جدًا يا أحبائي، أن الكنيسة الأولى كانت تعيش في هذه الحالة عينها، حالة المجد = الذوكصا، حالة القيامة، حالة حضور الرب حسب وعده الصادق والأمين ها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر.
[10].
حضور الرب بيننا هو حالة قيامة ممجدة ندخل فيها ونعيش فيها. الكنيسة هي مكان حضور الرب عندما تكون مجتمعة باسمه للشهادة لاسمه. فالكنيسة تعيش غد القيامة وتسلمها لأولادها طالما هي تشهد وتكرز وتعلم وتسجد بالروح والحق.
تسلم قوة القيامة من الرب المُقام نفسه:
ثم لاحظوا تمامًا أن التلاميذ لم يقبلوا حقيقة القيامة كفعل وحياة وطاقة شهادة وكرازة وفرح إلا من الرب نفسه وبروحه القدوس عندما كانوا مجتمعين معًا، سواء فى العُلية بعد القيامة أو في العُلية في يوم الخمسين.
لذلك لابد أن نفهم ونعى تمامًا أنه يستحيل علينا أن نعيش في عربون القيامة أو نقبل فعل الحياة الأبدية أو نذوق مجد الله، إلا بحضور المسيح ومع المسيح وفى ملء الروح القدس. فقيامة المسيح هي قيامتنا كما تقول الكنيسة في أوشيّة كل إنجيل لأنك أنت هو قيامتنا كلنا وحياتنا كلنا.
كما يلزمنا أن نلاحظ أن البرهان المفرح والمقنع جدًا على قبول التلاميذ قوة قيامة المسيح هو تحول حياة التلاميذ من الضعف إل القوة، ومن اليأس إل الرجاء، ومن الخوف إلى الشجاعة، ومن الإنكار والهرب إلى الكرازة والفرح بالاضطهاد والبذل حتى الموت.
لذلك يناسبنا أن نضع هذا المقياس الحساس والدقيق جدًا نضب أعيننا، لكي نتحقق من حصولنا على سر قيامة الرب في حياتنا.
سر قوة القيامة:
الرب الحاضر بقيامته معنا وفينا والذي نكرز بموته وبقيامته له كل السلطان على كل السماء والأرض!!
من الأسباب التي جعلت التلاميذ يتغيرون ويصيرون على مستوى القوة للكرازة لكل العالم هو أن الرب استلم كل سلطان ما في السماء وعلى الأرض.
العلاقة هنا -بين سلطان الرب والكنيسة- سرية للغاية. والرب نفسه هو الذي أشار إليها دفع إلي كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم…
[11]. الأمر الذي يعطيه الرب هنا لتلاميذه بالذهاب للكرازة للعالم كله ليس أمرًا عاديًا بل هو مشفوع بتأكيد ووعد وتأمين سري أنم سيعملون تحت مظلة سلطان المسيح، هذا الذي تخضع له كل السماء والأرض.
قيامة المسيح هنا لم تقف عند حد غلبة الموت، أو حتى الصعود إل السماء، أو حتى مجرد الجلوس عن يمين العظمة في السموات. بل إن قيامة المسيح كشفت عن مستوى المجد الذي للمسيح. إذ تسلم من الآب كل سلطان ما في السموات وعلى الأرض، ولكن ليس مجرد أن يحتل المسيح مكانته في المجد لنفسه، ولكن لا يزال هذا المجد والسلطان يعمل لحساب الإنسان.
فالرب بكل وضوح وعلانية، يؤكد لتلاميذه أن ذهابهم إلى أقصى العالم للخدمة والكرازة إنما هو المسئولية المباشرة المنبثقة من سلطانه، أي أنه نال هذا السلطان لتكميل خدمة الكرازة على الأرض لخلاص العالم.
امتداد القيامة:
هذه الحقيقة تعطى للقيامة امتدادًا في السماء، وعلى الأرض (الكنيسة)، لتكميل الخلاص من واقع سلطان المسيح الحاضر في كنيسته بقيامته ومجده وسلطانه معًا.
فمعنى أن يأخذ المسيح سلطانا في السماء وحدها شيئ، وكونه يأخذه في السماء وعلى الأرض فهو واضح جدًا أن المسيح يملك في كنيسته على الأرض بسلطانه السمائي لحساب خلاص كل نفس.
وهذا الوعد أو الأمر بحد ذاته يعطى للكنيسة قوة ورجاء وعزاء لا يُقهر ولا يقف عند حد. كما يعطى لكل فرد يسعى نحو بلوغ القيامة قوة دفع، لا يقدر الموت نفسه أن يوقفها. فالمسيح الذي يجذبنا والذي نجري وراءه، سلطانه ملأ السماء والأرض.
والكنيسة التي تعيش في قوة القيامة هي حقًا تعيش في نور الجالس عن يمين العظمة، في استعلان المجد، في الذوكصا الدائمة!!
بالموت داس الموت، والذين في القبور أنعم عليهم بالحياة الأبديةبقلم الأب متى المسكين، نُشر أوّل ما نُشر في مجلة مرقس، عدد مايو ١٩٧٩، الصفحات من ۳ إلى ٨
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
اطرح عنك ذاتك التي تمنعك من الانطلاق في حرية أولاد الله