الفصل الأول: قصة الخليقة الأولى: الإنسانية كصورة الله
في فحصنا لقصص الخليقة، ينبغي أن نقدر أولًا ماهية الخليقة بالنسبة للمستمعين الأوائل للقصة من الإسرائيليين. فبالنسبة لنا كعالم ما بعد التنوير، “الخليقة” تعني أن يُحضر شيئًا ما من العدم إلى الوجود المادي الملموس. “أن نوجد” يعني بالنسبة لنا أن نكون أو أن يكون لنا مكان في الكون. فشيء ما قد يكون بلا اسم ولا هدف ولا عمل ولا قيمة وغير متصل بأي شيء (على سبيل المثال، قطع من حصى الأنقاض ملقاة في غابة غير أهلة بالسكان)، ولكننا مع ذلك نعتبرها موجودة. فنحن نعرف وجود الأشياء بناء على الوجود المادي لها. ولكن لم يكن الأمر كذلك بالنسبة للقدماء بما فيهم الإسرائيليين القدماء.
بالنسبة لهم، وجود الشيء يعني أن له استخدام واتصال وفائدة. فإن كان الشيء بلا هدف متصل بباقي المجتمع، وبالتالي لا اسم له، فهذا يعني أنه غير موجود بشكل كامل. بالتالي، الخليقة بالنسبة للقدماء لم تكن عملية إحضار الأشياء من العدم إلى الوجود والحضور المادي بقدر ما كانت ترتيب استخدامهم في مجتمع فعال. وبناء على هذا فنحن نرى في الفعل العبري “برأ” (أي خلق) المستخدم في الكتب المقدسة أنه لا يعبر بالضرورة عن إحضار الأشياء من العدم بل بالحري جعل كل شيء يخدم هدف معين. بالتالي، الله خلق الكائنات السماوية بهدف تسبيحه (مزمور 148: 1-5)؛ خلق العائدين من السبي ليمجدوه (إشعياء 43: 7)، والمهلك ليهدم (إشعياء 54: 16)، وأورشليم لتفرح (إشعياء 65: 18). وهذا يمهد لنا كيفية قراءة النص القديم والمقدس بنظرة استخدام الشيء المخلوق بدلًا من النظرة المادية (أو الفيزيائية).
تكوين 1: 1-2
أول ما نراه في قصة الخليقة هو الاسم الإلهي “إلوهيم”. على الرغم من أن الاسم يعني ببساطة “الله” (اسم مفرد في صيغة الجمع) فهي الكلمة المستخدمة في كثير من نصوص العهد القديم لتشير إلى إله إسرائيل، يهوه. بالتالي، فقصة الخليقة الثانية المدونة بداية من تكوين 2: 4 يتم فيها ربط اسم يهوه باسم إلوهيم فيقول النص أن يهوه إلوهيم هو خالق السموات والأرض.
وعلى الرغم من أنه من المناسب أن اسم عام مثل “إلوهيم” يستخدم للإشارة إلى خالق الكون، ينبغي ألا نغفل حقيقة، كانت بديهية بالنسبة للسامعين الأصليين للقصة، وهي أن النص يؤكد أن خالق العالم هو إله إسرائيل. الوثنيون من قُراء ملحمة إنوما إيليش البابلية قد يقروا بأن “مردوخ” هو من رتب كل الأشياء وبالتالي هو الإله العظيم [وسط آلهة أخرى]. كذلك لدى المصريين فكانت الآلهة تتنافس على هذا الدور. ولكن هنا ومنذ أول ثلاث كلمات، نرى أن إلوهيم، إله وحافظ العبرانيين، هو صانع السموات والأرض (أي كل شيء). الآلهة الوثنية لم يكن لهم أي دور في الخلق. راوي القصة [أي قصة التكوين] يزدري بشراسة الآلهة الأخرى وينزعها عن كراسيها الإلهية بأن يتجاهلهم تمامًا في هذه القصة.
