ما وراء خط النار
القوى المعنوية والإلهامات المنبعثة من المعركة الأخيرة..
(متى المسكين، بيت التكريس بحلوان)
«( مقدمة )»
إن الحرب التي نخوضها الآن مع إسرائيل حرب كبيرة وطويلة، وتحتاج منا إلى تفهم ووعي في كافة الاتجاهات والأبعاد، حتى نستطيع أن نصمد ونكافح، ولكن، فوق كل شيء، أن نحتفظ بالدور القيادي وتظل معنوياتنا ذات سمات روحية تسمو فوق كافة الظروف والأقدار.
وإذ نعلم تمامًا أن وراء وجود إسرائيل وزرعها زرعا كدولة وسط الشعوب العربية عوامل سرية وخطيرة، تعتمد في تأثيرها ودوامها على أوهام دينية، بثتها إسرائيل ودعاتها في الشعوب الغربية.
كما ونعلم أن الحرب الأخيرة التي شنتها إسرائيل على الدول العربية المحيطة بها، سبقتها تمهيدات وتصريحات دينية، اضطلعت بها الهيئات الرسمية التي تمثل الكنيسة الغربية، أصبحنا الآن نستطيع ألّا نرتاب فيها فحسب، بل وندينها كخطة داخل الميدان.
كذلك، إذ نتبين من صمت الشعوب الغربية إزاء حكوماتها، التي اضطلعت بدور فعال خطير في المعركة الأخيرة، والذي تسبب عنه مآسي إنسانية شديدة، كان من المستحيل أن يقبلها الضمير الشعبي الغربي، لولا إصابته بتعمية عامة، وتخدير في الضمير، مهدت له الدعايات الدينية السياسية، بمبادئ وأخلاقيات تنافي الحق والحقيقة.
وفوق هذا كله، إذ لا تزل الإذاعات الغربية تتهم الشعوب العربية اتهامات باطلة، وفي نفس الوقت تتغاضى عن حقوقهم القومية، وتتجاهل وطنيتهم وشعورهم الإنساني.
رأينا أنّه من واجبنا أن نسهم في توعية شعبنا، والشعوب العربية كافة، بما وراء هذه المعركة من دوافع خفية، وأوهام دينية، ومغالطات، حتى نستطيع أن نقف في وجه هذه الدولة المصطنعة المعتدية بضمير خالص وشهادة من الله.
(متى المسكين، بيت التكريس بحلوان، يولية ١٩٦٧)
الفصل الأوّل
العوامل الدينية التي اُستخدمت لتزكيّة العدوان الإسرائيلي
أولًا: استغلال العواطف الدينية لكسب إستراتيجية الشعوب العربية
لكى نستطيع أن نواجه العدوان الإسرائيلي اليوم ونأخذ موقفًا واضحًا منه يلزمنا أن نتعرف على تاريخه، فهو لم يبتدئ بحرب ٥٦١٩ ولكنه ابتدأ مبكرًا جدا منذ سنين طويلة، فإسرائيل نشطت ورسمت خططها في الدول الديموقراطية الرأسمالية حيث يتكتل زعماء اليهود وأغنياؤها، وكان لها منذ البدء متحمسون للدعاية لها في كل بلد من الذين تتعلق مصالحهم معها، وبالأخص أمريكا، حيث يعتمد المرشحون لرياسة الجمهورية على تأييد أصوات اليهود، لأنهم يمثلون كثرة يقظة تستطيع أن تتلاعب بميزان الأصوات.
ولكن كانت القاعدة الأولى التي انطلق منها مخطط إسرائيل -سواء من حيث وجودها كدولة تُزرع الآن زرعًا في وسط البلاد العربية، أو من حيث بنائها الاقتصادي- هي كسب عواطف الشعوب الغربية وتأييدهم لها، وكان من المستحيل النفاذ إلى الضمير الغربي الحر الشريف الذي يمثله الشعب الغربي عمومًا عن طريق اقتصادي مثلا، ولا عن طريق سياسي، ولا عن أي طريق يتنافى مع الشرف أو الإخلاص أو الرجولة، لأن الشعوب الغربية ليس من الهين إقناعها بأيّ مبدأ يتنافى مع الحق والحرية والشرف، فحتى الحكومات هناك مهما بلغت من السطوة والقوة والنجاح فإنها تخشى انتقاد مواطنيها. والشعب في الغرب قادر أن يُسقط أقوى الحكومات إذا لم تستطع أن تبرر موقفها الأخلاقي.
إذن، فلم يكن لدى إسرائيل منذ البدء إلا الطريق الديني، واستخدام إيمان الشعب، وتوقيره للعهد القديم، وبالأخص استخدام اسم «إسرائيل» الذي اقترن في التوراة بمحبة الله الكثيرة وعطفه وعهوده ووعوده…
وقد قبلت غالبية شعوب أوربا هذه الخدعة، أما شعب أمريكا فكاد يتبنى إسرائيل بسبب كثرة تعلقهم بالتوراة، وبكل شيء قديم، لتعويض مركب النقص الناشئ من كونهم دولة حديثة، لا تاريخ لها على الإطلاق.
وقد نجحت إسرائيل في كسب عواطف الشعوب، خاصة بعد الحرب العالمية الأخيرة، بسبب الاضطهاد المريع الذي عاناه اليهود من النازي، وقد استغلت إسرائيل هذا الاضطهاد التاريخي في استدرار عطف أمريكا بصورة فعّالة بعد أن نجحت في مزجه بالعوامل الدينية.
ولكن لعل أخطر العوامل التي عملت على كسب إسرائيل المشاعر الدينية لدى شعوب الغرب، هو تبنى الوعاظ ورجال الدين وقادة الكنيسة لقضية اليهود عامة وإسرائيل خاصة، سواء كان ذلك بتأثر زعماء اليهود المباشر وإغراءاتهم، أو كان بتحمس رجال الدين والكنيسة كرد فعل للاضطهادات التي عاناها اليهود.
ولكن الذي يهمنا هنا هو كيف نفذت إسرائيل إلى ضمير الشعوب الغربية عن طريق الدين والتوراة؟ علما بأن المقطوع به أن لا التوراة، ولا الإنجيل، يقف بجانب اليهود أو يفسح لهم أدنى فرصة لإحياء اليهودية كدين مستقل عن المسيحية، لأن هذا معناه إلغاء للمسيحية نفسها، ونقض دعوى المسيح كمخلص وفادى لإسرائيل!! لأن المسيحية ورثت في شخص المسيح كل ما للتوراة، بكافة أنبيائه، وآبائه، وقديسيه.
