قبل أن نواصل عرض ما كتب بموسوعة “وصف مصر” عن مسيحيي مصر وخاصة الأقباط [المسيحيون من أصل مصري] نتوقف قليلًا مع ما جاء في الجزء السابق نشره هنا.
في بداية هذا الفصل، يورد المترجم الأستاذ زهير الشايب تعليقًا يقول فيه:
من نافلة القول أن نذكر بأننا هنا بصدد أثر علمي يقتضى الواجب نقله بأمانة نصًا وروحًا، ومع ذلك فجدير بالذكر أن الصورة القاتمة هنا هي نموذج لحالة كل المصريين باختلاف طوائفهم في ذلك العهد، حيث كان كل أبناء مصر يهانون وإن اختلفت الحجج والادعاءات بحسب مقتضى الحال، وبرغم ذلك فإن الصورة هنا تختلف في كليّاتها، بل يصل الاختلاف أحيانًا لحد التناقض مع ما جاء في دراسات أخرى بوصف مصر، نذكر منها -على سبيل المثال- ما جاء بدراسة “دى بوا إيميه” في وصف مدينة منوف، وما جاء بدراسة “لانكريه” عن نظام الضرائب على الأراضي الزراعية، وكذلك ما جاء بدراسة “جيرار” عن الزراعة والتجارة والصناعة. كما أنه لا يمكن التسليم بصحته بحال من الأحوال، بل لا يمكن تصور طرحه على الإطلاق، فليس هناك ما هو أيسر من دحضه.(زهير أحمد الشايب، مقدمة كتاب وصف مصر)
وقد أورد المؤلف الفرنسي عديد من النقاط التي تكشف أنه اكتفى بما استقر في ذهنه من تعاليم تذهب إلى تبعية القديس مرقس الإنجيلي للقديس بطرس الرسول، وهى مقولة شاعت في سنوات الصدام في عصر المجامع، سعيًا لاعتبار كنيسة الإسكندرية رافدا لكنيسة روما.
وعندما يصف كنيسة مصر لا يسميها بمسماها الذي استقر لها في عصور الكنيسة الأولى وعرفت به، كنيسة الإسكندرية كرسي مار مرقس، وبعد الانشقاق الذي أعقب مجمع خلقيدونية، 451م، تحصنت الكنيسة بعباءتها القومية فصار اسمها كنيسة “الأقباط الأرثوذكس”، وتظل واحدة من الكراسي الرسولية الخمسة، محتفظة بموروثها اللاهوتي وتراثها الطقسي.
رغم هذا يشير الكاتب إليها في استعلاء لا تخطئه عين بأنها طائفة من الهراطقة تخضع لبطريرك، ويتبع هؤلاء أراء أوتيخوس [أوطاخي] ونسطوريوس [نسطور].
!!، وهنا تتجلى عدم معرفته بإيمان كنيسة الإسكندرية، التي تصدت لما قال به نسطور وفندته، في مجمع أفسس المسكوني، 431م، وكان البابا السكندري كيرلس عمود الدين هو من تصدى له.
اللافت أن المؤلف يجمع بين نقيضين؛ بين نسطور الذي ذهب إلى أن شخص المسيح هو إنسان فقط حلت عليه “كلمة الله” بعد العماد في نهر الأردن بيد يوحنا المعمدان، وفارقته عند الصلب، إذًا -بحسب نسطور- فإن اللاهوت لا يولد ولا يتألم ولا يموت. ولذلك فأن الله الكلمة قد سكن في شخص إنسان وبذلك يكون المسيح من شخصين.
وبين أوطاخي الذي انتفض ليدافع عن طبيعتي المسيح، في مواجهة نسطور، وإن نُسب إليه أنه يقول أن الناسوت قد ذاب في اللاهوت مثلما تذوب نقطة الخل في المحيط. أي إن الطبيعتين قد امتزجتا معًا في طبيعة واحدة.
وهو أمر اقترب منه باحثين معاصرين ورجعوا لوثائق خلقيدونية ليؤكدوا من خلالها أن أوطاخي لم يقل بهذا الكلام. للمزيد راجع مقال الكاتب رجائي شنودة: هل كان أوطاخي أوطاخيًا؟.
وقد أكد “أوطاخي” بحسب الباحثين أنّه فيما يتعلق بحضور الكلمة في الجسد، فأنا اعترف أنه حدث من جسد العذراء، وأنه صار إنسانًا بالكمال من أجل خلاصنا.
وبعد طلب للاستيضاح أضاف: لم أتحدث قبلا عن جسد ربنا بكونه واحد في ذات الجوهر معنا، ولكني اعترف بأن العذراء كانت بالطبع واحدة في ذات الجوهر معنا، وأن إلهنا أخذ جسده منها.
فاستدركه أحد الأساقفة قائلًا: إن كانت الأم هي واحدة في الجوهر معنا، فلابد أن يكون هو نفسه واحدًا في ذات الجوهر معنا!!
فأجاب أوطاخي: فيما تقوله أنت الآن، أنا اتفق تمام الاتفاق.
[1]
فكيف تؤمن كنيسة بالشيء ونقيضه، وهو ما نفاه باحث هندي أرثوذكسي في كتاب هام جدًا لكل من يسعى للتعرف على ملابسات مجمع خلقيدونية، والصراعات السياسية (والقومية) داخله بين كنيسة أنطاكية وكنيسة الإسكندرية، والذي انتهى إلى حرم أوطاخي وحرم البابا ديسقورس، والكتاب متوفر باللغة العربية وعنوانه مجمع خلقيدونية – إعادة فحص
للأب ف. سي. صموئيل، ترجمة دكتور عماد موريس إسكندر، ومراجعة دكتور جوزيف موريس فلتس، ومن إصدارات دار باناريون. [2]
ملاحظة: ما أوردته متعلقًا بأوطاخي هو طيف من جدل يدور في أروقة الباحثين، ونأمل أن يأتي وقت في سياق السعي المسكوني للوحدة المسيحية تجلس فيه الكنائس معًا وتعيد فحص النقاط الملتهبة والمناطق الخلافية، بهدوء وموضوعية في ضوء الكتاب والآباء لنصل إلى اتحاد الإيمان ونكون معًا آنئذ “كنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية”.
نعود في مقال تال لنستكمل ما سجلته موسوعة “وصف مصر” عن الأقباط، فإلى لقاء..
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: العلمانيون والكنيسة: صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨
نحاول تخمين اهتماماتك… ربما يهمك أن تقرأ أيضا:
- الجهل المقدس صار أسقفا! “كلامي هنا يدور حول الدين الاستحماري، الدين المضلل، الدين الحاكم، شريك المال والقوة، الدين الذي يتولاه طبقة من الرسميين الذين لديهم بطاقات للدين، لديهم إجازات للاكتساب وفيها علامات خاصة تنبأ عن احتفاظهم بالدين وأنهم من الدّعاة، ولكنهم من شركاء الاثنين: المال والقوة ” (علي شريعتي، كتاب: النباهة والاستحمار) “هذا الأسقف” لم يحصل على أي شهادة......