فالكلمات الأولية بالعبرية “بداية خلق إلوهيم” والتي غالبًا ما يتم ترجمتها “في البدء خلق الله” ينبغي أن تترجم “حين بدأ الله أن يخلق”. ويوجد تركيب لغوي مشابه في تكوين 2: 4، وكلاهما يعكس افتتاحيات قصص الخلق القديمة – بجملة تعبر عن كيف كانت الأشياء قبل الخليقة. فعلى سبيل المثال، ملحمة إنوما إيليش تبدأ بالكلمات التالية “قبل أن يتم تسمية السماء فوقنا“. النص المقدس على العكس لا يهتم بتحديد موعد الخليقة ما إن كان في الزمن أو قبل الزمن. ولكن الأهمية الكبرى هي بالحري تمجيد الخالق بالتأكيد على الأشياء كم كانت سيئة قبل أن يبدأ الله عملية الخلق، فيقول أنها كانت خربة وخالية. الكلمات العبرية المستخدمة للتعبير عن خربة وخالية هي “توهو وبوهو” ويمكن ترجمتها على أنها بلا شكل وخاوية.
التعبير “توهو” كثيرًا ما يوجد في العهد القديم؛ أما كلمة “بوهو” فقلما توجد في النص الكتابي، وحين توجد يتم ربطها بكلمة “توهو” لإضافة قيمة شعرية (أو قافية). وحين ننظر للترجمات المستخدمة حاليًا، نرى أنه من الممكن إضافة بعض التعديلات عليها. ففكرة “توهو” لا تعني “بلا شكل” بمعنى أنها كتلة بلا شكل ولكن بمعنى أنها بلا استخدام (وهذا ليس أمر غريب، حيث إن الخليقة بالنسبة للقدماء تعتمد على استخدام الشيء [وليس مجرد وجوده]. “توهو” تعني الخرابة بمعنى المكان غير المستخدم وغير المفيد [تنويه: يتحدث الكاتب هنا عن الترجمات الإنجليزية لا العربية – الترجمة العربية “خربة” تعد دقيقة إلى حد كبير]. لذا عبر النص الكتابي عن الصحراء بأنها “توهو” (تثنية 32: 10)، وكذلك الأصنام التي لم تفيد في شيء تعد “توهو” (1 صموئيل 12: 21)، فالله جعل أعدائه المهزومين تائهين في متاهة أو صحراء توصف بأنها “توهو” (راجع أيوب 12: 24). وحين خلق الله الأرض، لم يخلقها “توهو” بل خلقها لتكون آهلة بالسكان (إشعياء 45: 18). وحين حكم الله على يهوذا بالسبي البابلي، جعل الأرض “توهو وبوهو” مرة أخرى – لا ككتلة بلا شكل تحت المياه، بل في صحراء بمدن خربة وغير مؤهلة للسكن (إرميا 4: 23).
ووراء تلك الكلمات “توهو وبوهو” في العهد القديم، نرى أن الكلمة تفيد معنى الوظيفة والاستخدام والقيمة الاجتماعية. النص المقدس هنا يؤكد أن هذه الأشياء لم تكن موجودة [بالمعنى الوظيفي لا المعنى المادي] قبل أن يبدأ الله عمل الخليقة. ونحن نغفل هذه الحقيقة إن أضفنا للنص رؤيتنا المبنية على عصر الحداثة وبدأنا نفسر النص ليعني أن العالم كان في وقت ما غير موجود (كما نعرف نحن الوجود وعدم الوجود اليوم). النقطة هنا قائمة على الاستخدام – فبدون عمل الله، لم يكن هناك استخدام لأي شيء والحياة كما نعرفها كانت غير موجودة. فلا فرح ولا ضحك ولا بيع ولا شراء ولا زوجات ولا أطفال ولا زرع ولا حصاد. كل شيء خرب وبلا فائدة “توهو وبوهو”.