إذن، فدولة إسرائيل الحاضرة، التي اتخذت لنفسها هذا الاسم كأساس للخدعة الدينية، لا تمت إلى «إسرائيل التوراة» بأيّ صلة إلا الصلة العنصرية فقط، فالشعب الموجود في إسرائيل الآن ليس إسرائيليا حسب الدين بأيّ حال من الأحوال!!
إسرائيل انتهت بصلب المسيح، وقطعت من أصل شجرة الآباء الروحية، فقد أصبحوا برفضهم للمسيح المخلص والفادي غرباء عن داوود المحسوب أنه رمز للمسيح والأصل الذي انحدر منه بالجسد، وبالتالي أصبحوا غرباء عن يعقوب الذي هو «إسرائيل» الحقيقي!!
إذن فإسرائيل ليست هي «إسرائيل»، ومهما ادعت لنفسها هذا الاسم فهي لا تملك حقيقته الروحية، لأنه لا يمكن الآن أن يقول واحد أنه «إسرائيل حقا» إلا إذا كان مؤمنًا بالمسيح، لأن يعقوب نفسه، المدعو إسرائيل، لم يقبل من الله نعمة ومحبة وعهدًا إلا على أساس المسيح!
إسرائيل، برفضها للمسيح، رفضت كيانها الروحي ووجودها الديني، وقطعت نفسها من نسب الآباء وكافة الأنبياء وكل أمجاد وعهود الله التي في العهد القديم…
إن كلمة «إسرائيل» معناها العبري: «الذي جاهد مع الله وانتصر»، وقد منح الله هذا اللقب ليعقوب بسبب تقواه وإيمانه وحبه الشديد لله. وقد صار لقبا لكل يهودي يعيش مع الله ويغلب.. ولكن ماذا يتبقى من هذا الاسم لليهود الذين جاهدوا «ضد الله» وصلبوا المسيح ولا يزالون يجاهدون ضد الله -بانتهاكهم كافة وصايا المسيح- وضد أولاده؟
ثم إسرائيل القديمة كشعب الله المختار، لقد اختاره الله وأحبه وعطف عليه على أساس الناموس، والوصايا، واتباع الله من كل القلب. والآن انتهى الناموس نهائيًا وإلى الأبد بمجيء المسيح وإعلان حرية الإنسان على أساس الإيمان بالمسيح كفادي، وانتهت الوصايا المعتبرة جسدية من أن تكون أساسًا للخلاص، وصارت وصايا المسيح هي الرباط الروحي الوحيد الذي يربط الإنسان بالله.
أما من جهة اتباع الله من كل القلب، فاليهود المتجمعون في فلسطين الآن لا يتبعون الله إطلاقًا، ومهما ادعوا أنهم متدينون فديانتهم باطلة، لأنهم أعداء الله رسميًا، فهم لا يزالون يجدفون على المسيح ويلعنونه، ليس من تلقاء انفسهم، بل بحسب شريعتهم وبمقتضى ناموس إيمانهم!!
فحيثيات حكم الصلب الذي أصدره رؤساء كهنة اليهود وشيوخ الشعب بسبب عمى قلوبهم، جعلوه مبنيًا ومدعمًا من الناموس: لنا ناموس، وحسب ناموسنا يجب أن يموت
[1]، ولا يزال حكمهم هذا قائمًا على المسيح حتى اليوم، لأنه لا يزال قلبهم مقفلًا تجاه الله. وكذلك ما تمموه يوم الصليب من تجديف وهزء وسخرية على المسيح، مستمدين شجاعتهم الأدبية هذه من ناموسهم. لا يزال هو هو نفس أدبهم الديني: وكان المجتازون يجدفون عليه … وكذلك رؤساء الكهنة وهم مستهزئون فيما بينهم
[2]
وإن كان فخر إسرائيل، قديمًا، ومجد تقربها إلى الله مبنيًا على صلتهم بإبراهيم أبى الآباء المدعو أيضا «خليل الله»، ونحن نعرف أن مجد إبراهيم نفسه وفرحه ورجاءه كان يستمده روحيًا من نسله الذي سيقوم من بعده، أي من المسيح، وأن هذه الصلة السرية العجيبة كشفها المسيح بقوله: إبراهيم أبوكم اشتهى أن يرى يومي، فرأى وفرح
[3]، فالآن بعد أن رفض اليهود المسيح الذي هو سر فرح إبراهيم ورجائه، ماذا يتبقى لهم من إبراهيم أول من وطأت قدماه أرض فلسطين؟
إذن، فمن كل ذلك، يتبدد كل الوهم الذي حاول اليهود المتجمعون في فلسطين أن ينشروه بين الشعوب المسيحية، ليربطوا بين إسرائيل القديمة كشعب الله واسمهم الجديد المزيف كدولة، كما يتبدد كل الوهم الذي نسجوه في عقول المسيحيين من جهة كيانهم الديني كنسل للآباء والأنبياء وبالتالي كامتداد للعهد القديم، فهذا ينفيه رفضهم للمسيح ويحرمهم من كل ميراث روحي أو ديني، وبالتالي يكون أيّ تعاطف من نحوهم يقدم على أساس ديني هو تعاطف كاذب، لا أساس له من جهة الله، أو الحق، أو الروح.
ومن ذلك يتضح أن حرب إسرائيل مع البلاد العربية بحجة تثبيت كيانها الديني كإسرائيل أو كامتداد لإسرائيل القديمة الذي تتصوره الشعوب الغربية هو باطل من أساسه، وبالتالي تكون أيّ معونة عسكرية أو مادية أو أيّ دفاع منطقي عن موقفهم أو أيّ تواطؤ سرى أو علني أو حتى تعاطف من جهة الضمير على أساس أنّها حرب دينية أو يدخلها عنصر ديني بأيّ شكل من الأشكال هو ضد الإيمان المسيحي، وبناء عليه تكون مساندة الشعوب الأمريكية والبريطانية السافرة لدولة إسرائيل المزعومة، إن كانت على أساس ديني، فهي مساندة لا يقرها الإيمان المسيحي، وبالتالي لن تحوز رضى الله بالنهاية.
