منذ أيام، طالعتنا صفحة كنائس وسط القاهرة التابعة لنيافة الأنبا رفائيل، بتهنئة له بمناسبة مرور أربع وثلاثون عامًا في الرهبنة. استهلت الصفحة منشورها بكلمات للأنبا رفائيل عن الرهبنة ومذيلة باسمه عند نهايتها، وجاء في مطلعها:الرهبنة هي سر زيجة من نوع خاص جدا
أحب الأنبا رفائيل، لكني أحب الحقيقة أكثر. والرهبنة ليست سر زيجة خاص، بل حركات معادية للزواج والإثمار والإكثار، وأفكارها اللاهوتية تعصف فعليًا بقدسية سر الزيجة.
كنا قد تكلمنا مسبقًا عن سر الزيجة، وإنه ابتكار غربي [ﻻتيني/ كاثوليكي] في القرن الـ13 لمقاومة أفكار غنوصيّة (رهبانية) تحتقر الزواج وترى أن: “ممارسة العلاقة الزيجية لغير الإنجاب: خطئية مميتة”، فيمَا يعرف تاريخيًا باسم الولدينسيين. فالكنيسة عام 1254م حرمت الولدينسيين ﻻزدراء “الزواج”، ثم في القرن15 عقدت مجمع فلورنسا عام 1439م، ووقتها تم تعريف الزواج كـ”سر مقدس”.
تكلمنا عن الأصول الآبائية لتحقير الزواج، مثل الموجودة في أقوال القديس أيرونيموس جيروم، القديس أوغسطينوس، القديس يوحنا ذهبي الفم، وكيف تم تعزيزها في تعاليم قداسة البابا شنودة الثالث، وبالأخص كتاب: بتولية أم زواج، الذي قدم فيه الوضعين: البتولية والزواج، كحدثين متنافيين (وليس “سر زيجة خاص” كما يقول الأنبا رفائيل) كي يؤكد فيه إن المسيح منحاز للبتولية وهو الذي وطد دعائم البتولية، فقد كان بتولًا، ووُلد من أمٍ بتول، وهيأ له الطريق نبيّ بتول (يوحنا المعمدان)، والكتاب كله عمومًا يؤكد انحيازات البابا شنودة لتقديس البتولية على حساب الزواج.
تكلمنا أيضا عن تأثير هذه التعاليم في الخطاب الديني المعاصر، ذاكرين أمثلة من خطابات الأنبا بيسنتي، أسقف حلوان والمعصرة، الأنبا رفائيل، أسقف وسط القاهرة، المتنيح القمص صليب متى ساويرس، كاهن كنيسة مار جرجس الجيوشى بشبرا، وعضو المجلس الملي العام، الدياكون مينا أسعد كامل، مدرس اللاهوت بالكنيسة القبطية، ومؤسس رابطة حماة الإيمان القبطية الأرثوذكسية، ومؤلف كتاب عن “عادة النساء” من تقديم المتنيح الأنبا بيشوي، أسقف دمياط وكفر الشيخ الأسبق.
ويبدو أن الوضع المزري الحالي يحتاج مقالًا مستقلًا عن الرهبنة ونشأتها وتطورها، ومن أين جاءت وإلى أين هي ذاهبة! وباعتقادي عدم كتابتنا لمقالات تنتقد الرهبنة المصرية (التي تم تصديرها للعالم المسيحي بأسره) هو أنه ﻻ يوجد موقف موحد من المؤمنين المسيحيين تجاهها.
يرى أستاذنا كمال زاخر، (ومن قبله د. جورج حبيب بباوي، ومن قبلهم الأب الراهب متى المسكين) أن الرهبنة “حركة عَلمانية”، وهم بذلك يقصدون أنها حركات “غير كهنوتية”. بينما الجيل التالي من الليبراليين يختلف معهم في هذا التصوّر.