وطريقة أخرى لوصف هذه الحالة [أي خربة وخالية] هي كونها فوضى وهاوية وغمر وبحر، وفوق ذلك كان هناك ظلمة فوق وجه الغمر. هنا ونضطر لأن نتذكر أننا نقرأ نص قديم. فلو لم يخلق الله أي شيء بعد، فمن أين أتت هذه المياه؟ البعض يقولون أن الله خلق السموات والأرض ككتلة من المياه واليابسة غائصة في المياه في حالة من الفوضى البدائية وأن كل شيء كان مخلوقًا في حالة من ال”توهو وبوهو” أي خربة وخالية. ولكن الأسفار المقدسة مثل إشعياء 45: 18 تقر بشكل قاطع أن الله لم يخلق العالم في حالة خراب حيث إنه بالنسبة للقدماء، الخليقة والفوضى لا يتواجدا في آن واحد. بالإضافة إلى أن هذه الكلمات لا يمكن أن تصف عمل الله كخالق كونها قبل اليوم الأول حين قال “ليكن نور!” والكتاب يقر لنا أن كل شيء قد خُلق في الستة أيام (خروج 20: 11). لهذا لا يمكن أن يكون الله قد خلق السموات والأرض أو أي شيء قبل اليوم الأول.
في الحقيقة، فكرة أن كل شيء كان عبارة عن غمر بدائي وظلمة هو شيء مشترك بين كل ال”كوزمولوجيات” [أي وصف الخليقة] الخاص بالعالم القديم. وهنا ينبغي أن نتذكر مرة أخرى أن القدماء لم يسألوا أسئلة من نوعية ماذا جاء أولًا وكيف جاء؟. كان ما يهمهم هو استخدام هذه الأشياء. ولكن إن كان كل شيء عبارة عن غمر وظلمة، فلم يكن من الممكن أن يكون هناك عالم مرتب أو مجتمع. فالبحر والغمر إذن يعتبرا صورة مناسبة للفوضى، أو ال”توهو”.
نجد هذا على سبيل المثال في الآيات الافتتاحية لقصة الخليقة البابلية الخاصة بعظمة مردوك:
“حين لم يكن للسماء من فوق اسم بعد، ولا للأرض من تحت اسم تعرف به، حين كان “أبسو” البدائي من ولدهم [أي السماء والأرض]، كانت مامو وتيمات، هن من ولدا الكل، واختلطت مياههم الواحدة بالأخرى… في ذلك الوقت خُلقت الآلهة بينهم”
(إنوما إيليش، الأيات الافتتاحية لقصة الخلق البابلية)
في هذه الملحمة الطويلة، “أبسو” كان هو المياه العذبة البدائية وتيمات هو المياه المالحة و”مامو” هو الندى الصاعد منهما [أي من آبسو وتيمات]. قبل كون العالم، كان كل شيء بحر، أو مياه الغمر.
ونجد هذه الصورة في قصة خلق أخرى. هذه تبدأ بالآتي: “بيت مقدس، بيت الآلهة في مكان مقدس، لم يكن قد صُنع بعد، وقصبة لم تنبت بعد، وشجرة لم تخلق بعد، ولم توضع طوبة بعد… وكل الأرض كانت بحر“. فلم يفكر القدماء في أن الكلمات “على وجه الغمر ظلمة” أنها تعني المياه المخلوقة بل بالحري أنها هاوية (أو فراغ) سابق للخليقة، الغمر الساكن في الظلمة، في انتظار خلقة النور. الغمر المظلم كان يشير إلى الفوضى البدائية التي كان على الله أن ينتصر عليها.