ثانيًا: الكنيسة الغربية تضطلع بدور إستراتيجي
هل نستطيع الآن أن نفهم سر الوثيقة المنبعثة من ألمانيا، والتي ساندتها أمريكا، واتخذت حيالها طرق الضغط والتكتيك والصبر الطويل والصمود والمراوغة والتكتّل، حتى خرجت من تحت يد وضمير أكبر رجل ديني مسئول في العالم، البابا بولس السادس، وموافقة أكبر هيئة دينية غربية، أي الفاتيكان، تساندها هيئة مجلس الكنائس العالمي! وهى وثيقة «تبرئة اليهود من دم المسيح»؟ [4]
لماذا كانت هذه الصحوة في هذا الوقت؟ وقد عاشت الكنيسة كلها بكافة عقائدها ألفين سنة تقريبًا تدين اليهود، ولمّا كانت الكنيسة تدين اليهود كانت تستمد حكمها من كافة النبوّات ومن الإنجيل ومن الحوادث التي عانتها الكنيسة من اليهود في الثلاثة قرون الأولى ومن المجامع المسكونية، وفوق كل هذا من الضمير الإنساني.
والكنيسة في إدانتها لليهود لم تكن جاهلة بالحقيقة، ولا متجنية على الجناة، ولا متعصبة للدين، ولا متعامية عن المحبة والرفق والإنسانية، ولكنها كانت ولا زالت تدين اليهود لصلبهم للمسيح حتى توقظ فيهم ضمير التوبة والندامة، فهي في دينونتها لليهود تشهد للصليب وتشهد للحق وتدعو الجاني للتوبة.. لان كل يهودي يعيش الآن على وجه الأرض هو تحت الحكم، ليس من الكنيسة فقط بل من الله، وبحسب الإنجيل هو واقع تحت غضب الله.
ولكن الكنيسة الغربية تحت إلحاح الضغط الإسرائيلي وتوجيه السياسة الحكومية في البلاد الكبرى، أرادت أن تتحدى كافة الأجيال الكنسية السابقة، وتدمغها بدامغ المروق عن الحق وأصول الإيمان، فبرأت اليهود من صلب المسيح ومن دمه، وبعملها هذا تكون الكنيسة الغربية، الممثلة في الفاتيكان ومجلس الكنائس العالمي، قد أعطت الشعوب الغربية، وبالتالي الحكومات المعنية بمناصرة إسرائيل سياسيًا وعسكريًا، كل التفويض للقيام بما يكفل تعويض اليهود الممثلين في إسرائيل عن تجنى الكنيسة السابق.
وهكذا نرى أن وثيقة تبرئة اليهود من دم المسيح كانت في حقيقتها السياسية بمثابة التمهيد الرسمي والمنطقي لظهور الأسطول السادس الأمريكي المحمل بالطائرات المجهزة لعمليات التدمير والتخريب والقتل!!
ونحن لا يمكن أن نعفى المسئولين في الكنائس الغربية عن نتائج هذا العمل، سواء كانوا يعلمونه أو كانوا يجهلونه، الذي كان بمثابة غارة موفقة ناجحة، خدرت بها أفكار الشعوب الغربية، وأعدتها وجدانيًا لقبول الزحف السياسي العسكري الذي قامت به بريطانيا وأمريكا…
يستحيل الآن أن نقبل ببساطة هذا الدور الخطير، الذي اضطلعت به الكنائس الغربية، سواء كان في تكتلها الإجماعي بالفاتيكان أو في تكتلها المسكوني في مجلس الكنائس العالمي، في استصدار هذا القرار، وما استلزمه هذا القرار من تكنيك وضغط ومراوغة، فالكنائس الغربية كانت متجنية ولا شك، ونحن ندينها، وندينها بكل حزم وشدة، وندينها أمام الله والعالم كله. ولا يسعنا الآن إلا أن نقول أن الكنائس الغربية مسئولة عن مشروعية مساندة إسرائيل عسكريًا وذلك بتدخلها الديني لتخدير ضمائر الشعوب الساذجة.. بقرار تبرئة اليهود من دم المسيح.
ألا تعلم أنها بهذا القرار قد أمّنت تحركات الأسطول السادس وأسطول بريطانيا، دينيًا، وباركت عمليات الغدر والخيانة والاعتداء على الدول العربية؟ أليس دم العرب الأبرياء المسفوك على أعتاب بيوتهم وقوائمها والمهرق على أرض وطنهم دليلًا قاطعا على امتداد الجريمة التي اقترفتها إسرائيل قديمًا في سفك دم المسيح؟
لقد برأ الفاتيكان وبرأت منظمة الكنائس العالمية الغربية اليهود من سفك دم المسيح، ولكن الحقيقة الحيّة الناطقة حسب الواقع الحادث الآن تثبت قطعا أنّ اللعنة التي وضعها اليهود على انفسهم: دمه علينا وعلى أولادنا
[5] لا زالت تتعقبهم، فسفك دماء الأبرياء وطرد العرب المواطنين المسالمين خارج أورشليم بالغدر والخيانة إعادة متكررة لما اقترفته الأجيال الأولى بصلب المسيح…
ولكن…
إن كانت الكنيسة الغربية برأت اليهود من دم المسيح، فالكنيسة الشرقية تبرئ المسيح من أعمال اليهود!!
والخراب الذي نطق به المسيح كحكم إلهي أزلي سيزال نافذ المفعول مهما تضافرت أساطيل السياسة الاستعمارية مع قرارات الكنائس الغربية لنقض حكم الله تجاه إسرائيل:هوذا بيتكم يترك لكم خرابا
[6] …
ثالثًا: حكومتا بريطانيا وأمريكا تزيفان الحقيقة على شعبيهما
كان لتزعم الكنيسة الغربية ورؤسائها حركة الدفاع عن إسرائيل، دور خطير في تأمين الحكومات الغربية وخاصة انجلترا وأمريكا ضد أي حركات شعبية واعية. لأن تقارير الكنيسة وتصريحاتها اللاهوتية كانت ستار تعمية مهد لحكومتي بريطانيا وأمريكا القيام بدور إيجابي خطير لمناصرة إسرائيل سياسيًا وحربيًا واستخدام طرق التحايل والخداع السياسي دون أيّ خوف من ثورة الضمير الشعبي الذي تولت الكنيسة إخماده.