على سبيل المثال يرى د. روبرت بطرس أن أول ظهور تاريخي للرهبنة كان في الهند لجماعة avoiders [الاجتنابيون]، وعلى كون بحثة رائع ومنضبط لكنه يرتكز على الرهبنة الجماعية [الديرية] كعلاج اجتماعي لأمراض الاجتناب (الاكتئابية)، مع أنّ الرهبنة الفردية (التوحّدية) هي صورة متجردة لنفس الـavoider قبل تكوين المجتمع الديري (العلاجي)، وسابقة عليه. (شخصيًا أرى الرهبنة التوحدية هي “مرض نفسي” (أوتيزم) معادي لحياة الشركة المسيحية، وأن الرهبنة الديرية (الجماعية) هي مستشفى مسيحي لمحاولة علاجهم نفسيًا)
أيضًا أختلف مع أساتذتنا في كون الرهبنة “حركة عَلمانية” غير كهنوتية، لوجود رهبانيات مصرية قديمة ذات صلة بالأديان المصرية كرهبنة آمونيوس، علما بأن المقطع “يوس” هو النطق اليوناني للاسم: آمون، الإله المصري القديم، ومن غير المعقول أن يتسمى به فرد من عامة الشعب منافسًا الاسم الفرعوني الكهنوتي. بطريقة أخرى، “رهبنة آمونيوس” ﻻ تعني رهبان يقودهم راهب اسمه “آمونيوس” يتتلمذون على يديه، بل بالأغلب تعني “رهبان الإله آمون”.ومن ثم هي رهبانيات دينية [كهنوتية] مصرية من أساسها وأصولها قبل أن تعتمدها المسيحية في عصر البابا أثناسيوس الرسولي (وقبل هذا العصر، كان يُنظر للرهبان المتوحدين والآباء السواح على أنهم ناس مرضى “أوتيزم” (توحد) ويضربون “حياة الشركة” في مقتل، وفي بعض العصور كانوا ممنوعين من دخول الكنائس).
الخلاصة أن التاريخ قال كلمته في أن الرهبنة ليست سر زيجة من نوع خاص، وﻻ الأسقفية زواج بالإيبارشية. كل هذه الأقاويل تعتبر أوهام مخادعة أو نصب لغوي ومعنوي تتغذى عليه الأفكار اللا زيجية المعادية للزواج والجنس في المطلق من أجل أن تتسلل أفكارها الاكتئابية الاجتنابية إلى رأسك بشكل ناعم.
نحن نحب الزواج وﻻ نحب الرهبنة، لذلك، نحن اخترنا حياة الزواج ﻻ حياة الرهبنة. ومهما كانت الزيجات تعيسة لكن بالتأكيد المواجهة والتجربة وحتى الفشل والتعلم، أفضل من الاكتئاب والانعزال في الصحاري! أنا أسف للرهبان، لكن هذه قناعتنا الحقيقة، وأكتبها مغموسة بخبرات النجاح والفشل!
أيضا فكرة “الأسقف” ساحر القبيلة الذي يعرف كيف يعتني بها ويرعاها بتفرّغ تام، هي في الكتاب المقدس مشتقة من تجرِبة الزواج الحقيقي بامرأة حقيقية ونتج عنهم أولاد حقيقيين (ليس حتى زواجًا لا جنسيًا شكليًا، ولابد أن ينجبوا أطفال) ويكون هؤلاء الأطفال هم البروتوتايب (النموذج) الذي يجعلنا نستشرف أن الأسقف يصلح للأسقفية:
يدبر بيته حسنا، له أولاد في الخضوع بكل وقار. وإنما إن كان أحد لا يعرف أن يدبر بيته، فكيف يعتني بكنيسة الله؟(رسالة بولس الرسول الأولى إلى تيموثاوس 3: 3)
أيضًا كلام العهد القديم واضح عن زواج طبيعي جسدي مادي (جنسي) ﻻ روحنة غنوصية فيه:
وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم. فقال آدم: «هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي. هذه تدعى امرأة لأنها من امرئ أخذت». لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان جسدا واحدا. وكانا كلاهما عريانين، آدم وامرأته، وهما لا يخجلان.(سفر التكوين 2: 22-25)
أيضًا اقتباس المسيح من العهد القديم، الذي نقلته لنا الأناجيل:
من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته، ويكون الاثنان جسدا واحدا.(إنجيل متى 19: 5)
وأزاد عليه المسيح:
إذا ليسا بعد اثنين بل جسد واحد. فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان.(إنجيل متى 19: 6)
فهو أيضا جسدي صرف. فالنص يتحدث عن الالتصاق الجسدي في الجنس ويقول جسدا واحدًا
– بل جسد واحد
، ولا يتحدث عن اتحادات روحية من أي نوع.