أمام هذه الفوضى، بدأ الله عمله، فنرى أن روح الله كان يتحرك على وجه المياه. الكلمة العبرية “رواخ” يمكن أن تعني “رياح” أو “نفس” أو “روح” حسب سياقها. هذه المعاني كانت قائمة على ملاحظة أن الشخص الذي يتنفس هو شخص حي وبالتالي له روح. النفس/”رواخ” تعني أيضًا حركة الهواء، ليس فقط في البشر، بل أيضًا في الأرض كلها، في صورة رياح. ونرى هذا التعدد في المعاني للكلمة الواحدة في الكتاب المقدس على سبيل المثال في حزقيال 37: 8-10، التي يؤمر فيها النبي أن يطلب ال”رواخ” (أي الرياح) لتأتي من أربع زوايا الأرض لتحيي أجساد الموتى لتعطيهم نفس كي يمتلكوا روح وحياة. الأجساد كان لها لحم وعصب، لكن “لم يكن فيها رواخ”. فقال لي: “تنبأ ل”رواخ”، يا ابن ادم، وقل لل”رواخ”: هكذا قال السيد الرب: هلم أيها ال”رواخ” من الأربعة “رواخوث” (صيغة الجمع لـ”رواخ”) وهب على هؤلاء القتلى ليحيوا”. فتنبأت كما أمرني، فدخل فيهم ال”رواخ”، فحيوا وقاموا على أقدامهم”. كلمة “رواخ” هنا تعني كل هذه المعاني أي النفس، الرياح، والروح.
ونرى تعدد للمعاني بشكل مشابه في مزمور 104: 29 – 30: “تنزع “رواخ”هم منهم (تترجم عادةً نفسهم) من خليقته فتموت وإلى ترابها تعود. وترسل “رواخ”ك (تترجم هنا عادة “روح”) كرياح تجول في كل الأرض، فيخلقوا، وتجدد وجه الأرض”.
وهذا يوضح مدى الصعوبة في ترجمة كلمة “رواخ” باستخدام مرادف واحد لها، والمنفعة التي تعود علينا إذا تركناها بدون ترجمة [أي استخدمنا الكلمة العبرية]. “رواخ” الله هي حياته، وقوته التي يرسلها لتحيي خليقته وتعطيهم نفس. هذه ال”رواخ” معطية الحياة عينها أرسلها لتسير فوق الغمر البدائي المليء بالفوضى. جاءت فوق الغمر كرياح، مملؤة بقوة الله وقدرته وروحه. في وقت لاحق، بدأ المسيحيين في صياغتهم لعقيدة الثالوث بالربط بين “رواخ” والروح القدس، ثالث أقانيم الثالوث القدس. ولا يعد هذا خطأ، ولكنه لا ينبغي أن يؤثر على تفسيرنا ولا ينبغي أن نعيد قراءة النص الذي بين يدينا [على أساس هذا الربط]. النص هنا ببساطة يقول أن قوة الله، رياح خارجه منه، مملؤة بقدرته الفائقة وقوته خالقة الحياة، كانت تتحرك على وجه المياه (ونرى فيما بعد نفس ال”رواخ” الآتية من الله التي جعلت المياه تهدأ في تكوين 8: 1، وأيضًا في خروج 14: 21، حيث أجرى الرب ريح شرقية حركت مياه البحر الأحمر للخلف، سامحةً لبني إسرائيل بالعبور ليحيوا. ف”رواخ إلوهيم” كان حاضرًا حين خُلق العالم، وبعد الطوفان حيث إعادة الخليقة، وفي بدايات الشعب الإسرائيلي عند البحر الأحمر).
حركة “رواخ” الله المعطية الحياة توضح لنا التباين بينها وبين ال”توهو وبوهو”، أي حالة الأرض وهي بلا فائدة: على الرغم من أن الأرض كانت خربة وبدون فائدة، إلا أن ال”رواخ” كان يتحرك على وجه مياه الغمر البدائية مستعدًا للخلق وإحضار الترتيب، والفائدة، والجمال إلى الوجود. الكلمة التي عادة تترجم على أنها “ترف” استخدمت أيضًا في تثنية 32: 11 حيث تصف النسر الذي يحتضن أفراخه، وفي أرميا 23: 9، حيث تصف ارتعاش عظام النبي. هذه الصورة إذن هي صورة روح الله حيث يدور فوق المياه، يتحرك، ويحتضن، ويُحرك (أو يرعش) المياه مستعدًا للعمل. قد تكون الأرض في حالة “توهو وبوهو” إلا أن قوة الله كالرياح كانت على وشك تغيير كل هذا”.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
كاتب وباحث دكتوراه اللاهوت اﻷرثوذكسي بكلية الثالوث، تورونتو - بكالوريوس الدراسات الدينية، ماكماستر