ولكن المدهش في الأمر أن يعتقد الشعب البريطاني والأمريكي أن حكومتيهما تقومان بدورهما إرضاء للضمير الديني واستجابة لنداء الكنيسة والرحمة والحق!! مع أنه من المقطوع به أن هاتين الحكومتين لا يهمهما شيء في الوجود، لا الكنيسة ولا الدين ولا الأخلاق ولا الضمير بل ولا المسيح، في سبيل تنفيذ مخططها الاستعماري، وهذا اتضح سابقا في مواقف كثيرة في كل مكان في العالم.
من هذا يتبين دور الخداع الكبير الذي تقوم به هاتان الحكومتان لدى شعبيهما، فهما بينما يتظاهران أمام الضمير الشعبي أنهما يساندان الحق والضمير الديني، إذ بهما يعملان معا لمخطط استعماري خطير، لا يعرف الرحمة ولا يؤمن بالأخلاق ولا يعتمد إطلاقًا إلا على الظروف وانتهاز الفرص والغش والمراوغة، الأمر الذي اتضح في مباغتة الجمهورية العربية من الخلف لإحراز أسرع نصر!!
والخطورة الناتجة من هذا الموقف ذي الوجهين أن هذه الدول الكبرى نجحت في أن تصبغ عملياتها العسكرية بالصبغة الدينية، لإخفاء مخططهما الاستعماري، مع ما يحويه من حقد وضغينة وانتقام وعزم على التنكيل بالعرب الذين يقفون في وجه مصالحها الاستعمارية. ولكن نحن واثقون أن الضمير الغربي لابد وأن يستيقظ على صراخ آلاف الجرحى والمشوهين وعشرات الألوف من المشردين وتخريب البلاد الآمنة…
رابعًا: إسرائيل تعتمد في إثبات وجودها على أوهام دينية
لقد استغلت إسرائيل بساطة المسيحيين وعواطفهم الدينية من نحو التوراة والتاريخ القديم، واستغلت إيماننا بنبوات العهد القديم، وسلطت أضواءها على ماضيها القديم كدولة نالت رضى الله، ثم ركزت على مواعيد الله من نحو أرض فلسطين وملكها الأبدي، واستخلصت من جولاتها في التوراة والإنجيل إقناع المسيحيين من سياسيين واقتصاديين وخلافهم حقها في أرض فلسطين كأنه امتداد لمواعيد الله. ومن هنا، قامت هيئات كثيرة وأشخاص كثيرون في العالم الغربي وخاصة في أمريكا يدافعون بحماس جنوني عن فكرة حق وجود وطن لإسرائيل وإعطائها كرامتها الأولى التي أخذتها سابقا من الله. هذا الحماس استغلته الحكومة في أمريكا لتمضى في مخططها السياسي لدق إسرائيل كإسفين بين الدول العربية يمنعها من مسيرها ونموها في الاتجاه الاشتراكي التحرري، ويحد من حرية الحركة في منطقة الشرق الأوسط، ويحول دون تكوين جبهة متحدة مناوئة للغرب.
ولتنفيذ هذه الادعاءات الوهمية التي غرستها إسرائيل في أذهان الشعوب المسيحية بخصوص الربط بين التوراة والانجيل وبين حقها في فلسطين باعتباره وطنها الأول حسب المواعيد السابقة، نضع في أذهان المسيحيين هذه الحقائق الإلهية العامة التي لا تقبل الشك ولا الجدال وهي:
أولًا: كافة مواعيد الله لشعب اليهود قد تحولت من وعود أرضية إلى وعود سمائية روحية، بمجيء المسيح وصعوده إلى السماء. لان مواعيد الله الأولي بخصوص أرض فلسطين التي تفيض لبنًا وعسلًا، وبخصوص ملك داوود الخالد، وأورشليم كمدينة الله العظيم، والهيكل كبيت الله المحبوب. كل هذه كانت مجرد رموز وصور وظلال للحقائق الروحانية التي كان مزمعًا أن يعطيها الله لا لليهود فقط بل لكافة الأمم. فصارت فلسطين هي «كنعان السماوية»، وأورشليم هي «أورشليم السمائية»، وداوود الملك الأبدي هو «المسيح»، والهيكل هو «الكنيسة الحية جسد المسيح»، بل وحتى إسرائيل نفسها كدولة وكشعب الله المحبوب القديم صارت هي «الكنيسة أي إسرائيل الجديدة العروس التي لا عيب فيها».
لذلك فان تمسك اليهود الآن بالوعود الأرضية المادية السابقة هو تجاهل للتحول الجوهري في تدبير الله وعطاياه الذي انتقل إليه شعب الله من العهد القديم إلى العهد الجديد. لذلك فقد صار تمسك اليهود وتشبثهم بوطن أرضى وبأورشليم وبملك زماني لتحقيق كيانهم الديني، هو بمثابة إلغاء كامل للعهد الجديد وتجاهل كلى للمسيح وإنكار لكافة مواعيد الله الروحانية، ويكون أيضا بمثابة رجعة ونكوص كامل محزن إلى الجلوس في الظلمة وظلال الموت، والاكتفاء بعبادة الأرض عوض السماء، ومغانم الحياة الأرضية عوض الحياة الأبدية.
ثانيًا: كافة الوعود الإلهية التي منحها الله لإسرائيل قديمًا بخصوص وطنها في فلسطين وملكها الزمني البارز بين الشعوب والأمم ومساعدة الله لها، كانت كلها رهن طاعتهم لله وتمسكهم بوصاياه، كعهد من طرفين. وقد حدث عدة مرات أنهم خانوا عهدهم مع الله ورفضوا وصاياه، فرفع عنهم الله كافة حقوقهم الأرضية وكافة مواعيده ومساعداته وجعل أعداءهم يحطمون بلادهم ويهدمون هيكلهم وينجسون مقدساتهم ويأخذوهم عبيدا، وشتتهم الله إلى ما وراء فلسطين.