ومن أقوى الأدلة على عدم وجود أي روحانيات في الزواج، أو أي التصاق جسدي في المطلق بين أي رجل وامرأة، هو القديس بولس الرسول، الذي استخدم نفس الاقتباس ونفس التعبير للإشارة إلى علاقة الزنا:
أم لستم تعلمون أن من التصق بزانية هو جسد واحد؟ لأنه يقول: «يكون الاثنان جسدا واحدا»(رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 6: 16)
بالتالي، فالزواج المسيحي معناه الزواج الطبيعي المشروع عند المسيحيين، ووجود الله في المسألة هو ليس وجود اتحاد أو تداخل مع العلاقة ذاتها وإنما هو معاينة وشهادة وتوثيق على حدوث علاقة جسدية بين أدم وحواء، أو رجل يزني بامرأة. كلاهما علاقات جسدية تمت تحت ضبط الله (لن أقول مباركته، لكن هو من جمع حتى الزاني بالزانية.. أنت ملكش دعوة بيهم وﻻ حتى تتدخل وﻻ تفرقهم)
والتفسير والرؤية للأمر بهذا الشكل ليس شخصًيًا، إنما هي رؤية “الضمير الإنساني” العام الذي بناءً عليه تكونت المادة 16 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان:
للرجل والمرأة، متى أدركا سنَّ البلوغ، حقُّ التزوُّج وتأسيس أسرة، دون أيِّ قيد بسبب العِرق أو الجنسية أو الدين(الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، المادة 16-أ)
دون قيد من الأهل؟ من المجتمع؟! طيب الدين مش عائق أو منظم للزواج؟!!!
نعم.. دون أي قيد من هذا الذي تعتقده “أمرا عرفيًا عامًا” لأن ما جمعه الله -حتى لو كان من وجهة نظرك: علاقة زنا- لا يجوز لك تفريقه.
بالطبع وجب التنويه أن هذه المادة قد قدمت المملكة العربية السُّعُودية تحفظًا عليها، ومن خلفها مصر، لمخالفتها الشريعة الإسلامية. لكن نحن نتكلم عن الشريعة المسيحية.
لذلك، وعودة للنص المؤسس في رسالة بولس الرسول، فمسألة الاعتقاد عزيزي المتزوج التعيس أو المتزوجة التعيسة أن الراهب يفهم في أمورك أكثر منك، هي اعتقاد فاسد بحكم الكتاب المقدس الذي قنن أنك أنت -من يخوض التجربة- إن نجحت فيها تكون مؤهلًا للأسقفية. ﻻ الراهب الهارب من تحمل مسؤولياته الصغيرة! وكيف لمن هرب من المسؤوليات الشخصية أن يعتني ويدبّر المسؤوليات العامة؟
علمانيون وُلدنا في العالم..
وعلمانيون نبقى ما بقينا في العالم..
لم نقل لغيرنا “الهرب من العالم هو هرب من صنيعة الله”!
فقط بقينا عندما جاءَ طوفان نوحْ..
بينما كان الجُبناءُ يفرّون نحو السَّفينهْ..
بينما كُنتُ..
كانَ شبابُ المدينة..
يلجمونَ جوادَ المياه الجَمُوحْ..
ينقلونَ المِياهَ على الكَتفين..
ويستبقونَ الزمنْ..
يبتنونَ سُدود الحجارةِ..
عَلَّهم يُنقذونَ مِهادَ الصِّبا والحضارة..
علَّهم يُنقذونَ.. الوطنْ!صاحَ بي سيدُ الفُلكِ قبل حُلولِ السَّكينهْ:
“انجِ من عالم.. لمْ تعدْ فيهِ روحْ!”قلتُ:
طوبى لمن طعِموا خُبزه..
في الزمانِ الحسنْ..
وأداروا له الظَّهرَ..
يوم المِحَن!
ولنا المجدُ نحنُ الذينَ وقَفْنا
[وقد طَمسَ اللهُ أسماءنا!]
نتحدى الدَّمارَ..
ونأوي الى جبلٍِ لا يموت..
[يسمونَه الشَّعب!]
نأبي النُزوحْ..
ونأبي الفرارَ..!كان قلبي الذي نَسجتْه الجروحْ..
كان قَلبي الذي لَعنتْه الشُروحْ..
يرقدُ الآن فوقَ بقايا المدينة..
وردةً من عَطنْ..
هادئاً..
بعد أن قالَ “لا” للسفينهْ..
.. وأحب الوطن!(أمل دنقل، قصيدة “مقابلة خاصة مع ابن نوح”)
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
نحاول تخمين اهتماماتك… ربما يهمك أن تقرأ أيضا:
- مجلس كنائس الشرق الأوسط والقضيّة الفلسطينية منذ أن تأسس مجلس كنائس الشرق الأوسط عام ١٩٧٤، وهو منشغل بالقضية الفلسطينية، ولا يكاد يخلو أي اجتماع من اجتماعاته من التعرض لهذه القضية، كما عقد المجلس على مدار نصف القرن من الزمان الكثير من المؤتمرات والندوات مطالبين بإقرار السلام القائم على العدل. منذ أسابيع، عقدت اللجنة التنفيذية لمجلس كنائس الشرق الأوسط اجتماعها الدوري في......