ولكن كان الله يعود ويرضى عنهم حينما يعودون هم إلى طاعته، وكان يجمعهم من الأمم ولكن بتأديب شديد. وظلت هذه التأديبات على ظهورهم حتى مجيء المسيح الذي بمجيئه دخل اليهود الذين قبلوه مع باقي الشعوب في عهد جديد مع الله: بمعنى أن العهد الجديد الروحي حل محل العهد القديم الزمني.. أما اليهود الذين رفضوا المسيح فاعتبروا أنهم فقدوا العهدين، وبذلك فقدوا كافة حقوقهم في مواعيد الله القديمة لهم بخصوص وطنهم وملكهم الزمني. كما صاروا محرومين الآن من رضى الله بسبب رفضهم للمسيح أو على حد قول الإنجيل، أصبح يمكث عليهم غضب الله
[7].
فمطالبتهم الآن بوطن أرضى ومحاولتهم بالسلاح والغدر الحصول على هذا الحق ليس هو في الواقع تتميمًا لوعود الله القديمة، ولكنه تحدى لحكم الله عليهم ومحاولة بشرية يائسة مجنونة للخروج من تحت غضب الله ولعنته، كما أن مساعدة حكومات الدول الغربية لهم لاغتصاب هذه الحقوق التي سلبها الله منهم ثم حمايتهم للعودة إلى وطنهم بالسلاح، هو اشتراك في تحدى الله ودخول خائب محزن تحت نفس الغضب واللعنة مع إسرائيل وخصوصًا أن خبث النية والاستهتار بالعبادة وبالله وبالديانة المسيحية مشترك بينهم…
ثالثًا: إن اعتماد دعاة إسرائيل على الإنجيل وخاصة رسائل بولس الرسول في تدعيم فكرة حقهم في أرضهم الأولى ووطنهم الأول وملكهم الزماني السابق، هو غش وخداع. لأن العهد الجديد ينظر إلى اليهود الذين رفضوا المسيح: «كغصن مقطوع من شجرته الأصلية» و«كشعب مرفوض» و«أمة حل عليها غضب الله ولعنته»، ولم يعط الإنجيل أيّ بارقة أمل أو أيّ رجاء لليهود الذين يرفضون المسيح الآن بإمكانية رضى الله عنهم إلا على أساس قبولهم للمسيح أولًا وقبل كل شيء. ثم يوضح الإنجيل، بدون أيّ غموض، أن اشتراط عودة رحمة الله عليهم ورضاه عنهم -الذي هو رهن قبولهم للمسيح- لن تكون بمظاهر مادية أرضية، بل حددها أنها ستكون في معنى الخلاص الروحي والانعتاق من عبودية الخطيئة واللعنة وليس من عبودية الأمم، ودخولهم حظيرة المسيح وليس دخولهم فلسطين، وقبولهم في ملك المسيح السمائي الأبدي وليس في مملكة الزمان الفانية.
إذن فتحصنهم الآن في فلسطين وتقوية مركزهم السياسي كدولة وغلبتهم بالسلاح والغدر ومعاونة ذراع البشر، لا يمكن أن يحسب أنه جزء من خطة الله لخلاصهم ولا يدخل قط في معنى تتميم النبوات، بل بالعكس هو تعويق لقبولهم المسيح تعويقًا شديدًا مانعًا. لأن قبول المسيح يحتاج إلى مسكنة واتضاع ونبذ كل قوة أرضية وكل آمال أو مغانم سياسية دنيوية، لذلك فالذين يتعاطفون مع إسرائيل الآن بقلوبهم أو بأموالهم أو بسلاحهم، إنما يعوقون خلاصها الحقيقي ومجدها الروحي الحقيقي في قبول المسيح!!
رابعًا : إن استناد إسرائيل على نصرتها الوقتية وعلى نجاحها الآن في امتلاك جزء من وطنها الأول كأساس تبرهن به أن الله أصبح معها أو أنّه يساندها، هو استناد وهمى لا علاقة له بالحق إطلاقًا.. فالنصرة التي حازتها إسرائيل لم تعتمد على الله أو على الإيمان أو على الحق، بل اعتمدت على الشيطان والباطل. فقد استعملت فيها كل صنوف الخطايا والتعديات على كافة وصايا الله بل وامتهنت كافة المبادئ الإنسانية والشرف، فكيف يكون الله شريكًا في هذه النصرة أو تكون يده معهم في تحركهم وثباتهم؟
الحقيقة أن الله تركهم لمشورات قلوبهم، فاستعملوا كافة المهارات البشرية واستغلوا كافة نواحي الضعف في المسيحيين في الغرب، وتأيدوا بروح الغدر والخيانة والغش وساعدتهم الدول التي تماثلها في سياستها والتي سوف تربح من وجود إسرائيل وانتصارها. والله تركهم حتى يبلغوا أقصى قوتهم وأقصى نصرتهم وأقصى افتخارهم، ثم بضربة واحدة سوف يكشف لهم بطلان ما عملوه بذراعهم و بطلان ما كسبوه من أذرع البشر وبطلان كل حيلهم السياسية وخداعهم. وحينما يقعدهم التراب ويذل نفوسهم، حينئذ يمكن أن يرفعوا أعينهم إلى الله.. وفى ذلك الوقت لن تعد فلسطين مطمعًا لهم بل السماء.
الفصل الثاني
العوامل الإيجابية التي تساند العرب في حربها ضد إسرائيل
أولًا: خلو الدوافع العربية من العداء الديني
إن أول وأهم طابع يتميز به الضمير العربي في ثورته ضد إسرائيل عامة، سواء من جهة قيامها أو ضد أطماعها للتوسع أو ضد اعتدائها الأخير على الأراضي العربية، هو خلوه تمامًا من أيّ عداء ضد الدين اليهودي. فالعرب عامة، بما فيهم المسيحيين، لا يحملون أيّ بغضاء أو استهزاء بالديانة اليهودية في حد ذاتها، بل ربما على العكس تمامًا، فالمسلمون يكنون الاحترام والتوقير العالي لكافة أسفار العهد القديم وأنبيائه وأشخاصه..
هذه الحقيقة وحدها كافية لتبرير الضمير العربي أمام العالم أجمع من أيّ تعصب ديني أو انحياز أعمى يقوم على دوافع نفسية موروثة. وفى هذا يمتاز الضمير العربي عمومًا على الضمير الأوربي الأمريكي الذي لا تزل تغذيه عوامل الحقد التعصبي الموروث الذي برز بصورة عملية لا تقبل الشك في التحيز العلني لإسرائيل ضد العرب.
فبينما يتحكم في الضمير العربي إزاء حربه ضد إسرائيل عوامل وطنية صافية تثيرها وتحفزها عوامل إنسانية شريفة تجاه العرب اللاجئين المطرودين من وطنهم المغتصب، كما تثيرها وتحفزهما تدخلات الدول المستعمرة لمساندة إسرائيل المعتدية واكتشاف مآربها الاستعمارية وتعصبها الأعمى.
نجد أن الضمير الأنجلوأمريكي تحفزه عوامل عنصرية تعصبية دينية وتثيره أطماع استعمارية ومصالح ذاتية. وهذه المقارنة تكشف في الحقيقة أمرًا مدهشًا، وهو أن الضمير الأنجلوأمريكي لا يزال تتحكم فيه عوامل بربرية ورثها من العصور الوسطى ولا تزال تتردد في جوانبه أصداء الحروب الصليبية.
ثانيًا: الحوافز الإنسانية التي تثير حماس العرب
إن كانت شعوب دول أوربا وخاصة أمريكا تتعاطف مع اليهود تعاطفا إنسانيًا باعتباره أنه شعب مبدد في أنحاء العالم وأنه مظلوم ومضطهد، فهذا التعاطف بالرغم مما فيه من خداع ووهم -لأن اليهود يسيطرون على اقتصاديات دول كثيرة ويعيشون في رخاء عظيم، ومستوى دخل الفرد منهم في كل أمّة يزيد باستمرار على مستوى دخل الفرد في تلك الأمّة- نقول أن هذا التعاطف عينه هو ما يشعر به العرب تجاه إخوانهم العرب الذين طردهم هؤلاء اليهود من وطنهم فتشردوا بعد رخاء وتبددوا على وجه الصحراء بعد استقرار وافتقروا ولا يزالون مفتقرين للقمة العيش وغطاء الجسد.
وإن كان الشعور الإنساني الذي يفيض به الضمير الأمريكي على اليهود هو واجب مقدس في نظرهم يغذيه الإحساس الديني الزائف ويدفعهم للتحيز لإسرائيل ولمساندتها بالسلاح وخطط الغدر والعدوان، فكيف يستنكرون هذا التعاطف الإنساني من جهة العرب نحو إخوانهم المطرودين من وطنهم؟
فان كان الحماس الشعبي الأمريكي لمساندة إسرائيل له مبررات دينية إنسانية في نظرهم جعلتهم في حِلّ من الضمير لكى يشردوا العرب ويسكنوا إسرائيل محلهم، ثم هيأت لهم مشروعية العداء والغدر والخيانة ودفعت إسرائيل للقيام بالحرب الأخيرة ضد كافة الدول العربية المحيطة بها التي تسببت في قتل عشرات الألوف من العرب وتشريد فوج آخر من اللاجئين، فلماذا إذن يستنكرون على هؤلاء العرب أنفسهم شعورهم الإنساني الصرف في مناصرة هؤلاء اللاجئين ومحاولة استعادة وطنهم؟
نحن الآن نشك كثيرًا في عواطف أمريكا وبريطانيا الإنسانية تجاه إسرائيل لأنه أيّة إنسانية هذه التي تقتل إنسانًا عربيًا نائمًا في بيته آمنًا في وطنه لكى تأتي بيهودي أمريكي ليعيش موضعه ويغتصب وطنه؟
وفي نفس الوقت نحن لا يمكن أن نشك أبدًا في إنسانية العرب الصافية التي تدفعهم لإراقة دمائهم والمخاطرة بحياتهم وبلادهم و أموالهم في سبيل إعادة هؤلاء المشردين، هذه إنسانية حقيقية بالدرجة الأولي.
ثالثًا: الأيديولوجية القومية تفرض وجودها وتنير الطريق
نحن نعلم تمامًا كيف قامت أمريكا وصارت دولة متحدة. إنّها أيديولوجية واشنجطن وأيديولوجية إبراهام لنكولن التي صاغت وحدة أمريكا وحريتها.
وكذلك نعلم أيضا كيف تبلورت الدويلات الجرمانية وانبثقت منها دولة ألمانيا..
إن الأيديولوجيات الراقية تفرض نفسها على الشعوب والدويلات ذات الشكل الواحد واللغة الواحدة، هذا أمر حتميّ لا مفر منه، أنه صورة مصغرة لما سوف تنتهي إليه البشرية كلها حينما تتقارب الشعوب جدا برفع الفوارق فتصير «دولة الإنسان».
إن الحافز الأيديولوجي لتجمع الشعوب العربية أمر حتميّ، وهو يتخذ خطوات قوية وسريعة جدا نحو هذه الغاية عينها مهما عرقلتها العراقيل التي تتفنن أمريكا وبريطانيا في وضعها على الطريق…
إنّ الخطة المرسومة منذ أمد بعيد لإيجاد إسرائيل بالقوة البريطانية والأمريكية داخل المجمع العربي الدولي لتكون عثرة على طريق التآلف العربي، صارت هي بعينها نقطة الانطلاق الحتمية لإنشاء هذا التآلف والتحالف العربي الذي لابد أن ينبثق منه اتحاد الدول العربية!!
إن جهود بريطانيا وأمريكا المستميتة منذ أمد بعيد لتحطيم هذا المستقبل القوي الباهر للدول العربية لا نستطيع الآن وفى ضوء الحرب الإسرائيلية أن نقول أنها باءت بالفشل فحسب، بل نستطيع أن نقول بكل ثقة أنها تحولت بصورة إعجازية إلى تقصير المسافة الزمنية والثقافية والأيديولوجية والحربية اللازمة لقيام هذا الاتحاد العربي..
لقد زرعت بريطانيا وأمريكا إسرائيل لكى تحطم قوى العرب وتفرق شملهم وتستنزف جهودهم وأموالهم وأرواحهم حتى تضيع عليهم باستمرار فرص التحالف في مستقبلهم العربي الموحد ولتوغر على الاستجابة لأيديولوجية أرقى … وكان يدفع بريطانيا وأمريكا لهذا المخطط الرجعى البربري مصالحهما الاستعمارية وكيانهما الاقتصادي للحفاظ على سطوتهما الدولية..
ولكن فات على الساسة البريطانيين والأمريكيين أن سنة النهضات البشرية والرقيّ الأيديولوجي، إنما يزدهر تحت الاضطهاد والظلم والعسف والتهديد بل والخسارة والانهزام بأسرع جدا مما ينمو به تحت ظروف العز والرخاء..
لذلك كان زرع إسرائيل وسط العرب بمثابة إيقاظ للشعوب العربية من سباتها الزمني، ثم كان توسع إسرائيل السري تنبيه ذهني للخطر، ولما ينبغي أن يكون عليه العرب من تآلف وتضامن، ثم جاء الاعتداء الأخير بصورته الغاشمة المستفزة فكان كومضة الهام جعلت الشعوب العربية تستلهم وحدتها ونستدرك ما فاتها في لحظة فريدة من الزمان..
لذلك فالدوافع الأيديولوجية الراقية التي تنير الطريق منذ الآن أمام العرب سوف تستمد من حربهم مع إسرائيل تحولًا سريعًا إلى هدفها الإيجابي الحتمي وهو وحدة الشعوب العربية وتآلفها تآلفًا يجعل منها دولة قوية عربية ذات كيان عالمي فائق … وإزاء هذا الكيان العربي الشامخ الكبير الرائع حقا، ستبدأ تصغر إسرائيل وتصغر ثم تصغر إلى أن تتلاشى حتى ولو بقيت في مكانها!!
الفصل الثالث
القوى المعنوية والإلهامات المنبعثة من المعركة الأخيرة
أولًا: النكسة من منظار روحي [8]
هناك قانون في الروحيات يكاد ينطبق بحذافيره على الظروف والنتائج التي لازمت المعركة الأخيرة. هذا القانون يوحى بأن الانهزام الجسدي من شأنه دائمًا أن ينشئ قوة للروح..
والذي يتابع المعركة الأخيرة بين إسرائيل والعرب حتى نتائجها الأخيرة والنكسة التي أصابتنا، من شأنه أن يصاب بحسرة وألم شديدين يخترقانه حتى الأعماق وما يلبث أن تغشاه ظلمة كثيفة، هذا لو ظلت المتابعة للمعركة من منظار عسكري بحت أو من وجهة القياسات المنطقية..
ولكن الحقيقة أنّه لو فحصنا هذه النتائج عينها بالمنظار الروحي، لاندهشنا كل الاندهاش لان النكسة صاحبها ولازمها تفجر قوى معنوية وإلهامات غاية في العمق شملت كافة المناطق التي عانت هذه النكسة، ثم امتدت منها أيضا ثم تجاوزتها حتى بلغت الأوطان العربية المعنية بهذه الحرب، بقوة تفوق كل قياس منطقي حتى شملت كافة أرجاء العالم الحر الذي يتابع حركات الشعوب المتحررة من نير الاستعمار.
ونحن في فحصنا ودراستنا لهذه القوى المعنوية وهذه الإلهامات لا نقف عند حدود الانفعالات التي بدت على الشعوب العربية في شوارعها وميادينها وإذاعاتها ولا نقف حتى عند البيانات والمقالات التي صدرت تعبر عن هذه القوى والإلهامات في صفحات جرائد العالم الحر، ولكن نريد أن نتتبعها في مجالها الإنساني العميق داخل النفس البشرية فهذا هو الذي يعنينا جدا لان من هذا المنطلق الإنساني سوف تنبثق بشرية جديدة نتلهف لها غاية التلهف..
وفى مصر صاحب النكسة (وطبعا المسئول عن أسبابها هما انجلترا وأمريكا) حركة يقظة نفسانية مفاجئة.
ثانيًا: معنى استقالة القائد..
ظل الرئيس جمال عبد الناصر خمسة عشر عاما يكافح في ثلاثة ميادين: ميدان الشعب المصري، وميدان العرب في الأوطان الشقيقة، وميدان العالم الخارجي الحر.
أما كفاحه مع شعبه المصري فكان يتجه صراحة ناحية ثلاث أهداف: الأول: إيقاظ الوعى الوطني الشعبي، والثاني: الإحساس بحمل المسئولية، والثالث: الأخلاق.
أما كفاحه لدى العرب فكان أيضا يتجه صراحة ناحية ثلاث أهداف: الأول: إيقاظ الوعى العربي الشعبي، والثاني: الإحساس بخطورة إسرائيل العدو المندس في وسطهم للعمل على تفكيكهم وضعضعتهم، والثالث: الوحدة العربية ﻻ كضمان للتغلب على إسرائيل فحسب بل كأيديولوجية حتمية تخلق للعرب كيانًا دوليًا تستطيع به أن تساهم مساهمة فعالة في سياسة العالم لموازنة القوى الكبرى التي تطغى على العالم الآن.
وقد ظل هذا القائد الملهم يحمل هذه الرسالات ويعلم بها ويمهد لها بالقدوة والجهد والتنظيم والتخطيط سواء لدى شعبه في مصر، أو لدى الشعوب الغربية البعيدة داخل أوطانها ومع حكوماتها، أو لدى الشعوب الأخرى الأوربية والإفريقية والآسيوية وحكوماتها.
والحقيقة التي يعرفها كل إنسان الآن أن هذا القائد استخدم كافة الوسائل الممكنة من تعليم وتحذير ومقاومة وتأديب ومقاطعة ومهاجمة وتلطف ووداعة وحب وتكريم وزيارات. والعجب أنه كان يستخدم هذه الوسائل كلها مرة بعد مرة ثم يكررها هي عينها أيضًا لدى المعاندين والمرتدين والمنفلتين والخائنين دون أن يكل أو ييأس أو يخور!
خمسة عشر سنة وهو يضطلع بدور المعلم والمربى والمؤدب في كافة هذه الميادين ولم يخر قط، لأن المبادئ القوية التي كان يحملها في قلبه وذهنه كانت ترفع دائمًا من قدراته ومعنوياته وكانت تدفعه للنضال بفرح وعزيمة لا تكل، وكانت الإخفاقات تزيده حماسًا وإصرارًا على المضيّ في الطريق الطويل.. طريق التقدم.
لقد دوت استقالة الرئيس جمال عبد الناصر في مصر دويًا هائلًا أيقظ الشعب كله! وامتد الدوى في لحظة مباركة من لحظات الزمان إلى كافة الدول العربية شعوبها وحكوماتها، فكانت طعنة الضمير التي أيقظت وعى العروبة نحو المصير المشترك الذي غطاه في الحال ستار كثيف من الظلمة بسبب خبر تخلية القائد. لقد ظهر جمال عبد الناصر في استقالته بصورته الحقيقية، وتكشف الدور الخطير الذي يؤديه هذا الإنسان الملهم، ووضحت قيمته الشخصية في مصير الأمّة العربية التي لا يمكن أن يحتلها آخر.
وامتد دوى الاستقالة عبر الدول والقارات فكانت يقظة أخرى غير متوقعة لتلك الدول التي ظلت تتجاهل الدور الخطير الذي يقوم به جمال عبد الناصر كزعيم عالمي يسعى لرفع القيم الإنسانية ويساند الشعوب المتحررة..
لقد كانت استقالة الرئيس جمال عبد الناصر ألما غير محتمل، لم تستطع أيّ نفس في أي شعب حر سواء في مصر أو في البلاد العربية أو غير البلاد العربية، أن تفسره، فقد فاق حدود العواطف العنصرية والدينية والوطنية، والسبب الخفى في ذلك أن هذا الألم كان يعبر عن فقدان معيار عال للمبادئ والأيديولوجيات والأخلاق. فقد كان جمال عبد الناصر قد استقر تقريبًا داخل كل نفس يحمل عنها ويحمل لها وأمامها هذا المعيار العالي.. وفى لحظة سقط هذا المعيار فشعرت كل نفس ببؤس وشقاء وحيرة داخلية عجز كل إنسان عن تفسيرها ولو أنه لم يعجز أحد قط عن التعبير عنها بالهتاف والصراخ لعودة جمال عبد الناصر.. لأن عودة جمال عبد الناصر كانت تمثل للنفس عودة لاستقرارها الداخلي واستمرار آمالها اللذيذة من ناحية المثل والأخلاقيات والوطنية الملهمة.
ولكن هل من الممكن أن المثل العليا والأخلاقيات والوطنية الملهمة أن تستقيل؟!
لقد وقع خبر استقالة جمال عبد الناصر موقعًا خطيرًا جدا للنفس، أدخلها في مناقضة كبرى عميقة ومازق.
هل ممكن أن جمال عبد الناصر يستقيل؟ وهو الذي يلهم الإصرار والبذل والصمود إلى النفس الأخير؟
إذن لا يمكن أن تكون هذه الاستقالة منبثقة من جمال عبد الناصر، بل هي منبثقة من نفسي أنا ومن كل نفس لم تستجب لهذه المثل والأخلاقيات والوطنية الملهمة استجابة كافية لحفظ المثل الأعلى في مكانه!
لقد أحست كل نفس أن تقاعدها وعجزها وإهمالها وتكاسلها، هي العامل الأساسي في هذه الاستقالة. لذلك كانت لحظة الألم المبرح عند الإحساس بفقدان جمال عبد الناصر هي بعينها لحظة الإلهام الفائق التي انتفضت فيها كل نفس لتتجاوز كل تقاعدها وعجزها وإهمالها وتكاسلها لتبلغ إلى المستوى الذي يمكن أن يسند جمال عبد الناصر حتى يبقى في موقعه!
لذلك كان الهتاف لعودة جمال عبد الناصر بهذا الحماس النفساني المذهل لا يمكن أن يفسر إلا بأن النفس تريد مثلها الأعلى، أو بمعنى أوقع، أنها قد بلغت مثلها الأعلى.
ولكن هل ممكن أن يسند أيّ إنسان أو حتى الشعب كله رئيسه الذي يلهمه الصمود ووقوف المواقف؟
إن هذا خداع بصر، والحقيقة أن الشعب حل محل جمال عبد الناصر.
فاستقالة جمال عبد الناصر قد نفذت فعلا بصورة غير منظورة ولا رجعة فيها حيث سلم فيها جمال عبد الناصر رسالته كاملة بكافة مهامها وآمالها وأيديولوجياتها وأخلاقياتها للشعب وللأمّة العربية كلها، وقد تحملها كل فرد في لحظة الإلهام التي فيها ظل يهتف ويطالب برجوع وبقاء جمال عبد الناصر! فصار كل إنسان هو جمال عبد الناصر..
لقد تمت في لحظة الاستقالة المعجزة العظمى التي طالما كنا ننتظرها وطالما كان يعمل لها جمال عبد الناصر خمسة عشر سنة. حصار كل فرد يحس بالمسئولية الوطنية والأخلاق كما يحسها جمال عبد الناصر، ويحس بمعنى الجمهورية العربية كما يحسها جمال عبد الناصر، ويحس بالوحدة العربية كما يحسها جمال عبد الناصر.
إنّ جمال عبد الناصر لم يلق من شعبه ولا من الشعوب العربية الأخرى ولا من الأمم البعيدة (في أيام انتصاراته ونجاحه الوطني أو الدولي) هذا الشعور العالمي الفياض الجارف الذي وصفه المستشار الصحفي في لبنان أنه شعور جنوني، مثلما لقيه في يوم استقالته اثر التقهقر العسكري..
لماذا؟ هل زاد جمال عبد الناصر شيئا يوم استقالته؟ أبدا.. ولكن الذي زاد حقا هو شعبه والشعوب العربية وباقي الدول الصديقة، إذ زادوا وعيا بقيمة جمال عبد الناصر لما ازدادوا إدراكًا وإيمانًا بالوحدة العربية، وصلابة في أخلاقهم ونفسياتهم الداخلية التي كانت منقسمة على ذاتها..
ماذا نقول بعد ذلك في هذا التقهقر إلا أنه تقهقر ملهم، ونكسة مباركة أيقظت وعى الشعوب والحكومات ووحدت القلوب على القلوب والنفس على النفس!!
إنّ النكسة العربية التي عملت لها بريطانيا وأمريكا من خلف إسرائيل لم تهنأ بها هذه الدول لحظة حتى سلط عليها جمال عبد الناصر باستقالته نورا كاشفًا فاضحًا كان أشد وقعا عليهم من قنابل الطائرات التي كدسوها في المعركة، فلقد تسببت هذه الاستقالة في تنبيه أذهان العالم أجمع أن المثل العليا والأخلاق في حرب مع بريطانيا وأمريكا لا هوادة فيها.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
اطرح عنك ذاتك التي تمنعك من الانطلاق في حرية أولاد الله